“بيروتشيما”… مَسيرَةُ العَدالةِ المُعطَّلَةِ في انفجارِ ٤ آب


في تَمامِ السّاعَةِ ١٨:٠٨ مِن مساءِ الرّابعِ مِن آب (أغسطس) ٢٠٢٠، لم تَهتزَّ أَرضُ بيروتَ فَحسب، بل اهتزّت مَعها أُسُسُ العَدالةِ والمُساءَلَةِ في لبنان. الانفِجارُ الذي أُطلِقَ عليهِ اللّبنانيّونَ “بيروتشيما” تيمُّنًا بانفجارِ هيروشيما النوويّ، لم يَكن مُجرّدَ كارِثَةٍ طبيعيةٍ أو حادثٍ عابرٍ، بل كان تَجسيدًا مَأسويًّا لِعُقودٍ من الفَسادِ والإهمالِ والإفلاتِ من العِقابِ التي طبعت النِّظامَ السّياسيَّ اللّبنانيَّ
بَعدَ خَمسِ سَنواتٍ من الانفجارِ الذي قَتَلَ ٢١٨ شَخصًا وجَرَحَ أَكثَرَ مِن ٧٠٠٠ آخَرينَ، وشَرَّدَ أَكثَرَ مِن ٣٠٠ أَلْفِ مُواطِنٍ، وتَسَبَّبَ بِأَضرارٍ مَاديّةٍ تُقدَّرُ بِـ ٤.٦ مِليارِ دُولار، لا تَزال العَدالةُ تَراوحُ مَكانَها في مَتاهةٍ مِن التَّعقيداتِ السّياسيةِ والقانونيةِ. لَكنّ العَامَ ٢٠٢٥ شَهِدَ تَطوُّرًا قَد يُغَيِّرُ مَجرى الأَحداثِ: استِئنافُ التّحقيقاتِ القضائيّةِ بَعدَ تَوقُّفٍ دامَ عامَينِ، في ظِلِّ تَغييراتٍ سياسيّةٍ جذريةٍ شَهِدها لبنان.
تشريحُ الكارثة
لِفَهمِ حَجمِ الإهمالِ الذي أَدّى إلى كارِثةِ ٤ آب، يَجِبُ العَودةُ إلى نوفمبر ٢٠١٣، عندما وَصلت السَّفينةُ “إم في روسوس” (MV Rhosus) التي تَحمِلُ عَلمَ مُولدوفا إلى مَرفأ بيروت حامِلةً شُحنةً مِن ٢٧٥٠ طُنًّا من نتراتِ الأَمونِيوم. هذه المادّةُ الكيميائيّةُ، التي تُستخدَمُ عادَةً كَسَمادٍ زِراعيٍّ وَلَكِنَّها قابِلَةٌ للانفجارِ في ظُروفٍ مُعيَّنة، كانت مُخصَّصةً نَظريًّا لموزمبيق، لكنَّ الأدِلّةَ تَشيرُ إلى أنَّ بيروتَ قد تَكونُ الوَجهةَ الحَقيقيّةَ مُنذُ البِدايةِ.
في أكتوبر ٢٠١٤، تَمَّ تَفريغُ الشُحنةِ وتَخزينُها في المُستودَعِ رَقْم ١٢ في مَرفأ بيروت، في ظُروفِ تَخزينٍ تُخالِفُ جَميعَ المَعاييرِ الدّوليةِ لِلسَّلامةِ. وَفقًا لِتقريرِ هيومن رايتس ووتش الصّادرِ في أغسطس ٢٠٢١، فإنَّ المَسؤولينَ في وَزارَتي المالِيةِ والأشغالِ العامةِ والنقلِ “فَشلوا في التَّواصُلِ بِشَكلٍ صحيحٍ أو التّحقيقِ بِشَكلٍ كافٍ مِن الطَّبيعةِ المُتفجِّرةِ والقابِلةِ للاشتِعالِ لِشُحنةِ السَّفينةِ، والخَطرِ الذي تُشكِّلهِ”.
عندما تُصبِحُ المَعرِفةُ جريمةً
ما يَجعَلُ هذهِ الكارثةَ أَكثَرَ إيلامًا هو أنَّ العَديدَ مِن كبارِ المَسؤولينَ اللّبنانيينَ كانوا على عِلمٍ بِوُجودِ هذه المَوادّ الخطِرةِ ومَخاطِرِها المُحتَمَلةِ. وَفقًا للوثائِقِ الرَّسميةِ فإنَّ قائِمةَ المُطلِعينَ تَشمَلُ شَخصياتٍ في أَعلى هَرَمِ السّلطةِ اللّبنانيةِ:
الرّئيس ميشال عون
رئيسُ الوُزراءِ السّابق حَسّان دياب
مديرُ عامّ أمن الدّولةِ اللواء طوني صليبا
قائدُ الجيشِ السّابق العماد جان قهوجي
وزيرُ الماليّةِ السّابق علي حسن خليل
وزيرُ الأشغالِ السّابق غازي زعيتر
وزيرُ الأشغالِ السّابق يوسف فنيانوس
هؤلاءِ المَسؤولونَ، وَفقًا للأدلّةِ المُتاحةِ، “كانوا مُطلِعينَ على المَخاطِرِ التي تُشكِّلها نتراتُ الأَمونيوم وفَشلوا في اتّخاذِ الإجراءَاتِ اللاّزِمةِ لِحِمايةِ الجمهورِ”. هذا الفَشلُ لا يَقتَصِرُ على الإهمالِ البسيطِ، بل يَرقى، حَسبَ التّقييمِ القانونيِّ لِهيومن رايتس ووتش، إلى مَستوى “الإهمالِ الجِنائيِّ” وربّما “القَتلِ بالقَصدِ المُحتَمَلِ”.
خمسُ سنواتٍ من التعطيل
في السّاعاتِ الأولى التي تَلَتِ الانفِجارَ، بَدَتِ الاستجابةُ الرّسميّةُ اللّبنانيّةُ سريعةً وحازمةً.
في ٦ أغسطس ٢٠٢٠، بَدَأتِ الاعتقالاتُ الأولى لمسؤولين في المرفأ وموظفين آخرين بتُهم الإهمال والتقصير في أمن الدولة. هذه الخطواتُ الأوليّةُ أعطت انطباعًا بأنّ السلطاتِ اللّبنانيّةَ جادّةٌ في كشف الحقيقة ومحاسبة المسؤولين، لكنّ هذا الانطباعَ سرعان ما تبدّد مع مرور الوقت.
في ديسمبر ٢٠٢٠، تولّى القاضي فادي صوان ملفّ التّحقيق في انفجار المرفأ، وبدأ بخطواتٍ جريئةٍ لمحاسبة كبار المسؤولين. في نوفمبر ٢٠٢٠، وجّه صوان اتهاماتٍ رسميّةً لرئيس الوزراء السابق حسان دياب ووزراء سابقين بتهمة الإهمال والتسبب في الوفيات. كانت هذه المرة الأولى في تاريخ لبنان الحديث التي يتم فيها توجيه اتهاماتٍ جنائيّةٍ لرئيس وزراءٍ في منصبه.
لكن محاولة صوان لكسر حاجز الحصانة السياسية واجهت مقاومةً شرسةً. رفض دياب والوزراء المتهمون الحضور للاستجواب، محتجين بعدم دستورية الإجراءات وادعاء التحيز السياسي. الأهم من ذلك، أن النظام السياسي اللبناني بدأ يحرك آلياته لحماية نفسه من المساءلة.
في فبراير ٢٠٢١، تم عزل القاضي صوان من القضية بناءً على طلب من وزيرين سابقين متهمين، علي حسن خليل وغازي زعيتر، اللذين ادّعيا أن صوان متحيز ضدهما لأنه كان قد حقق معهما في قضايا أخرى. أثار هذا القرار غضبًا شعبيًا واسعًا، حيث اعتبره كثيرون محاولة لإجهاض التحقيق وحماية المسؤولين الفاسدين.
طارق بيطار ومعركة الإرادات
في فبراير ٢٠٢١، تولّى القاضي طارق بيطار ملفّ التحقيق، وسرعان ما أثبت أنه أكثر إصرارًا وجرأةً من سلفه. بيطار، الذي وُصف لاحقًا بـ”الفارس الأبيض”، استأنف التحقيقات بقوة وبدأ في استدعاء كبار المسؤولين للاستجواب، بما في ذلك شخصيات لم يجرؤ أحد على المساس بها من قبل.
في مايو ٢٠٢١، استدعى بيطار مدير عام أمن الدولة اللواء طوني صليبا للاستجواب، وهو أول مسؤول أمني رفيع المستوى يتم استدعاؤه في القضية. كما وجّه اتهاماتٍ لقاضي التحقيق الأول في جبل لبنان غسان عويدات، الذي كان قد أفرج عن جميع المعتقلين في قضية الانفجار.
لكن الخطوة الأكثر جرأة كانت في يوليو ٢٠٢١، عندما طلب بيطار رفع الحصانة عن النائب السابق ووزير المالية الأسبق علي حسن خليل والنائب السابق ووزير الأشغال الأسبق غازي زعيتر لاستجوابهما. أثار هذا الطلب عاصفةً سياسيةً، حيث رفض البرلمان اللبناني رفع الحصانة، مما وضع التحقيق في مأزقٍ قانونيّ.
في أكتوبر ٢٠٢١، دخل حزب الله بقوة على خط التحقيق عندما هاجم أمينه العام السابق حسن نصر الله القاضي بيطار علنًا، واتهمه بالتحيز السياسي وطالب بإقالته. كان هذا التدخل المباشر من أقوى قوةٍ عسكريةٍ وسياسيةٍ في لبنان بمثابة تهديدٍ واضحٍ للقاضي وللتحقيق برمّته.
التعطيل الكامل
تصاعد الضغطُ على القاضي بيطار من جهاتٍ متعددة. رُفعت ضده دعاوى قضائية من قبل سياسيين متهمين، وتم الطعن في قراراته أمام محاكم مختلفة، واستُخدمت ادعاءات الحصانة البرلمانية لمنع استجواب المسؤولين. في ديسمبر ٢٠٢١، توقّف التحقيق عمليًا بعد أن منعت محكمة الاستئناف في بيروت بيطار من متابعة التحقيق بناءً على شكوى من أحد المتهمين.
هذا التوقّف استمرّ لمدة عامين كاملين، من ديسمبر ٢٠٢١ إلى يناير ٢٠٢٥، في ما اعتبره مراقبون انتصارًا لقوى الفساد والإفلات من العقاب على حساب العدالة وحقوق الضحايا. خلال هذه الفترة، حاول بيطار مرةً واحدةً استئناف التحقيق في يناير ٢٠٢٣، لكن المدعي العام غسان عويدات، الذي كان متهماً في القضية نفسها، أحبط هذه المحاولة.
مع تعطل التحقيق المحلي، لجأت عائلات الضحايا إلى المحافل الدولية طلبًا للعدالة. في ٢٠٢٣، فتحت عدة دول، بما في ذلك فرنسا وألمانيا، تحقيقات في وفاة مواطنيها في الانفجار. كما عبرت ٣٨ دولة في مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة، بالإضافة إلى الاتحاد الأوروبي، عن قلقها من فشل لبنان في إجراء تحقيق موثوق، مع اقتراح بعض النقاد فرض عقوبات مستهدفة ضد أولئك الذين يعرقلون العدالة.
خمسُ سنواتٍ من الإحباط
بحلول نهاية عام ٢٠٢٤، كان التحقيق في انفجار مرفأ بيروت قد أصبح رمزًا لفشل النظام القضائي اللبناني وهيمنة السياسة على العدالة. رغم وجود أدلة دامغة على إهمال وتقصير كبار المسؤولين، ورغم وضوح سلسلة الأخطاء التي أدت إلى الكارثة، لم يتم محاكمة أي مسؤول رفيع المستوى أو إصدار أحكام نهائية في القضية.
هذا الفشل في تحقيق العدالة لم يكن مجرد إخفاق قضائي، بل كان انعكاسًا لأزمة أعمق في النظام السياسي اللبناني، الذي بُني على أسس المحاصصة الطائفية والإفلات من العقاب منذ انتهاء الحرب الأهلية عام ١٩٩٠. قانون العفو الذي أنهى الحرب الأهلية عفا عن مرتكبي جرائم الحرب، وكثير من المعفو عنهم أصبحوا قادة لبنان في فترة ما بعد الحرب، مما رسخ ثقافة الإفلات من العقاب.
لكن عام ٢٠٢٥ جلب معه تطورات قد تغير مجرى الأحداث جذريًا، وتفتح نافذة أمل جديدة للعدالة في لبنان.
نافذة الأمل الجديدة
بدأ العام ٢٠٢٥ بتطورات سياسية جذرية في لبنان غيرت المشهد السياسي بشكل كامل. في ٩ يناير ٢٠٢٥، انتُخب جوزف عون رئيسًا للجمهورية اللبنانية، وفي خطابه الأول أمام البرلمان تعهّد بأنه “لن يكون هناك تدخل في عمل القضاء” وأكد أنه “لا حصانات للمجرمين أو الفاسدين”.
التغيير السياسي في لبنان لم يحدث في فراغ، بل كان نتيجة لتطورات إقليمية مهمة، أبرزها الحرب المدمرة التي خاضها حزب الله ضد إسرائيل في أواخر ٢٠٢٤. هذه الحرب أضعفت حزب الله بشكل كبير، عسكريًا وسياسيًا وماليًا، مما قلل من قدرته على التدخل في الشؤون الداخلية اللبنانية والتأثير على مجرى العدالة.
هذا الإضعاف لحزب الله، الذي كان القوة الأكثر نفوذًا في لبنان والأكثر معارضة لتحقيق العدالة في قضية انفجار المرفأ، فتح المجال أمام قوى سياسية أخرى للعمل بحرية أكبر. كما أن الضغط الدولي المتزايد على لبنان، خاصة من فرنسا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، لعب دورًا في دفع النخبة السياسية الجديدة نحو تبني موقف أكثر جدية من قضية العدالة.
في ١٦ يناير ٢٠٢٥، وبعد يومين فقط من تكليف نواف سلام بتشكيل الحكومة، فاجأ القاضي طارق بيطار الجميع باستئناف التحقيق في قضية انفجار المرفأ بعد توقف دام عامين. هذا الاستئناف لم يكن مجرد إعلان، بل ترجم فورًا إلى إجراءات عملية.
في نفس اليوم، استدعى بيطار ١٠ موظفين ومسؤولين أمنيين إضافيين للاستجواب، بما في ذلك مسؤولون أمنيون كبار لهم صلات مفترضة بحزب الله المدعوم من إيران. كانت هذه الخطوة جريئة بشكل خاص، نظرًا لأن استهداف أشخاص مرتبطين بحزب الله كان من المحرمات في النظام السياسي اللبناني السابق.
التوقيتُ والتحديات
وفقًا لمصادر مطلعة، يُتوقَّع أن يصدر القاضي بيطار لائحة الاتهام النهائية في أغسطس الجاري، والتي ستصادف الذكرى الخامسة لانفجار المرفأ. هذا التوقيت له دلالة رمزية قوية، حيث سيكون بمثابة هدية للضحايا وعائلاتهم في ذكرى الكارثة.
لائحة الاتهام النهائية متوقعة أن تشمل تفاصيل شاملة عن سلسلة الإهمال والتقصير التي أدت إلى الانفجار، وتحديد المسؤوليات الفردية لكل متهم، وتوصيات بالعقوبات المناسبة. كما أنها ستكون اختبارًا حقيقيًا لجدية النظام السياسي الجديد في لبنان في تطبيق العدالة.
على الرغم من التطورات الإيجابية، لا تزال هناك تحديات كبيرة تواجه التحقيق. المقاومة السياسية لم تختف تمامًا، وهناك مخاوف من أن الفاعلين السياسيين قد يلجأون إلى “التكتيكات المألوفة” لإفشال القضية، بما في ذلك العوائق القانونية وإعادة الترتيبات الإدارية والتهديدات المباشرة.
كما أن ضعف النظام القضائي اللبناني، الذي تراكم عبر عقود من الإهمال والتدخل السياسي، لا يزال يشكل تحديًا. العديد من القضاة اللبنانيين محبطون ومحرومون من الموارد اللازمة، والثقة العامة في القضاء في أدنى مستوياتها.
التطورات في عام ٢٠٢٥ تبعث على أمل حذر بأن العدالة قد تتحقق أخيرًا لضحايا انفجار مرفأ بيروت.
استئناف التحقيق، والدعم الحكومي الواضح، وإضعاف القوى التي كانت تعرقل العدالة، كلها عوامل إيجابية تشير إلى إمكانية تحقيق تقدم حقيقي.
لكن هذا الأمل يبقى حذرًا، نظرًا للتاريخ الطويل من الإفلات من العقاب في لبنان والتحديات الهيكلية التي لا تزال قائمة. النجاح الحقيقي للتحقيق سيُقاس ليس فقط بإصدار لوائح الاتهام، بل بالقدرة على محاكمة المتهمين فعليًا وإصدار أحكام نهائية عادلة.
كما أن تحقيق العدالة في قضية انفجار المرفأ سيكون اختبارًا لقدرة لبنان على كسر دورة الإفلات من العقاب التي طبعت تاريخه منذ عقود، وبناء نظام عدالة حقيقي قادر على حماية حقوق المواطنين ومحاسبة المسؤولين مهما علت مناصبهم.
التوقعات الأكثر واقعية: سيناريو مختلط
بناءً على تحليل العوامل المختلفة والسياق اللبناني المعقد، يبدو أن السيناريو الأكثر واقعية هو سيناريو مختلط يجمع بين ثلاثة سيناريوهات:
نجاح جزئي في المحاسبة: محاكمة ومعاقبة مسؤولين من المستويات الوسطى والدنيا، مع صعوبة في الوصول إلى أعلى المستويات السياسية.
تحقيق تقدم مهم لكن غير كامل: إصدار لوائح اتهام شاملة وبدء محاكمات، لكن مع احتمالية هروب بعض المتهمين أو حصولهم على أحكام مخففة.
تأسيس سابقة مهمة: حتى لو لم تتحقق العدالة الكاملة، فإن مجرد وصول التحقيق إلى مراحل متقدمة سيكون سابقة مهمة في تاريخ لبنان.
تحسّن تدريجي في النظام القضائي: بداية عملية إصلاح تدريجية للقضاء، حتى لو لم تكن شاملة.

الانفجارُ الذي غيَّر وجهَ لبنان
بعد خمس سنوات من الانفجار، لا تزال الجراح الإنسانية مفتوحة في قلوب اللبنانيين. القصص الإنسانية التي تحكي عن معاناة مستمرة: "نساء ورجال لم يُضطرّوا يومًا إلى طَلَبِ المساعَدة، ولكن باتوا الآن يعيشون ويَعتَمِدون على المُساعدات... عائلات دُمّرت مَنازِلُها بالكامل وتَدَمّرَ معها مستقبلُها وآمالُها... أطفال فَقَدوا الشّعورَ بالأمانِ في أحيائِهم التي طالما كانت بيئتَهُمُ الحاضِنة والآمِنة". وقع الانفجار في وقت كان فيه لبنان يعاني أصلاً من أزمة اقتصادية خانقة، وصفها البنك الدولي بأنها "انهيار متعمد" نفذته النخبة الحاكمة. الكارثة أضافت طبقة جديدة من المعاناة على اقتصاد كان يحتضر أصلاً. هذا التدمير للبنية التحتية الغذائية جعل لبنان أكثر اعتمادًا على الاستيراد في وقت كانت فيه العملة الوطنية تنهار. ٥٦% من الشركات الخاصة في بيروت تضررت من الانفجار، مما أدى إلى فقدان آلاف الوظائف في وقت كانت فيه البطالة ترتفع أصلاً. العديد من رجال الأعمال فقدوا منشآتهم وعجزوا عن البدء من جديد بسبب انعدام الوصول إلى مدخراتهم في المصارف التي فرضت قيودًا صارمة على السحب. قدر البنك الدولي إجمالي الأضرار المادية بـ ٣.٨–٤.٦ مليار دولار، وهو مبلغ ضخم بالنسبة لاقتصاد منهار. كشف الانفجار عمق أزمة الخدمات العامة في لبنان. ١٦٣ مدرسة حكومية وخاصة تضررت، ونصف مراكز الرعاية الصحية في بيروت خرجت عن الخدمة. هذا التدمير للبنية التحتية التعليمية والصحية جاء في وقت كان فيه لبنان يواجه أصلاً أزمة في هذين القطاعين الحيويين. ٨٠,٠٠٠ طفل أصبحوا بلا مأوى، و١,٠٠٠ طفل جريح، و٣١ طفلًا تم إدخالهم المستشفى. هؤلاء الأطفال لم يفقدوا منازلهم فحسب، بل فقدوا أيضًا إمكانية الوصول إلى التعليم الجيد. العديد من المدارس المتضررة لم تتمكن من إعادة فتح أبوابها بسبب نقص التمويل، مما زاد من أزمة التعليم في البلاد. خروج نصف مراكز الرعاية الصحية في بيروت عن الخدمة جاء في وقت حرج، حيث كان لبنان يواجه جائحة كوفيد-١٩. أدى هذا الانهيار في النظام الصحي إلى تدهور الخدمات الطبية وزيادة معدلات الوفيات من أمراض أخرى غير مرتبطة بالانفجار. كان الانفجار بمثابة "جرس إنذار" كما وصفته الأمم المتحدة، لكنه كان أيضًا ضربة قاضية لشرعية النظام السياسي اللبناني. الكارثة كشفت بوضوح فداحة الفساد والإهمال في أعلى مستويات الدولة، مما أدى إلى تآكل الثقة الشعبية في المؤسسات الرسمية. لم يدمر الانفجار المباني فحسب، بل ساهم أيضًا في تفكك النسيج الاجتماعي اللبناني. الأزمة الاقتصادية المتفاقمة، والفشل في تحقيق العدالة، وتدهور الخدمات العامة، كلها عوامل أدت إلى تزايد التوترات الاجتماعية والطائفية وبروز موجات هجرة كثيفة خارج البلد. كما أدت الأزمة الاقتصادية المتفاقمة بعد الانفجار إلى تزايد معدلات الفقر بشكل دراماتيكي. البنك الدولي قدر أن أكثر من ٨٠% من اللبنانيين يعيشون تحت خط الفقر. هذا الفقر المدقع أدى إلى تدهور الأوضاع الاجتماعية وتزايد الجريمة والعنف. لم يكن الانفجار مجرد كارثة إنسانية واقتصادية، بل كان أيضًا كارثة بيئية بامتياز. انبعاث غاز الأمونيا وأكاسيد النيتروجين الضارة بالبيئة والجهاز التنفسي خلق مشاكل صحية طويلة المدى. كما أن ٨٠٠,٠٠٠ طن من نفايات البناء والهدم التي تحتوي على مواد كيميائية خطرة تشكل تهديدًا مستمرًا للبيئة والصحة العامة. ربما يكون التأثير الأعمق للانفجار هو تأثيره على الهوية الوطنية اللبنانية. الكارثة، والفشل في تحقيق العدالة، وتدهور الأوضاع العامة، كلها عوامل أدت إلى تزايد الشكوك حول جدوى الكيان اللبناني نفسه.
