“الثلاثاء الأحمر”… يومٌ مجيدٌ ؟


في قلب بيروت، وتحديداً في القصر الجمهوري في بعبدا، ستشهد جلسة مجلس الوزراء المقررة اليوم الثلاثاء لحظة تاريخية قد تعيد تشكيل المشهد السياسي اللبناني والإقليمي برمته. للمرة الأولى منذ تأسيس حزب الله في ثمانينيات القرن الماضي، ستناقش الحكومة اللبنانية رسمياً وعلنياً موضوع “حصرية السلاح بيد الدولة”، في خطوة تمثل تحدياً مباشراً لأقوى فصيل مسلح في البلاد
أتي هذه الجلسة تحت ضغوط دولية وإقليمية غير مسبوقة، وتطرح أسئلة جوهرية حول مستقبل لبنان ودوره في المنطقة. فهل ستنجح الدولة اللبنانية في استعادة احتكار السلاح الذي فقدته منذ عقود؟ وما هي التداعيات المحتملة لهذه الخطوة على الاستقرار الداخلي والتوازنات الإقليمية؟
بحسب المعطيات المتوفرة، فإن هذه الجلسة ليست مجرد اجتماع روتيني، بل هي نقطة تحول حقيقية في مسار الدولة اللبنانية. فبعد سنوات من التجاهل أو التأجيل، يبدو أن الظروف الداخلية والخارجية قد تضافرت لتضع ملف سلاح حزب الله كأولوية، مما يجعل من هذا الاستحقاق اختباراً حقيقياً لقدرة النظام السياسي اللبناني على اتخاذ قرارات مصيرية.
عودة إلى الوراء
لفهم الأزمة الحالية، لا بد من العودة إلى جذورها التاريخية التي تمتد إلى فترة الحرب الأهلية اللبنانية (1975-1990). خلال تلك الحقبة، تفككت الدولة عملياً، وبرزت ميليشيات مسلحة متعددة. في هذا السياق، وُلد حزب الله عام 1985 كحركة مقاومة شيعية ضد الاحتلال الإسرائيلي للجنوب اللبناني، مستفيداً من الدعم الإيراني والسوري.
اتفاق الطائف، الذي وُقع عام 1989، نص بوضوح على ضرورة حل الميليشيات وتسليم أسلحتها للدولة، مع استثناء مهم: المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي. هذا الاستثناء خلق منطقة رمادية استغلها حزب الله لتبرير احتفاظه بسلاحه حتى بعد الانسحاب الإسرائيلي عام 2000.
بعد حرب تموز 2006، أصدر مجلس الأمن الدولي القرار 1701، الذي دعا إلى “نزع سلاح كل الجماعات المسلحة في لبنان، حتى لا تكون هناك أي أسلحة أو سلطة في لبنان عدا ما يخص الدولة اللبنانية”. لكن تطبيق هذا القرار واجه عقبات، أبرزها رفض حزب الله تسليم سلاحه وعجز الدولة عن فرض سلطتها.
تحديات قانونية وسياسية
ضغوط دولية وتغيير في الاستراتيجية
تغيير في المعادلة الداخلية
على الصعيد الداخلي، يشهد المشهد السياسي تغييرات مهمة:
فقدان الثلث المعطل: لم يعد بإمكان حزب الله وحلفائه عرقلة قرارات الحكومة.
الإجماع الرئاسي-الحكومي: هناك توافق نادر بين رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء حول ضرورة حصرية السلاح.
الضغط الشعبي: تتزايد الأصوات المطالبة بحصرية السلاح في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة.
في مواجهة هذه الضغوط، يتبنى حزب الله استراتيجية تجمع بين الرفض القاطع والمناورة السياسية، مؤكداً أن سلاحه موجه لمواجهة إسرائيل فقط.
سيناريوهات محتملة
تسود أجواء من الترقب والتوتر، وتتنوع التوقعات حول مخرجات الجلسة بين عدة سيناريوهات:
السيناريو الأول (الأكثر احتمالاً): الإقرار المبدئي مع الإحالة. يتضمن هذا السيناريو إقرار مبدأ حصرية السلاح وإحالة الملف إلى المجلس الأعلى للدفاع لوضع برنامج زمني للتنفيذ، مما يرضي الضغوط الدولية ويتجنب المواجهة المباشرة.
السيناريو الثاني: القرار الحاسم بجدول زمني. وهو قرار يمثل استجابة كاملة للمطالب الدولية، لكنه يحمل مخاطر مواجهة مباشرة مع حزب الله وزعزعة الاستقرار الداخلي.
السيناريو الثالث (الأسوأ): التأجيل أو الفشل. سيؤدي هذا السيناريو إلى فقدان الثقة الدولية وتعميق الأزمة السياسية والاقتصادية.
تحديات التنفيذ وإعادة تشكيل الخريطة الجيوسياسية
حتى لو اتُخذ القرار، فإن تنفيذه يواجه تحديات عملية، أبرزها تفوق القدرة العسكرية لحزب الله على الجيش اللبناني، والتعقيدات الجغرافية، وتداخل الحزب مع مؤسسات الدولة.
إن نزع سلاح حزب الله، إذا تحقق، سيكون له تأثير عميق على “محور المقاومة” الذي تقوده إيران، وسيضعف موقعها الاستراتيجي. بالنسبة لإسرائيل، سيمثل ذلك فرصة نادرة لتحقيق أمنها على الحدود الشمالية. أما عربياً، فسيعزز هذا التطور موقع السعودية ويقلل من النفوذ الإيراني.

تغيير في المعادلة
على الصعيد الداخلي، تشهد المعادلة السياسية اللبنانية تغييرات مهمة تصب في اتجاه الضغط على حزب الله. أبرز هذه التغييرات:
أولاً، فقدان الثلث المعطل: فقد حزب الله وحلفاؤه “الثلث المعطل” داخل الحكومة، مما يعني أن القرارات الحكومية يمكن أن تمر دون موافقتهم الكاملة. هذا التغيير في التوازن السياسي يقلل من قدرة الحزب على عرقلة القرارات التي لا تناسبه.
ثانياً، الإجماع الرئاسي-الحكومي: يشهد لبنان حالة نادرة من التوافق بين رئيس الجمهورية جوزيف عون ورئيس الوزراء نواف سلام حول ضرورة حصرية السلاح. هذا التوافق يخلق زخماً سياسياً قوياً لدفع هذا الملف.
ثالثاً، الضغط الشعبي: تتزايد الأصوات الشعبية المطالبة بحصرية السلاح، خاصة في ظل الأزمة الاقتصادية الخانقة والحاجة للدعم الدولي. كثير من اللبنانيين يرون في نزع السلاح شرطاً ضرورياً لاستعادة الثقة الدولية والحصول على المساعدات.
التهديد والفُرصة
تُعدّ إسرائيل حزبَ الله التهديدَ الأمنيَّ الأكبر على حدودها الشمالية، وتتعامل مع ملف نزع السلاح من منظور أمنيٍّ بحت. الموقف الإسرائيلي واضحٌ ومباشر: نزع سلاح حزب الله هو شرطٌ أساسيٌّ لأيّ تطبيعٍ في العلاقات مع لبنان، ولأيّ دعمٍ دوليٍّ للبلاد.
لا تبني إسرائيل سياساتها على انتظار التنازلات اللبنانية، بل “تستثمر بقاء السلاح كذريعةٍ للضغط والضربات”. وهذا يعني أنّ إسرائيل تستخدم ملف السلاح كأداةِ ضغطٍ مستمرة، مع التلويح بالعمل العسكريّ في حال عدم تحقيق تقدُّم.
ويكمن التحدّي الإسرائيلي في عدم تقديم ضماناتٍ واضحةٍ بعدم الاعتداء على لبنان في حال نُزِع السلاح. هذا الغموض يُغذّي مخاوف اللبنانيين من أن يؤدّي نزعُ السلاح إلى ترك البلاد عرضةً للعدوان الإسرائيلي دون وسائل دفاعٍ كافية.
المقاومة والمُناورة
تقف إيران، الداعمُ الرئيسيّ لحزب الله، في الطرف المقابل من معادلة الضغوط. الموقف الإيراني واضح: رفضُ أيّ تنازلاتٍ بشأن سلاح حزب الله، اعتباراً لدوره في “محور المقاومة” ضدّ إسرائيل والنفوذ الأمريكي في المنطقة.
تشير التحليلات إلى أنّ “إيران لم تُعطِ موافقتها لتسليم سلاح حزب الله”، وأنّها “تسعى للحفاظ على مصالحها في لبنان عبر الضغط على نبيه برّي”. هذا الموقف الإيراني يضع حزب الله في موقفٍ صعب، إذ يواجه ضغوطاً متزايدة من جهة، ومقاومةً من حليفه الاستراتيجي من جهةٍ أخرى.
وتعتبر إيران أنّ سلاح حزب الله جزءٌ لا يتجزّأ من استراتيجيتها الإقليمية في مواجهة إسرائيل، وأنّ أيّ تنازلٍ في هذا المجال يُضعف موقعَها الاستراتيجي. وتسعى طهران إلى استخدام النفوذ السياسي لحزب الله وحلفائه لعرقلة أيّ قراراتٍ حكومية تتعلق بنزع السلاح.
وتُلوّح إيران بعواقب وخيمة في حال أُجبر حزب الله على تسليم سلاحه، بما يشمل زعزعةَ الاستقرار الداخلي اللبناني.
