صيدا تلتهمها النيران والمسؤولون يتبادلون الاتهام


لليوم الثالث على التوالي، تتصاعد ألسنة اللهب والدخان الأسود من جبال النفايات المتراكمة حول ما يُسمى “معمل معالجة النفايات” في صيدا، في مشهد يذكّر بأفلام الرعب البيئي. الحريق الذي اندلع يوم الاثنين 11 آب 2025 لم يكن مجرد حادث عابر، بل كشف عن فضيحة مدوية تجمع بين الفساد المالي والإهمال البيئي والتلاعب الإداري
المشهد المأساوي الذي يشهده أهالي صيدا ليس جديداً، فالحرائق “الدورية” باتت جزءاً من المشهد اليومي للمدينة التي تحتضر تحت وطأة جبال النفايات المتراكمة. لكن هذه المرة، الأصوات ارتفعت والاتهامات تطايرت، والأهم من ذلك كله، انكشفت خيوط لعبة مالية قذرة تُمارس على حساب صحة المواطنين وبيئة المدينة العريقة.
طوارئ بيئية واستجابة متواضعة
عندما اندلع الحريق الكبير يوم الاثنين، لم تكن الاستجابة بمستوى الكارثة. سيارة إطفاء واحدة فقط من بلدية صيدا شاركت في عمليات الإطفاء، إلى جانب طوافة من الجيش اللبناني، في حين تعطلت باقي سيارات الإطفاء عن المشاركة. هذا المشهد يطرح تساؤلات جدية حول جاهزية المدينة لمواجهة الكوارث البيئية المتكررة.
الدخان الكثيف الذي غطى أجزاء واسعة من المدينة حمل معه أكثر من مجرد رائحة كريهة، بل حمل رسائل واضحة من المواطنين الذين باتوا يدفعون ثمن إهمال متراكم لسنوات. فبعد ساعات قليلة من اندلاع الحريق، بادر أحد أعضاء المجلس البلدي إلى طلب عقد اجتماع طارئ لمناقشة الأزمة واتخاذ موقف حاسم، لكن مبادرته قوبلت بالتجاهل التام من الجهات المعنية.
هذا التجاهل ليس مفاجئاً في ظل منظومة تبدو وكأنها تعمل بنظام “العين الواحدة”، حيث تُغمض العيون عن المخالفات الصارخة مقابل مصالح خفية لا تخدم سوى جيوب قلة على حساب صحة الآلاف.
صرخة برلمانية
وسط هذا المشهد المأساوي، رفع النائب الدكتور أسامة سعد صوته عالياً مطالباً بوضع حد نهائي لما وصفه بـ”الجرائم البيئية الخطيرة والمستمرة”. في اتصال مباشر مع وزيرة البيئة تمارا الزين، كشف سعد عن حقائق صادمة تفضح حجم الفساد المستشري في ملف النفايات.
“المعمل المذكور لا يملك ترخيصاً من وزارة الصناعة، ومع ذلك يتقاضى مبالغ طائلة من الخزينة العامة”، هكذا فجّر سعد القنبلة الأولى في وجه منظومة تعمل خارج القانون. الأمر لا يتوقف عند غياب الترخيص، بل يمتد إلى ممارسات احتيالية واضحة، حيث يحصل المعمل على أموال مقابل خدمات لا يقدمها، إذ “يكدّس النفايات بدلاً من معالجتها”.
لكن الفضيحة الأكبر تكمن في دور اتحاد بلديات صيدا الزهراني، الذي يوقّع على الفواتير “من دون أي تدقيق أو رقابة”، ولا يراقب كميات النفايات الداخلة إلى المعمل. هذا الإهمال المقصود يضعنا، كما قال سعد، “أمام جرائم بيئية ومالية وإدارية وملفات فساد من دون حسيب أو رقيب”.
إلى متى السكوت؟
الغضب الشعبي لم يعد يحتمل المزيد من الصمت. الجماعة الإسلامية في صيدا أصدرت بياناً ناريّاً يعكس حالة الإحباط التي وصل إليها أهالي المدينة. “إلى متى السكوت عن هذه الجريمة البيئية والأخلاقية بحق المدينة وأهلها؟” سؤال يطرحه البيان ويردده آلاف المواطنين الذين باتوا يدفعون ثمن هذا الإهمال من صحتهم ومستقبل أطفالهم.
البيان لم يكتف بالاستنكار، بل قدم مطالب واضحة ومحددة: وضع حد للتفلت الحاصل، تحميل المسؤولية الكاملة لإدارة معمل فرز النفايات وكل المتواطئين، واسترجاع الأموال المنهوبة. كما طالب بوضع اليد على المعمل ومنع دخول أي نفايات إلى صيدا من خارجها لحين إيجاد حلول مستدامة.
من جهته، تجمع “عل صوتك” كشف عن البُعد السياسي للأزمة، مشيراً إلى أن المعمل يعمل “بحماية وتغطية من قوى سياسية ومن السلطات المحلية”. هذا الكشف يفسر استمرار “سياسة نهب المال العام والحرائق الدورية” رغم الشكاوى المتكررة والأدلة الواضحة على التقصير.
احتجاجات في الشارع
عصر الثلاثاء 12 آب 2025، تجمع عدد من المواطنين أمام مدخل معمل معالجة النفايات في مشهد احتجاجي عفوي يعكس حالة الغضب المتراكمة. المواطنون لم يعودوا يكتفون بالشكوى في البيوت، بل نزلوا إلى الشارع للتعبير عن رفضهم لاستمرار هذه المهزلة.
في المقابل، أصدر المكتب الإعلامي لبلدية صيدا بياناً يحمل نبرة دفاعية واضحة. البيان أكد أن رئيس اتحاد بلديات صيدا الزهراني، مصطفى حجازي، “تابع ميدانياً أعمال مكافحة حريق جبل النفايات”، وأن الموضوع “محل متابعة حثيثة من كامل أعضاء المجلس البلدي دون استثناء”.
لكن هذا البيان يثير تساؤلات أكثر مما يقدم إجابات. إذا كان الموضوع تحت المتابعة الحثيثة، فلماذا تتكرر الحرائق؟ وإذا كان جميع أعضاء المجلس معنيين بالأمر، فلماذا تم تجاهل طلب عقد اجتماع طارئ؟
حجازي أكد في البيان أن العمل متواصل على “متابعة تفاصيل حل هذه الأزمة المتراكمة الجاثمة على صدر المدينة، ومحاسبة من سيتسبب بتفاقم المشكلة”. لكن هذا الكلام يبدو وكأنه يأتي من كوكب آخر، في ظل استمرار المشكلة لسنوات دون أي حل جذري.
الأمر الأكثر إثارة للجدل هو غياب أي إشارة في بيان البلدية إلى ضرورة عقد جلسة للمجلس البلدي لمناقشة الأزمة واتخاذ قرارات حاسمة. هذا الغياب يطرح تساؤلات حول جدية الرغبة في إيجاد حلول فعلية.
لعبة “الكرة الساخنة”
في محاولة يائسة لتبرئة الذمة، أصدرت إدارة المعمل بياناً يحمل في طياته محاولة ماكرة لإلقاء المسؤولية على عاتق البلدية. البيان ادّعى أن الحريق اندلع في “بورة البلدية الملاصقة لمعمل فرز ومعالجة النفايات”، وليس في المعمل نفسه.
هذا التلاعب بالألفاظ يكشف عن مستوى الاستخفاف بذكاء المواطنين. فإدارة المعمل “نسيت” أن تذكر أنها طلبت من البلدية منذ سنوات السماح لها باستخدام مساحة 10 آلاف متر مربع ملاصقة لسور المعمل لوضع النفايات فيها. بمعنى آخر، الحريق حدث في المكان الذي ترمي فيه إدارة المعمل النفايات بدلاً من معالجتها.
انتهى البيان بجملة تحمل سخرية مريرة: “رئيس البلدية حجازي شكر إدارة المعمل على مؤازرة البلدية لإخماد الحريق”. هذه الصياغة تحمل رسالة ضمنية واضحة: المعمل ساعد في إطفاء حريق ليس مسؤولاً عنه، وبالتالي فالمسؤولية تقع على عاتق البلدية.
هذا المشهد يذكرنا بلعبة “الكرة الساخنة” التي يلعبها الأطفال، لكن الفرق أن الكرة هنا هي مسؤولية كارثة بيئية تهدد صحة آلاف المواطنين. البلدية تلقي المسؤولية على المعمل، والمعمل يلقيها على البلدية، وفي النهاية المواطن هو الذي يدفع الثمن من صحته وماله.
