تحميل

إبحث

في الصميم

فَوْضى المولِّدات الخاصَّة… إِلى مَتى؟

sidon_generators_image

منذُ عُقودٍ، يُعاني لُبنانُ من أَزمةِ كهرباء خانقة، فَشِلَت معها السُّلطاتُ المُتعاقِبة في إيجادِ حُلولٍ جذرية. هذا الفَشَلُ فَتَح البابَ على مِصراعيه أمامَ أَصحابِ المولِّداتِ الخاصَّة لِيُديروا قِطاعاً حَيويّاً، غالباً في غيابِ أَيِّ رِقابةٍ أو شَفافيةٍ حقيقيّة، ما حَوَّلهم إلى سُلطةِ أَمرٍ واقعٍ في العديدِ من المناطق، ومِنها مدينةُ صَيدا

في سِتِّينياتِ القرنِ الماضي، كانتِ الشبكةُ الكهربائيّةُ تُغَطِّي جميعَ أنحاءِ لُبنان. لكن مع اندلاعِ الحربِ الأهليّة عامَ 1975، وتحديداً مع نهايةِ عامَ 1976، بدأ الانقطاعُ غيرُ المُنتَظم للتيّار الكهربائي، ما دَفَعَ المواطنين إلى الاعتمادِ على مولِّداتٍ خاصَّة صغيرة لتأمينِ احتياجاتهم الأساسية.
بعدَ اتفاقِ الطائف، وعلى الرَّغمِ من الوعودِ المتكرِّرة بتحسينِ إنتاجِ الكهرباء وتوزيعها، استمرَّ العجزُ الرسمي، ما أَدّى إلى نُشوء شبكاتٍ ضخمة من المولِّدات الكهربائية الخاصَّة، التي غالباً ما تستندُ إلى نُفوذِ أَطرافٍ في السُّلطة بمختلفِ توجُّهاتها السياسية.

أرقامٌ مُتضارِبة

حتى لحظةِ كتابةِ هذا التقرير، لا يوجد إحصاءٌ شاملٌ ودقيق لأصحابِ المولِّدات الكهربائية وقدراتها التشغيلية في منطقةِ صَيدا. آخرُ تقريرٍ رسمي أعدَّته بلديةُ صَيدا يعودُ إلى عام 2021، أشار إلى وجود 269 مولِّداً بقوةٍ إجمالية تبلغ 108,942 كيلوفولت أمبير (KVA)، يملكها 87 شخصاً، بعضُهم يملك مولِّداً واحداً، بينما تصلُ ملكيةُ آخرين إلى 12 مولِّداً.
في إحصاءٍ آخرَ أجراه تجمّع “علِّ صوتك” في أيلول/سبتمبر 2023، تبيَّن أن عددَ المولِّدات قد انخفض إلى 249 مولِّداً بقوة 102,867 كيلوفولت أمبير، يملكها 81 شخصاً.

آخرُ تقريرٍ رسمي أعدَّته بلديةُ صَيدا يعودُ إلى عام 2021، أشار إلى وجود 269 مولِّداً بقوةٍ إجمالية تبلغ 108,942 كيلوفولت أمبير (KVA)، يملكها 87 شخصاً

محاولاتٌ خجولةٌ للرَّقابة

في محاولةٍ لتنظيم هذا القطاع، شكَّلت بلديةُ صَيدا عامَ 2021 لجنةً باسم “لجنة الشفافية”، مهمَّتها تسعيرُ الفاتورةِ الشهرية للمولِّدات، ومراقبةُ عملها، وإلزامُها بالقوانين. إلا أن هذه اللجنة تحوَّلت، بحسب متابعين، إلى جهازٍ يجتمع شهريّاً ليطلُب من أصحابِ المولِّدات الالتزامَ بالتسعيرة الرسمية، وهو ما لا يلتزمُ به معظمُهم.
عند سؤال مهندس البلدية، زياد الحكواتي، عن الحلولِ الممكنة لفرض الالتزام، كان جوابُه واضحاً: “لا شيء نستطيعُ فعلَه سوى وقف تشغيل المولِّد، لأن البلدية لا تملك اختصاصيين لتشغيلِ المولِّدات في حال مصادرتها”.

نُفوذٌ سياسي وحمايةٌ من المساءلة

يزيد من تعقيد المشكلة أن معظمَ أصحابِ المولِّدات يحظَون بحمايةٍ سياسية. وفي الذاكرةِ حادثةُ الاعتداء على عضو المجلس البلدي السابق، محمد السيّد، عامَ 2015، من قِبَل أزلامِ أحدِ أصحابِ المولِّدات، بعدَ اعتراضه على عدم الالتزام بالتسعيرة الرسمية، والضغوط التي مُورِسَت عليه لعدم التقدُّم بدعوى قضائية.
وتتداول الأوساط الصيداوية أخباراً عن شراكاتٍ بين أصحاب المولِّدات وأطرافٍ سياسية لبنانية وفلسطينية (إذا كان صاحبُ المولِّد فلسطينياً)، وجهاتٍ أمنيّة، إلا أنه لا توجد أدلّةٌ ثابتةٌ على ذلك، وخصوصاً أن جميع الأطراف المعنيّة تنفي هذه الأخبار.

تجاوزاتٌ بالجُملة

يؤكِّد المهندس بلال شعبان، عضو لجنة الشفافية في بلدية صَيدا، أن تجاوزات أصحابِ المولِّدات عديدة، منها:

تخطِّي التسعيرة الرسمية: يفرِضون أسعاراً أعلى من تلك التي تحدّدها وزارة الطاقة.

تقنين إضافي: يَعمَد بعضُهم إلى تقنينٍ يومي للكهرباء، بينما يتقاضَون رسومَ اشتراكٍ كاملة.

رفض تركيب العدّادات: يرفضون تركيبَ عدّادات لتحديد كميةِ استهلاك المشتركين، متجاهلين قرارات الوزارات والبلديات.

استخدام أملاكٍ عامة: يستخدمون عقاراتٍ تابعةً لأملاكِ البلدية العامة، وأحياناً يدَّعون الحصول على موافقة رئيس البلدية.

تخريب منشآت كهرباء لبنان: يستخدمون منشآتِ مؤسسة كهرباء لبنان، ما يؤدّي إلى تخريبها، ويعرِّض سلامة موظفي المؤسسة للخطر.

تجاهُل الشروط الصحية والبيئية: لا يلتزمون بتركيبِ فلاتر للمولِّدات، حسب توصيات وزارة البيئة.

التوسّع نحو الطاقة الشمسية: أقام بعضُهم حقولاً لألواح الطاقة الشمسية بناءً على موافقات من وزارة الطاقة، متجاوزين سلطةَ البلدية في تنظيم البناء في النطاق الجغرافي الخاص بها.

ويعلِّق شعبان: “قطاعُ مولِّدات الكهرباء بأَكمله مخالفٌ للقانون”.

المجلس البلدي الجديد: آمالٌ وتحديات

أمام المجلس البلدي الجديد، تبدو المهمة شاقّة. يقول شعبان: “أعتقد أن المجلس البلدي الجديد بصددِ تشكيل لجنةٍ من متطوعين لإجراء كشفٍ أولي لتحديد عددِ المولِّدات وقوتها وأماكن توزُّعها. وبناءً على نتيجة الكشف، ستُحدَّد الشروطُ المطلوبة لاستمرار عمل المولِّدات”.

وتشير مصادرُ بلدية مُطَّلِعة إلى وجود اقتراحاتٍ يجري التداولُ بها، لوضعها أمام المجلس البلدي الجديد، بهدف تنظيم عمل المولِّدات، التي باتت واقعاً مفروضاً. وتشمل:

فرض ترخيصٍ مسبق: منع تشغيل أي مولِّد من دون ترخيص مسبق من بلدية صَيدا، وفق شروطٍ محدّدة.

تحديد شروط الترخيص: إلزام أصحاب المولِّدات بتقديم طلباتٍ خطية مرفقة بالمستندات اللازمة، وتحديد مواقع المولِّدات بدقّة.

فرض رسوم: فرض رسمٍ شهري ثابت على كلِّ مولِّد بحسب قدرته، ورسم إشغالٍ للأملاك العامة.

منع استخدام أعمدة كهرباء لبنان: منع تمديد الكابلات على أعمدة مؤسسة كهرباء لبنان من دون موافقة خطية مسبقة.

الالتزام بالشروط البيئية: إلزام أصحاب المولِّدات بالتقيّد بالشروط التي حدّدتها وزارة البيئة.

مهلة لتسوية الأوضاع: تحديد مهلةٍ زمنية لأصحاب المولِّدات القائمة لتسوية أوضاعهم القانونية.

تشكيل لجنة متابعة: تشكيل لجنةٍ خاصة لمتابعة تنفيذ القرارات، بالتعاون مع الشرطة البلدية والقوى الأمنية.

أصحاب المولِّدات

في لقاءٍ مع أحدِ أصحاب المولِّدات في صَيدا، أبدى أسفَه لعدم اهتمام الإعلام بوجهة نظرهم، وقال: “لا أحد يريد تقديم وجهة نظرنا. الناس تنظر إلينا كأن همَّنا الوحيد هو جَني المال. لكن في الحقيقة، دخلنا هذا المجال بسبب عجز مؤسسة كهرباء لبنان. عملُنا نتيجةٌ للمصيبة التي يُعاني منها المواطن، ولسنا سبباً لها”.
وأضاف: “صحيح أننا نتعدّى على الأملاك العامة، لكن خطوط التوزيع ليست ملكاً للدولة أو البلدية، بل هي ملك المواطن. لولاها، لما استطعنا إيصال الكهرباء إليه”. وحول الالتزام بالتسعيرة، أجاب: “لكل طرفٍ حساباته ومصاريفه”.

فوضى أمنيّة ونزاعات دموية

لم تقتصر فوضى المولِّدات على الجانب الخدمي، بل امتدّت لتُشعل نزاعاتٍ دموية في صَيدا خلال السنوات الماضية، من اشتباكات حي الزهور، والسطو المسلح على أحد المولِّدات، إلى اشتباك نزلة صيدون، وإطلاق نارٍ في حي الوسطاني أدّى إلى سقوط قتيلَين، فضلاً عن الاعتداءات والتهديدات التي طالت مواطنين احتجّوا على سياسات أصحاب المولِّدات، والتي كانت تنتهي دوماً بتسوياتٍ سياسية، يكون المواطنُ هو الضحيةَ الوحيدة فيها.

هل يُبادِر المجلس البلدي الجديد إلى مناقشة الاقتراحات المطروحة، واتخاذ القرارات التي تحمي المواطن، وتُعيدُ للبلدية سلطتها المنهوبة؟ أَم أنه سيستمرُّ في السياسات السابقة، التي تجعله أداةً بيد أطرافِ الحمايةِ السياسية لأصحابِ المولِّدات؟
al-Post
سؤالٌ برسم المستقبل
العلامات

يعجبك ايضاً

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تفعيل التنبيهات نعم كلا