تحميل

إبحث

في الصميم

مصر… الغائبُ حين يحضرُ في تفاصيلِ غزّة

egyptian_role_gaza_peace

لم تكن نارُ غزّة لتهدأ، لو لم تَعُد مصر، من خلال قمة شرم الشيخ للسلام 2025، التي انعقدت برئاسةِ الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، والرئيس الأميركي دونالد ترامب، لتؤكِّد ما يحاول البعضُ نسيانَه أو تجاهلَه: أن لا تسويةَ حقيقية في المشرق، وأن لا تهدئةَ ممكنة على حدود فلسطين المحتلّة، دون المرور عبر القاهرة

لم يكن في هذه العودة، التي تلاقي إعلان نيويورك الذي قادته المملكة العربية السعودية وفرنسا، أيُّ صدفة، بل استعادةٌ لدورٍ أصيلٍ تحكمه الجغرافيا، ويثبِّته التاريخ، وتديره مؤسّساتٌ تعرف متى تَصمت، ومتى تتحرّك، ومتى تتكامل مع أشقائها العرب.

الدبلوماسيةُ الهادئةُ والقوةُ الصامتةُ

منذ اندلاع الحرب الأخيرة في غزّة، انتهجت مصر مساراً هادئاً، بعيداً عن الصخب الإعلامي الذي يُرافق تحرّكات بعض القوى الإقليمية. عملت وزارةُ الخارجية المصرية وأجهزتُها الأمنية عبر قنواتٍ مزدوجة ـ علنيةٍ وسرّية ـ لتأمين ممرّاتٍ إنسانية، وضمان تدفّق المساعدات، ودفع الأطراف نحو وقف إطلاق النار.

لكنّ الأهم أن مصر أعادت تفعيل آليّتِها التقليدية في الوساطة: الجمع بين الحوار الأمني الميداني والضغط السياسي المتدرّج. فبينما انشغلت العواصم الغربية بلغة البيانات، كانت القاهرة تجلس مع وفودٍ من “حماس” ومن إسرائيل، تستمع وتضغط، وتعيد صياغة الشروط بطريقةٍ تحفظ لكل طرفٍ ما يمكن تسويقه لجمهوره.

وما لم يُعلَن كثيراً، هو أن مصر لم تكتفِ بالدبلوماسية. ففي الأسابيع الأخيرة، لوحظت تحرّكات عسكرية مصرية منسَّقة في المنطقة المنزوعة السلاح في شمال سيناء، ضمن الحدود التي رسمها اتفاق السلام مع إسرائيل. هذه التحرّكات لم تكن استفزازاً، بل رسالةً مضبوطةَ الإيقاع: أن مصر قادرة على فرض الأمن في نطاقها الحيوي، وأن استقرار سيناء خطٌّ أحمر، وأنها الضامن الموثوق لأي ترتيباتٍ ما بعد الحرب، سواء في غزّة أو على المعابر.

فالدور المصري ليس خياراً تكتيكياً في أزمة غزّة، بل ضرورةٌ بنيويةٌ لحفظ توازن الإقليم، وضمان أن الحرب مهما اشتعلت ستنتهي على طاولةٍ تعرف القاهرة كيف تُديرها
egypt_gaza_peace_final
فعندما تتعقّد الملفات وتختنق القنوات، تعود القاهرة لتضع بصمتها، فتتحرّك الأبواب المغلقة.

غيابٌ مقصودٌ وعودةٌ مقرّرةٌ

تبدو مصر أحياناً كأنها تنسحب من المسرح الإقليمي، منشغلةً بأولوياتها الداخلية أو متريّثةً أمام زخم القوى الجديدة في المنطقة. لكنّ هذا الغياب غالباً ما يكون استراتيجياً لا عجزاً. فعندما تتعقّد الملفات وتختنق القنوات، تعود القاهرة لتضع بصمتها، فتتحرّك الأبواب المغلقة.

إنها سياسة “الصمت الفعّال” التي تميّز المدرسة المصرية في إدارة الأزمات: ترك الآخرين يتقدّمون ويستهلكون أوراقهم، ثم الدخول في اللحظة المناسبة، بالثقل المؤسّسي والأمني الذي لا يملكه أحدٌ سواها. وفي كل مرّة، يتذكّر الجميع أن مصر ليست مجرّد “جارٍ لغزّة”، بل الركيزةُ الأمنية والسياسية للمنطقة بأكملها.

وراء هذه الحركة المتقنة تقف المؤسّسة الأمنية المصرية ـ من الجيش إلى المخابرات العامة ـ التي تُدير المشهد بعقلٍ باردٍ وتوازنٍ دقيقٍ بين الأمن والسياسة. هذه المؤسّسة، التي خرجت من حروبٍ وصراعاتٍ طويلة، تعرف طبيعة الخصوم، وتفهم حدود الردع والاحتواء.

وبينما يتغيّر الخطاب السياسي في الإقليم، تبقى المؤسّسة المصرية ثابتةً في رؤيتها: لا أمنَ في غزّة دون دورٍ مصري، ولا استقرارَ في إسرائيل دون تنسيقٍ مصري، ولا مستقبلَ للفلسطينيين دون غطاءٍ مصريٍّ عربيٍّ شرعي.

تُثبت التجربة مجدّداً أن مصر قد تغيب، لكنها لا تُغاب. حين تسكت، تُحسب خطواتُها، وحين تعود، تعود بثقلها التاريخي وموقعها الجيوسياسي الممتدّ بين المتوسّط والبحر الأحمر، وبين العالم العربي وإفريقيا. فالدور المصري ليس خياراً تكتيكياً في أزمة غزّة، بل ضرورةٌ بنيويةٌ لحفظ توازن الإقليم، وضمان أن الحرب ـ مهما اشتعلت ـ ستنتهي على طاولةٍ تعرف القاهرة كيف تُديرها.

من إعلان نيويورك إلى قمة شرم الشيخ للسلام، تحرّكت جمهوريةُ مصر العربية اليوم، كما المملكة العربية السعودية، على إيقاعٍ يعرفه كلُّ من خبرهما: إيقاعُ الدول التي لا تحتاج إلى إعلان نياتها لتُدرَك نتائجُها.
al-Post
* الأمين العام ل"تيّار المستقبل"
العلامات

يعجبك ايضاً

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تفعيل التنبيهات نعم كلا