الحربُ المؤجَّلة… “عيّدوا” حتّى رأسِ السَّنَةِ
متى الحرب؟ سؤالٌ يُؤرِّقُ بالَ اللبنانيين أينما حللتَ.
بات من المسلَّمات أنَّ إسرائيل ستخوضُ حُكمًا جولةً ثانيةً من عدوانِها على لبنان. لم يَعُد السؤالُ عمّا إذا كان ذلك سيحدثُ أم لا، بل متى سيكون؟
تُؤكّدُ مصادرٌ سياسيةٌ مُطَّلعة لصحيفة “البوست” أنَّ “عجقة” الموفدين التي ستشهدُها بيروت خلال الأيام المقبلة، ليست كما يُروَّج على أنّها رسائلُ إنذارٍ أخيرة، بل تندرجُ في إطارِ مزيدٍ من الضغطِ السياسيِّ على لبنان لتنفيذِ المطالبِ الإسرائيلية في موضوعِ نزعِ سلاحِ “حزب الله”، وصولًا إلى ترتيباتِ “اليوم التالي” كباقةٍ متكاملةٍ.
دور مصري وأردني
وتكشفُ المصادرُ عن دورٍ مصريٍّ مُستجدٍّ يسجِّلُ حضورًا أقوى، وهو أمرٌ لوحِظَ منذ ما بعد قمّةِ شرم الشيخ الأخيرة، وسيترجم بزيارة رأس الهرم الأمني في مصر ألي بيروت. إذ تجمعُ علاقةٌ “مميّزة” بين الرئيس اللبناني جوزاف عون والقيادتين الأمنية والسياسية في مصر، وقد تؤثِّرُ على المسارِ التفصيليِّ للمفاوضاتِ اللبنانيةِ ـ الإسرائيلية في المرحلةِ المقبلة، مع رصدٍ لدورٍ أردنيٍّ في هذا الإطار، ولو أقلَّ حضورًا وقوّةً، إلّا أنّه يصبُّ كذلك في مصلحةِ الرئاسةِ الأولى، بحكمِ علاقاتٍ تربطُها بمسؤولين ومتنفّذين في كلا البلدين، لم تبدأ منذ تولّي عون مقاليدَ الحكم في لبنان.
لكن تبٍقى الحربَ أمراً واردآً في أيّ لحظة، خاصّةً حين يكونُ التعامُلُ مع نموذجِ “نتنياهو الجديد” بعد السابع من أكتوبر، وفي ظلِّ رؤيةِ ترامب الشمولية لحلِّ قضايا المنطقة، ومع تنامي التأثيرِ اليمينيِّ المتطرّف على قراراتِ الحكومةِ الإسرائيلية داخليًّا وخارجيًّا في أكثرَ من مَفصلٍ.
كلَّ هذه المعطياتِ لا تعني أنَّ إسرائيل اليوم جاهزةٌ لحربِها الجديدة مع لبنان، فـإنهاءُ ترتيباتِ حربِ غزّة يُعَدُّ في هذه المرحلةِ أولويةً متقدّمةً لدى القيادةِ الإسرائيلية، التي تُكرّرُ دومًا قدرتَها على خوضِ حروبٍ على أكثرَ من جبهةٍ في آنٍ واحدٍ، لكنّ المرحلةَ في العقليةِ الإسرائيليةِ تقتضي ترتيبَ الانتهاء كليا من الداخل الفلسطيني للانتقال إلى الشمال اللبناني، فالحوثي اليمني، وأذناب إيران في العراق. تلك هي أولويات إسرائيل بعيدا عن الأولوية الأساسية…إيران.
كما تُشيرُ مصادرٌ سياسيةٌ مطّلعة، وعلى الرغمِ من كلِّ الضغوطاتِ الظاهرة، لا يبدو أنَّ الحربَ على الأبواب، وإن كانت طبولُها لا تزالُ تُقرَعُ بوضوحٍ. ويأتي كلامُ الرئيس عون عن مفاوضاتٍ غيرِ مباشرةٍ مع إسرائيل، الذي أطلقه الأسبوعَ الماضي، ليُبرِّدَ أجواءً كانت بدأت تسخنُ في واشنطن وتل أبيب حول تلكؤ “العهدِ الجديدِ” في تنفيذِ ما يُعتبَرُ أساسًا للإتيانِ به، ألا وهو طيّ من صفحةِ “حزب الله” بصيغتِه السابقة، والتمهيدُ لفتحِ صفحةٍ جديدةٍ بنسخةٍ منقَّحةٍ.
كلُّ هذه المعطياتِ والمستجدّاتِ يدركُها الإسرائيلي، ويعلمُ أنّها قد لا تُؤتي ثمارَها في النهايةِ كما يُريد، لكنَّه غيرُ محشورٍ لتوسيعِ شكلِ الحربِ التي لم تتوقّف أصلًا. جلُّ اهتمامِه ينصبُّ على ألّا يلتقطَ “حزب الله” أنفاسَه لإعادةِ تكوينِ قوّتِه، وإن لم تكن كما السّابق، وحتى في توسيعِ المعركةِ، لا ترى آلةُ الحربِ العسكريةُ الإسرائيلية ضررًا في الاستمرارِ باستهدافاتٍ يوميّةٍ تكبُرُ وتَصغُرُ بحسبِ بنكِ أهدافِها، إلى أنْ يستدعيَ الأمرُ توسيعَ النطاقِ أكثر.
وقد تندرجُ الزيارةُ المفترضةُ للبابا إلى لبنان شهر ديسمبر المقبل في خانةِ تأجيل الحرب، لكنّها حتمًا ليست عاملًا مؤثّرًا في قرارِ الإسرائيلي، الذي لا يُراعي إلّا مصلحتَه الخاصّة.
وعليه، يبدو أنَّ “الستاتيكو المتحرك” القائمَ حاليًّا، بأشكاله وتفرّعاتِه الكثيرة، سيستمرُّ حتّى تُنفَّذَ سياسةُ الانتظارِ وشراءِ الوقت، ليُصبِحَ الكلامُ للميدانِ أكثر.
حتّى ذلك الحين، يمكن أن نقولَ للبنانيين الذين يعيشون اليومَ بيومِه أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى: أعيدوا حتّى رأسِ السنةِ… وبعدها “يومٌ آخر”…
بعد مرورِ نحوِ عامٍ على اتفاقِ وقفِ إطلاقِ النار الذي تمّ التوصّلُ إليه بوساطةٍ أميركيةٍ في نوفمبر 2024، بين إسرائيل و”حزب الله”، يعودُ الكلامُ عن حربٍ جديدةٍ ليُخيّمَ على الأجواءِ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى.
فمع تزايدِ الخروقاتِ الأمنيةِ وتصاعُدِ وتيرةِ الضرباتِ الإسرائيليةِ التي تستهدفُ كوادرَ من “حزب الله”، والتي أدّت إلى مقتلِ 365 عنصرًا من الحزبِ منذ بدء الهدنة، تتزايدُ المخاوفُ من انزلاقِ المنطقةِ إلى جولةٍ جديدةٍ من الصراعِ المفتوح، أم أنّ قواعدَ الردعِ ما زالت قائمةً؟
على الرغمِ من الخسائرِ الكبيرةِ التي تكبّدها الحزبُ في حربِ 2023–2024، حيث فقدَ ما يُقدَّرُ بنحوِ 70% من مخزونِه من الطائراتِ المسيّرةِ ومئاتِ منصّاتِ إطلاقِ الصواريخ، إلّا أنّ “حزب الله” يُعيدُ بناءَ قدراتِه العسكريةِ بوتيرةٍ سريعةٍ، متّبعًا استراتيجيةً جديدةً تعتمدُ على “أسلحةٍ أبسطَ وأكثرَ فاعليةٍ”، كصواريخِ “ألماس” الموجَّهةِ بصريًّا، وصواريخِ “بركان” قصيرةِ المدى، والطائراتِ المسيّرةِ الانتحاريةِ الرخيصةِ والفعّالةِ. هذا التحوّلُ يجعلُ من الصعبِ على إسرائيل تتبّعَ هذه القدراتِ وتدميرَها، ما يزيدُ من منسوبِ القلقِ لدى القيادةِ العسكريةِ الإسرائيليةِ.



