الوقف في مواجهة الجُبن والبُخل… الطريق إلى مجتمعٍ حرّ
يُروى عن النبي محمّد عليه الصلاة والسلام أنّه كان يتعوّذ من الجُبن والبُخل، فيقول بصيغةٍ واضحةٍ وصريحة: “اللّهم إنّي أعوذ بك من الجُبن والبُخل”. وكأنّ هاتين الصفتين الإنسانيتين من الصفات المخيفة التي لا بدّ من الاستعاذة بالله منها؛ أي أنّ الإنسان عليه أن يلجأ لحول الله وقوّته هربًا من أن تطاله تينك الصفتان
شاءت تجارب الحياة أن تضعني في مواقف أرى فيها عن قربٍ أشخاصًا يتّصفون بهاتين الخصلتين، فكانت تلك التجارب كفيلةً بأن تُظهر لي مدى قبحهما وانعكاسهما على السلوك الإنساني. لن أُطيل في هذا الباب، غير أنّي أقول باطمئنان إنّ أصحاب هاتين الصفتين من أبعد الناس عن روح المدنية والمجتمع… ولعلّ في ذلك حديثًا مفصّلًا في مقالٍ لاحق.
هذا التعوّذُ النبويّ يدلّ على قُبح الصفتين وقوّة أثرهما على الناس، ومن الطبيعيّ ألا يكون هذا الأثرُ محدودًا بحامل الصفة فقط، بل يتعدّاه إلى مجتمعه وبيئته وأمّته بأكملها.
هيمنة ومجتمعات
فلنتخيّل مجتمعًا يهيمن عليه الجُبن والبُخل… مجتمعًا يخاف أفراده من قول الحق، ويمسكون أيديهم عن مدّ الخير؛ كيف تكون حاله؟
كيف يكون وضع فقرائه وشوارعه وأسواقه؟
كيف تُدار شؤونه العامّة؟
كيف تكون قوّته في الدفاع عن نفسه أو في بناء مؤسّساته ومصالحه؟
المجتمع الجبان مجتمعٌ صامت، والمجتمع البخيل مجتمعٌ عقيم. الأوّل يُصاب بالشلل الأخلاقي، والثاني بالضمور الاقتصادي والوجداني. وحين يجتمع الجُبن والبُخل في النفوس، تُصاب الأمّة بما يشبه الانسداد التاريخي؛ إذ يغيب الفعلُ، وتغيب التضحيةُ، ويغيب معنى العيش المشترك الذي لا يقوم إلّا على الشجاعة والعطاء.
الوقف…ربطُ الثروة بالحرّية
لم يكن الوقفُ في التاريخ الإسلامي مجرّدَ نظامٍ ماليٍّ خيريٍّ يسعى أصحابه إلى التقرّب من الله طلبًا للأجر أو «شراء بيتٍ في الجنّة» فحسب — فهذا أمرٌ مُسلَّمٌ به لديهم — بل كان في جوهره نظامًا اجتماعيًّا أصيلًا في الحضارة الإسلامية يقوم على حبس الأصل وتسبيل المنفعة؛ أي أن يوقف الإنسان مالَه أو عقارَه بحيث يبقى الأصلُ ثابتًا وتُصرَف منفعته في وجوه الخير العام: كالعلم والعلاج والمأوى.
ومن هنا كان الوقف مؤسّسةً سلطويّة قبل أن يكون ماليّة؛ لأنّه يربط المال بالحرّية، ويحوّل الثروة من وسيلة تملّك إلى وسيلة تحرّر وتوكيلٍ ذاتي. فالذي يتنازل عن جزءٍ من مُلكه لصالح المصلحة العامة يمارس شجاعةً مدنيةً نادرة: شجاعةَ التخلّي عن السيطرة، وثقةً بالمجتمع والزمن والنيّة الصالحة.
إلى جانب هذا البعد الإيماني، كان للوقف أثرٌ دنيويٌّ وحضاريٌّ عميق، تجاوز فكرة التكافل البسيطة إلى بناء مجتمعٍ يملك استقلاله الذاتي وسلطته الداخلية.
ذلك المجتمع لم يكن يتمتع بحريةٍ ماديّة فحسب، بل بقدرةٍ على إنتاج الحرّية وضمان استمراريتها؛ مجتمعٌ يصوغ ثقافةً تحفظ الكرامة وتصون الأعراض، بعيدًا عن الارتهان لقوى خارجية تسعى للاستثمار أو الاستغلال.
حين يُربّي الجُبنُ أباه
قد نرى تجلّي الفكرة من خلال روايةٍ مأثورة عن النبيّ، حيث يقول: “الولدُ مَجبنةٌ ومَبخلة”.
وهذا الحديث يُحذّر مرةً أخرى من الوقوع في صفتي الجُبن والبُخل؛ فعندما يصبح الإنسان أبًا أو أمًّا لطفل صغير، يصبح هذا الولدُ مدعاةً للبخل والجبن؛ لأنّ الوالد سيبخل عن العطاء من أجل ولده، ثم يجبُن عن أيّ شجاعة خوفًا من أن يتيتّم ولده.
لكنّ المثال يأخذنا إلى ما نسمعه يوميًا من الأهل عن حياتهم ما بعد الأولاد: “بتصير حياتك مش إلك، بتصير حياتك لإلُن”.
هنا يتّضح المعنى المقصود: أي إنّ السلطة في الحياة لم تعُد تُنتَج بحرّية الأب أو الأم، بل بناءً على مصلحة الطفل. وهنا تقع طامة فقدان السلطة من مكانها الطبيعي إلى مكان سبّبه الجُبن… الذي قد يصل بالإنسان حدّ تأليه ذاته؛ فيعتبر نفسه الرازق الضامن لحياة ذلك الصغير!
الأمر ذاته في المجتمع؛ فمن عبقرية النظام الوقفي أنّ الأصل المادّي الذي أُوقِف لله تعالى لا يعود ملكًا للموقِف، ولا للدولة، ولا للمؤسسة الدينية، بل ملكًا للمجتمع نفسه.
والوقف آليّةٌ من آليات الإسلام الاجتماعي التي تضمن السلطة خارج مؤسساتها التقليدية التي هي بطبيعتها مؤسسات قمعيّة؛ إذ إنّ كل سلطةٍ تتبلور في كيانٍ موحّد تصبح القمعيّة من صفاتها المباشرة — والقمع هنا لا يعني الاضطهاد الجسدي فقط، بل القدرة على الظلم والتمييز والقهر.
فصلُ الدين عن الدولة
ولذلك يخلص بعض مؤرخي القرون الإسلامية الوسطى إلى القول إنّ سلطة الخليفة على المجتمعات الإسلامية كانت سلطة الحدّ الأدنى؛ فليس من طبيعة الخلافة أن تمتلك سلطة المجتمع، وإنما يقتصر عملها على إدارة الشؤون الدولية الكبرى.
وقد فَطِنَ العلماء إلى هشاشة فكرة الدولة وإمكانية تغيّرها وتبدّلها لأسباب خارجة عن السيطرة: كالغزو، والاحتلال، والثورات، والانقلابات… فقاموا — بلغة اليوم — بفعلٍ ذي روح «عَلمانية»؛ فصلوا الدين عن الدولة لا لنزع قدسية الدين، بل للحفاظ على سلطة المجتمع.
ولم يكن ذلك ليتمّ لولا وجود شجعانٍ كرماء أوقفوا ملكهم لخدمة الناس، ولم يجبُنوا أو يبخلوا، ولم يسعوا إلى منصبٍ مؤسساتيّ أو سلطويّ «ليخدموا الناس»، بل فقهوا أنّ الخدمة الحقيقية هي في إعطاء السلطة للمجتمع.
من احتكار السلطة إلى تمكين الناس
إذا تأملنا صورة المجتمع الذي تخنقه صفَتا الجُبن والبُخل، أدركنا فورًا أنّ استعادته لقِيَم الوقف والشجاعة المدنية ليست ترفًا تاريخيًا، بل ضرورةً حاضرة. فالوقف في جوهره إعلانٌ جماعيٌّ بأنّ الأمة قادرةٌ على تمويل حريتها بنفسها، وأن تنتج ثقافتها من داخلها، وأن تحمي كرامتها بلا استجداء.
أخطر ما تفعله هاتان الرذيلتان هو تحويل المجتمع من فاعلٍ إلى متلقٍّ، ومن مانحٍ إلى طالب، ومن مالكٍ لسلطته إلى خائفٍ من فقدانها؛ لذا كان التعوّذ النبويّ في محلّه…
فمقاومة الجُبن والبُخل ليست تربيةً فردية فحسب، بل تأسيسٌ لشكلٍ من الاجتماع الإسلاميّ الحرّ يقوم على العطاء، ويتحصّن بالمؤسسات الأهليّة، ويُبقي السلطة بيد الناس لا فوقهم.
وفي زمنٍ كثر فيه من يرفع شعار «خدمة الناس» وهو يستميت للحصول على منصبٍ كأنّه غايةٌ في ذاته، يصبح من اللازم التذكير بأنّ الخدمة الحقيقية لا تكون بالاستحواذ على السلطة، بل بتمكين الناس منها.
فالمجتمع لا يُبنى بالخطباء الذين يعتلون الكراسي ليتحدّثوا عن الإصلاح، بل بالشجعان الذين يتركون الكراسي ليقيموا مؤسساتٍ تنتمي إلى الناس لا إليهم.



