“منذُ أيّام، خُضتُ حوارًا عفويًّا ودودًا مع سيّدةٍ مارونيّةٍ من أهل المتن، خطّت سنوها الـ 77 عامًا.
الكلامُ الذي كان يفيض محبّةً وانسجامًا مع امرأةٍ مفعمةٍ بحبّ الحياة وتقدير الجمال والفرح، لم تنجح السنواتُ الصِّعاب التي عاشتها في ثنيها عن الاهتمام بحُسن مظهرها الخارجي، كما روحها.
للسيّدة ابنتان متزوّجتان، واحدة من رجلٍ سنّي، والأخرى من شيعي. تجربتها طويلة مع الإسلام، فهي تعرف عنه الكثير بحكم مآل حياتها، ومع ذلك تسألني بفضولٍ حين تعلم بأنني صحافي «صحيح إنّو الجولاني حيفوت عَ لبنان مع جماعتو؟» وتتابع «لازم نتوحّد كلّنا ضدّه، إسلام ومسيحيّة. ما بحب هالمناظر يا الله»، وتشير بيدها نحو ذقنها نزولًا للدلالة على اللحية الطويلة.
####
ما قالته المرأة بعفويّةٍ صادقة، قد يكون حال مئات الملايين حول العالم، تجاه “شكل” الإسلام بدايةً، ومن ثم “مضمونه” تاليًا.
هل مشكلة “الآخر” مع الإسلام في الشكل أم في المضمون؟ أم في كليهما؟ سؤالٌ كبيرٌ حقًّا. و“الآخر” هنا ليس بالضرورة أن يكون غير مسلم.
الريبةُ ممّا لا يشبهك وتجهله، مصحوبةٌ بتنميطٍ عن فكرةٍ مُكرّسةٍ في الأذهان والممارسات، تخلق حاجزًا من الخوف يصبح من الصعب إزالته.
أمس، كان الجميع أمام امتحانٍ من هذا النوع فرضته صورةُ هاتفٍ صودف أنّها كانت في المكان. إنّها المرّة الأولى التي نرى فيها الشيخ أحمد الأسير خارج “كادر” السجن. بيننا، في شارع عام. آخر مرّةٍ له وسط مشهدٍ مدني كانت في غرفةٍ في مطار بيروت.
أعطت الصورةُ المُسرَّبة عند مدخل مستشفى المقاصد في بيروت أبعادًا من عوالم أخرى. خلقت حيّزًا مختلفًا لكلٍّ منّا كي يرى مرغماً من خلال الهامة المنتصبة في تلك العباءة البنيّة، وهيبة الشيبة التي بيّضتها السنين.
كم هو غريبٌ هذا “الأسير”، وكلّ ما يتعلّق به. حتّى بعد سنوات التهميش والإقصاء والتشويه والظلم والتنكيل، يبقى حاضرًا رغم كلّ محاولات الطمس والنسيان.
الصورة واحدة، لكنّ كلًّا رآها كما يريد ويدرك. شيءٌ يشبه ما يُشاع عن لوحة “الموناليزا”، وكيف أنّك تراها مرّةً مبتسمةً ومرّةً حزينة، بحسب حالتك النفسيّة.
####
من الوسائل الناجحة المعتمدة في علم النفس السريري مجابهةُ المخاوف التي يعاني منها المريض، لا الهروبُ منها.
مصطلح “التروما” ذائعُ التداول اليوم، يُكرّس مبدأ العلاج بأن تقذف نفسك في قلب المشكلة للخلاص منها ومن ذيولها وتداعياتها.
أن تصنع صورةً لرجلٍ يسعى الكثيرون لنسيانه، كلّ هذه “التروما”، حينها يصبح الشيخ الأسير كعلاجٍ نفسيٍّ ضرورة للكثير من اللبنانيين وغيرهم. وحدة قياس تجاه منظومة من القيم والمفاهيم الكبرى. إعرف نفسك، بحسب ما شعرت، خزي؟ لا مبالاة؟ شماتة؟ عجز؟ نقمة؟ كره…
ومع كل هذه الأحاسيس، تُكرّس الصورة نفسها واقعًا لا مفرّ منه. فإمّا أن تتقبّلها كوجودٍ حقيقي، وإمّا أن تتغافل عنها موهومًا بأنّها لن تكمل المسار. لكن جوهر الأمر فليس عند الأسير، بل عند ربّه.
ترى كم سيجارة “ميريت” إضافيّة دخّن المفتي دريان حين شاهد صورة “عالِم” من زمانه يُقاد بالأصفاد في شارعٍ لا يبعد عن بيته إلّا أمتارًا معدودة؟ ماذا قال في نفسه؟ هل توقّف أصلًا عند المشهد، أم مرّ عليه وكأنّه حدثٌ عابر لا يحتمل كثيرًا من “ضجيجكم”؟
يقتل الكثيرَ منّا الفضولُ لنعرف بما شعر به جوزيف عون، أو نوّاف سلام، أو حتّى نعيم قاسم، وغيرهم من السياسيّين ورجالات ونساء الشأن العام، حين وصلتْهم صورةُ الأسير الجديدة عبر وسائل التواصل الاجتماعي أو “الواتساب”…
####
في عالم الألوان، يستخرج “الزيتي” من “البنّي”، والقميص الفريد الذي يُحتفَل به في الذكرى الأولى لسقوط الطاغية، تحتويه العباءة مهما عظُم.
أمس، كُنّا نحن الأسرى أيّها الأسير… وكنتَ أنت الحسينيَّ الوحيدَ بيننا.