تحميل

إبحث

وجوه وحكايات

أحمدُ الأحمد… مسلمُ الصُّدفةِ الذي أَربَكَ خِطاب الكراهيةِ

ahmed_al_ahmad_symbolic_image

في خِضَمِّ الفوضى والذُّعرِ الذي اجتاح شاطئ بوندي الشهير في سيدني أمس، وفي لحظةٍ تجمَّد فيها الزمن أمام مشهد العنف المروِّع، بزغ اسمُ رجلٍ عاديٍّ ليصبح رمزًا عالميًا للشجاعة والتضحية. أحمد الأحمد، الأسترالي المسلم من أصولٍ سورية، لم يكن جنديًا مدرَّبًا ولا ضابطَ شرطة، بل كان مجرَّد أبٍ وصاحب كشكٍ لبيع الفواكه، وجد نفسه في مواجهةٍ مباشرة مع العنف، فاختار ألّا يقف متفرِّجًا

يبلغ أحمد الأحمد من العمر 43 عامًا، وهو أبٌ لطفلتين. قدم إلى أستراليا في عام 2006 من قرية النيرب في محافظة إدلب السورية، باحثًا عن حياةٍ جديدة. استقر في سيدني وأسس عمله الخاص، حياةً بسيطة وهادئة لم تكن تُنبئ بالدور البطولي الذي كان القدر يخبِّئه له.

المفارقة المؤثِّرة تكمن في أن والديه، محمد فاتح ومليكة حسن الأحمد، كانا قد وصلا لتوِّهما من سوريا قبل أشهرٍ قليلة، ليشهدا تحوُّل ابنهما إلى بطلٍ قومي في وطنه الجديد.

شجاعة في وجه النار

في مساء يوم الأحد الدامي، بينما كان أحمد يحتسي القهوة مع صديقٍ له، دوَّت أصوات طلقات النار. الهجوم، الذي استهدف احتفالًا يهوديًا بعيد الحانوكا، أسفر عن مقتل 16 شخصًا وإصابة العشرات، في حادثة وصفتها السلطات بأنها عملٌ إرهابي.

في تلك اللحظات التي سيطر فيها الخوف، أظهرت لقطات فيديو مصوَّرة مشهدًا لا يُصدَّق: رجلٌ يندفع نحو أحد المهاجمين، يقفز على ظهره، ويصارعه بشراسةٍ لينتزع منه سلاحه. هذا الرجل كان أحمد الأحمد.

بتصرُّفٍ عفويٍّ يخلو من أي تدريبٍ مسبق على التعامل مع الأسلحة، نجح في تجريد المهاجم من بندقيته، ما أدّى إلى إرباك المهاجمين وسهَّل على الشرطة لاحقًا السيطرة على الموقف. لكن هذه الشجاعة لم تأتِ بلا ثمن؛ فقد تعرَّض أحمد لإطلاق نار من المهاجم الآخر، وأُصيب بعدة طلقات في كتفه وذراعه، نُقل على إثرها إلى المستشفى في حالةٍ حرجة.

الذي فعله أحمد فعلًا أكثر من إنقاذ أرواح، فهو أربك سردياتٍ كاملة. أربك خطاب الكراهية الذي يعيش على التخويف المتبادل. أربك اليمين المتطرِّف الذي يقتات على فكرة «الصراع الديني الحتمي»

دافع إنساني يتجاوز الانقسامات

عندما سُئل عن دافعه، جاءت إجابات أحمد وعائلته بسيطةً وعميقة في آنٍ واحد. قال قريبه مصطفى الأسعد، نقلًا عنه: «لم أستطع تحمُّل رؤية الناس يُقتلون. كان الأمر عملًا إنسانيًا، مسألة ضمير».

لم يكن أحمد يعلم هوية المهاجمين أو خلفية الضحايا؛ كل ما رآه هو أرواحٌ بريئة تُزهق، فدفعه ضميره إلى التحرك.

هذا الموقف الإنساني الخالص هو ما أسر قلوب الملايين حول العالم. في عصرٍ يتَّسم بالاستقطاب، جاءت شجاعة أحمد الأحمد لتذكِّرنا بأن الإنسانية قادرة على تجاوز كل الحواجز الدينية والعرقية. والده، الذي خدم في الشرطة سابقًا، لخَّص الأمر بقوله: «ابني بطل، لديه شغف بالدفاع عن الناس. عندما فعل ما فعله، لم يكن يفكِّر في خلفية الأشخاص الذين كان ينقذهم».

في وقتٍ كان يمكن للهجوم أن يزرع بذور الفرقة والشقاق، جاءت بطولة أحمد الأحمد، المسلم الذي خاطر بحياته لإنقاذ المحتفلين بعيدٍ يهودي، لتصبح جسرًا للتفاهم والوحدة، ولتقدِّم روايةً بديلة قوية في مواجهة خطاب الكراهية.

لم يكن أحمد الأحمد يبحث عن بطولة، ولا عن صورةٍ تلتقطها الكاميرات، ولا عن تصفيقٍ مؤجَّل. كان يبحث فقط عن شيءٍ واحد: ألّا يموت الناس أمامه وهو واقف.

عندما اندفع المسلَّح، لم يسأل أحمد: من هؤلاء؟ ولا ما ديانتهم؟ ولا ما العنوان السياسي للحادث. السؤال الوحيد كان: هل أستطيع أن أوقف هذا؟

في تلك اللحظة، سقطت كل الخطابات الجاهزة. سقطت صورة «المسلم الخطر»،
وسقطت تجارة الخوف، وسقطت النماذج النمطية التي تُصنَّع في غرف السياسة والإعلام.

مسلمٌ ينقذ يهودًا

هنا، لا تعود الهويات سلاحًا، بل تصبح امتحانًا. وأحمد الأحمد اجتاز الامتحان بالفعل، لا بالتصريحات ولا بالشعارات، بل بالفعل المجرَّد. لم يقل: «هذا لا يعنيني». لم يقل: «ليتدخَّل غيري». لم يقل: «أنا ضحية الصورة النمطية أصلًا».

ما الذي فعله أحمد فعلًا؟ أكثر من إنقاذ أرواح، أحمد أربك سردياتٍ كاملة. أربك خطاب الكراهية الذي يعيش على التخويف المتبادل. أربك اليمين المتطرِّف الذي يقتات على فكرة «الصراع الديني الحتمي». وأحرج عالمًا اعتاد أن يطلب من المسلمين الاعتذار… بدل أن يراهم ينقذون.

في زمنٍ تُستخدَم فيه الهويات كجدران، جاء أحمد ليحوِّلها إلى جسور.

إصابة أحمد لم تكن مجرَّد جرحٍ جسدي؛ كانت جرحًا في ضمير عالمٍ يصفِّق للبطولة نظريًا، ويتردَّد في ممارستها عمليًا. كثيرون شاهدوا الخطر. قليلون اقتربوا. واحدٌ فقط قرَّر ألّا ينجو وحده. بعد الحادثة، احتفت أستراليا بأحمد، وتسابقت الكلمات: «بطل»، «شجاع»، «رمز». لكن القيمة الحقيقية لا تكمن في الأوسمة، بل في السؤال الذي تركه خلفه. أحمد الأحمد لم يغيِّر مسار رصاصةٍ فقط؛ غيَّر اتجاه نقاش، وأعاد ترتيب بوصلةٍ أخلاقية اختلَّت طويلًا. هذه ليست قصة «مسلمٍ جيِّد» ولا «استثناءٍ جميل». هذه قصة إنسانٍ فعل ما يجب أن يكون طبيعيًا… لكنه صار نادرًا.
al-Post
العلامات

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تفعيل التنبيهات نعم كلا