تحميل

إبحث

في الصميم

هل تملأ أنقرة فراغ طهران؟

تركيا

في ظلِّ التحوّلاتِ الزلزاليّةِ التي تعصفُ بالشرقِ الأوسط، من سقوطِ نظامِ الأسدِ في دمشق، إلى انحسارِ النفوذِ الإيرانيّ بعدَ الضرباتِ الموجِعةِ التي تلقّاها «محورُ المقاومة»، تبرزُ تركيا لاعبًا استراتيجيًّا يسعى إلى ملءِ الفراغِ وإعادةِ رسمِ خريطةِ التحالفات.

لم تَعُد أنقرةُ مجرّدَ مراقبٍ، بل تحوّلت إلى صانعِ أحداث، تتحرّك بخطواتٍ مدروسةٍ على رقعةِ الشطرنجِ الإقليميّة، من بوّابةِ التقاربِ مع حزبِ الله، مرورًا بتطبيعِ العلاقاتِ مع السعوديّة، وصولًا إلى نسجِ تفاهماتٍ مع النظامِ السوريّ الجديد. فما هي أبرزُ معالمِ هذه السياسةِ التركيّةِ الجديدة؟ وما الدورُ الإقليميُّ الذي تطمحُ إليه؟

تركيا وحزب الله على طاولةٍ واحدة

في تطوّرٍ لافت، كشفت معلوماتٌ عن لقاءاتٍ جمعت مسؤولين أمنيّين أتراكًا مع وفدٍ من حزبِ الله في أنقرة. هذه اللقاءات، التي كانت لتُعتبَر من المحرّماتِ السياسيّة قبلَ أشهرٍ قليلة، تشيرُ إلى تحوّلٍ عميقٍ في استراتيجيّةِ الطرفين.

فمن جهة، يسعى حزبُ الله، الذي يعاني من ضعفِ حليفه الإيرانيّ وتغيّرِ البيئةِ الإقليميّة، إلى إيجادِ قنواتِ تواصلٍ جديدةٍ تضمنُ له البقاءَ لاعبًا أساسيًّا في المعادلةِ اللبنانيّةِ والسوريّة. ومن جهةٍ أخرى، ترى تركيا في هذه اللقاءات فرصةً ذهبيّةً لترسيخِ دورِها كوسيطٍ إقليميٍّ جديد.

وكشفت معلوماتٌ خاصّة عن سلسلةِ لقاءاتٍ أمنيّةٍ وسياسيّة عُقِدَت خلال الأسابيعِ الماضية بين مسؤولين أتراك ووفدٍ من حزبِ الله، في إطار وساطةٍ إقليميّة تقودها أنقرة لنقل رسائل متبادلة بين الحزب والقيادةِ السوريّةِ الجديدة برئاسة أحمد الشرع، وبمواكبةٍ غير مباشرة من طهران.

ووفق المعلومات، شارك عمّار الموسوي، مسؤول العلاقات العربيّة والدوليّة في حزبِ الله، في «مؤتمر القدس» الذي عُقِد في إسطنبول قبلَ أيّام، يرافقه وفدٌ من الحزب، ضمّ أيضًا ماهر الدنّة، رئيسَ جهاز الإعلام في الحزبِ السوريّ القوميّ الاجتماعيّ. وجاءت هذه المشاركة بعد نحو ثلاثةِ أسابيع من لقاءاتٍ أمنيّة مغلقة هدفت إلى «خلقِ مناخِ طمأنينة» بين الأطراف المعنيّة، تمهيدًا لإعادةِ فتحِ قنواتِ التواصل.

وبحسب المعطيات، حملت أنقرة إلى حزبِ الله ضماناتٍ بعدم استهدافه من قِبَل النظامِ السوريّ الجديد، في مقابل التزامٍ بنقل تطميناتٍ إلى دمشق بعدم تدخّل الحزب في الشؤونِ الداخليّة السوريّة، ولا سيّما في المناطقِ الحسّاسة كالساحلِ السوريّ وحمص. كما تضمّنت الرسائل الموجّهة إلى طهران وعودًا تركيّة بعدم دعمِ أيّ تحرّكاتٍ علويّة أو مواليةٍ لبشّار الأسد ضدّ القيادةِ السوريّة الجديدة.

وتُشير المعلومات إلى تفاهماتٍ غير معلنة تقضي بعدم دعمِ حزبِ الله وإيران لأيّ جهةٍ معارضةٍ للنظامِ السوريّ الجديد، وعدمِ تهديدِ الاستقرارِ الأمنيّ في سوريا خلال المرحلةِ الانتقاليّة.

وتعمل تركيا، وفق هذا المسار، كوسيطٍ على ثلاثةِ خطوطٍ متوازية: بين حزبِ الله ودمشق، وبين دمشق وطهران، وبين سوريا وحزبِ الله، بالتوازي مع دفعٍ نحو تفاهمٍ إسلاميٍّ أوسع في مواجهةِ إسرائيل. وفي هذا الإطار، دخلت قطر على خطّ الوساطة لتوفيرِ تسهيلاتٍ سياسيّة ولوجستيّة إضافيّة.

وتستند المؤشّرات الميدانيّة إلى استمرارِ اللقاءاتِ والزيارات، وغيابِ أيّ تصعيدٍ عسكريٍّ بين حزبِ الله والنظامِ السوريّ الجديد، إضافةً إلى الحفاظِ على قنواتِ التواصل المفتوحة، ما يُعزّز فرضيّة تقدّم الوساطة التركيّة، ولو بحذر، في واحدةٍ من أكثرِ ملفاتِ المنطقة حساسيّة.

شارك عمّار الموسوي، مسؤول العلاقات العربيّة والدوليّة في حزبِ الله، في «مؤتمر القدس» الذي عُقِد في إسطنبول قبلَ أيّام، يرافقه وفدٌ من الحزب، ضمّ أيضًا ماهر الدنّة، رئيسَ جهاز الإعلام في الحزبِ السوريّ القوميّ الاجتماعيّ

شبكةُ نفوذٍ متعدّدةُ الأذرع

لا يقتصرُ التحركُ التركيّ على فتحِ قنواتٍ مع حزبِ الله، بل يندرجُ ضمنَ استراتيجيّةٍ أوسعَ وأكثرَ طموحًا، تهدفُ إلى بناءِ شبكةِ نفوذٍ تمتدّ من بيروت إلى دمشقَ والرياض. وتعتمدُ هذه الاستراتيجيّةُ على عدّةِ ركائز:

التغلغلُ الناعمُ في لبنان: تسعى تركيا إلى تعزيزِ نفوذِها في الساحةِ اللبنانيّة، ولا سيّما بين السُنّة، عبر دعمِ حلفائِها التقليديّين مثل «الجماعةِ الإسلاميّة» (فرعِ الإخوانِ المسلمين)، وفي الوقتِ نفسه بناءِ جسورٍ مع شخصيّاتٍ سلفيّةٍ ومنظّماتٍ إسلاميّةٍ محلّيّة. كما تعملُ على تفعيلِ شبكاتِها الخاصّة، من خلال تجنيسِ مواطنين من أصولٍ تركيّةٍ والأقلّيّةِ التركمانيّة، واستخدامِ المنظّماتِ الإنسانيّة كذراعٍ للتأثيرِ الاجتماعيّ والسياسيّ. ويأتي هذا التحركُ في سياقِ سعيِ أنقرة لمواجهةِ النفوذِ السعوديّ التقليديّ على الساحةِ السُنّيّة.

التحالفُ مع سوريا الجديدة: بعد سنواتٍ من العداءِ مع نظامِ الأسد، سارعت تركيا إلى بناءِ علاقاتٍ قويّةٍ مع النظامِ الانتقاليّ في سوريا. فهي تُسيطرُ على الملفّ الأمنيّ والعسكريّ في الشمالِ السوريّ، وتُديرُ ملفَّ عودةِ اللاجئين، وعيّنت سفيرًا جديدًا في دمشق. هذا التحالفُ يمنحُ تركيا ورقةَ ضغطٍ هائلةً في أيّ تسويةٍ مستقبليّةٍ للملفّ السوريّ، ويجعلُها لاعبًا لا يمكنُ تجاوزه.

التقاربُ مع السعوديّة: شهدت العلاقاتُ التركيّة–السعوديّة تحسّنًا ملحوظًا في الأشهرِ الأخيرة، مدفوعًا بضروراتٍ سياسيّةٍ وأمنيّةٍ مشتركة. فكلا البلدين يرى في انحسارِ النفوذِ الإيرانيّ فرصةً لإعادةِ تشكيلِ المنطقة وفقًا لمصالحِهما. وتوفّرُ هذه العلاقةُ غطاءً سياسيًّا واقتصاديًّا مهمًّا لتركيا في تحرّكاتِها الإقليميّة.

تحدّياتٌ وعقبات

الهدفُ النهائيّ الذي تطمحُ إليه تركيا، من خلال هذه التحركاتِ المعقّدة، هو أن تصبحَ القوّةَ الإقليميّةَ المهيمنةَ في المشرقِ العربيّ، وأن تملأَ الفراغَ الذي خلّفه تراجعُ النفوذِ الإيرانيّ. وتسعى أنقرةُ إلى أن تكونَ «الوسيطَ الذي لا غنى عنه»، القادرَ على جمعِ الخصومِ على طاولةٍ واحدة، من حزبِ الله إلى السعوديّة والنظامِ السوريّ.

هذا الدورُ، إن نجحت في تحقيقِه، سيمنحُها نفوذًا هائلًا، يمكّنُها من تحقيقِ مصالحِها الاقتصاديّة (إعادةُ إعمارِ سوريا) والجيوسياسيّة (تعزيزُ مكانتِها كقائدةٍ للعالمِ السُنّيّ ومواجهةُ خصومِها في شرقِ المتوسّط).

وعلى الرغمِ من طموحاتِها الكبيرة، تواجهُ تركيا تحدّياتٍ جدّيّة. فالولاياتُ المتّحدةُ وإسرائيل تراقبان بقلقٍ هذا الصعودَ التركيّ، ولا سيّما علاقاتِ أنقرة مع حركاتِ الإسلامِ السياسيّ. كما أنّ السعوديّة لن تتخلّى بسهولةٍ عن دورِها التاريخيّ في لبنان. إضافةً إلى ذلك، فإنّ الساحةَ اللبنانيّةَ والسوريّة، بتركيبتِهما المعقّدة، قد تُقاومان أيَّ محاولةٍ لفرضِ هيمنةٍ خارجيّةٍ جديدة.

 

يقفُ الشرقُ الأوسط على أعتابِ مرحلةٍ جديدةٍ من إعادةِ تشكيلِ التحالفاتِ وموازينِ القوى. وقد نجحت تركيا، حتّى الآن، في استغلالِ اللحظةِ التاريخيّة لتضعَ نفسها في قلبِ هذه العمليّة. غير أنّ الأسابيعَ والأشهرَ المقبلة ستكونُ حاسمةً في تحديدِ ما إذا كانت أنقرة ستتمكّنُ من ترجمةِ طموحاتِها إلى واقع، أم أنّ أحلامَها سترتطمُ بصخرةِ المصالحِ المتضاربةِ للقوى الإقليميّةِ والدوليّةِ الأخرى.
al-Post
العلامات

يعجبك ايضاً

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تفعيل التنبيهات نعم كلا