تحميل

إبحث

وجوه وحكايات

في وداع الصوت وبقاء القضيّة

abu_obaida_symbolic_image

ما بعدَ المتحدّث، وما قبلَ الخلود.

«يا أبناءَ شعبِنا الفلسطينيِّ المُجاهد… يا جماهيرَ أُمّتِنا العربيّةِ والإسلاميّة… أيّها الأحرارُ في كلِّ العالم… السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاته».

لم تكن هذه الكلماتُ مجرّدَ افتتاحيّاتِ بياناتٍ عسكريّة، بل تحوّلت، مع الوقت، إلى طقسٍ جمعيّ. جملةٌ تعبرُ الشاشاتِ لتستقرَّ في الوعي، وتُعلن أنَّ الصوتَ الآتي ليس صوتَ فرد، بل صدى شعبٍ بأكمله. ومع خبرِ استشهادِ الناطقِ العسكريّ باسمِ كتائبِ القسّام، المعروف بـ«أبو عبيدة»، بدا الفراغُ أوسعَ من غيابِ شخص، وأعمقَ من فقدانِ متحدّث.

كنّا نكذّبُ الصمت، ونفتّشُ في رنينِ الصدى عن «يا أهلَنا»، لكنّ الملامحَ التي لم نرَها يومًا كانت قد رُسِمت في مقامٍ أعلى. رحل أبو عبيدة، لكنّه لم يُغادر. بقي صوتًا يهزُّ المعنى قبلَ الأرض، ولثامًا لم يكن إخفاءً للوجه بقدرِ ما كان كشفًا للفكرة: أنَّ القضيّةَ أكبرُ من الاسم، وأنَّ الرمزَ حين يكتمل، يستغني عن الجسد.

لم يكن مجرّدَ ناطقٍ رسميّ باسمِ فصيلٍ مسلّح. في لحظاتِ الانهيارِ العام، تحوّل إلى نبضِ شارع، وطمأنينةِ قلوبٍ مُنهَكة، ويقينٍ مؤقّت نعلّقه على حبالِ الخوف. كان خطابُه مقتصدًا، صلبًا، محسوبَ الكلمات، لكنّ أثرَه كان عاطفيًّا عميقًا، لا لأنّه وعد بالنصر، بل لأنّه أعاد تعريفَ الصبر بوصفه فعلَ مقاومةٍ نفسيّة قبلَ أن يكون عسكريًّا.

separator
لم يكن مجرّدَ ناطقٍ رسميّ باسمِ فصيلٍ مسلّح. في لحظاتِ الانهيارِ العام، تحوّل إلى نبضِ شارع، وطمأنينةِ قلوبٍ مُنهَكة، ويقينٍ مؤقّت نعلّقه على حبالِ الخوف

يُوارى الثرى الجسد، لكنّ «خارطةَ الطريق» التي رسمها بإصبعه لم تُدفن. ما زالت تُشير، بوضوحٍ لا تُخطئه العيون، نحو القدس. في زمنِ التشويشِ السياسيّ، والانقسام، وتآكُلِ السرديّات، شكّل أبو عبيدة حالةً نادرةً من الانضباطِ الرمزيّ؛ لا إفراطَ في الظهور، ولا تراجعَ في الرسالة.

المفارقةُ المؤلمة أنّ رحيله جاء في صمتِ الكبار، في الوقتِ الذي كان فيه كثيرون ينتظرون إطلالتَه ليقول: النصرُ صبرُ ساعة. فإذا به هو النصر، وهو الساعة. لحظةٌ يتكثّف فيها المعنى، ويُصبح الغيابُ نفسه خطابًا.

لا تتّفق شعوبُ العالم على الوسائل، لكنّها تفهم الرموز. وأبو عبيدة، سواء اتُّفِق معه أو اختُلِف، تجاوز موقعَه التنظيميّ ليُصبح ظاهرةً اتّصاليّة في صراعٍ غيرِ متكافئ، حيث تُدارُ المعاركُ على الوعي بقدرِ ما تُدار على الأرض. لذلك، فإنّ استشهادَه ليس حدثًا فلسطينيًّا داخليًّا فحسب، بل محطةٌ دالّة في كيفيّة تشكُّلِ الرموز في زمنِ الحروبِ المفتوحة والعدالةِ المؤجَّلة.

نمْ قريرَ العين خلفَ لثامِك الأبديّ. فقد أدّيتَ الأمانةَ حتّى ذاب الصوتُ في صدى الخلود، وتركتَ خلفك جيلًا لا يرى في الانكسار نهاية، بل أولى خطواتِ العبور. عزاؤنا أنّك لم تمتْ لتغيب، بل لتوقظَ فينا ألفَ «أبو عبيدة» لا يسقطون… لأنّهم، ببساطة، لم يعودوا أفرادًا، بل معنى.

separator
العلامات

يعجبك ايضاً

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تفعيل التنبيهات نعم كلا