لم يعد الخيالُ العلميُّ خيالًا.في مختبرٍ شديدِ التَّعقيد في ولاية كاليفورنيا، نجحَ الملياردير الأميركي إيلون ماسك في زرعِ شريحةٍ إلكترونيَّة داخلَ دماغِ إنسانٍ مشلول، تربطُ أفكارَه مباشرةً بالحاسوب… الاختراعُ الذي أطلقت عليه شركتُه Neuralink اسم واجهة الدماغ والآلة (Brain-Machine Interface)، يشكِّل اليوم أكثر من مجردِ إنجازٍ طبيّ: إنَّه إعلانٌ رسميٌّ عن دخولِ البشريَّة مرحلةَ «الاندماج» مع الآلة. تعتمدُ تقنيةُ Neuralink على زرعِ رقاقةٍ صغيرة في الدماغ ترتبطُ بأسلاكٍ دقيقةٍ أرفعَ من شعرةِ الإنسان، قادرةٍ على التقاطِ الإشارات العصبيَّة وتحويلِها إلى أوامرَ رقميَّة. يستطيع المستخدم، من خلال التَّفكير فقط، تحريكَ مؤشِّرِ الحاسوب أو ذراعٍ روبوتيَّةٍ دون أيِّ حركةٍ عضليَّة. وعلى الرغم من أنَّ الهدفَ المُعلَن هو مساعدةُ المصابين بالشلل أو أمراضِ النطق والبصر، إلا أنَّ إيلون ماسك يطرحُ مشروعَه بجرأةٍ أكبر: «هذه الخطوةُ تمهيدٌ للاندماج الكامل بين الإنسان والذكاء الاصطناعي». العالمُ يصفِّق ويَقلَق أعلنت Neuralink أنَّها زرعت أولَ شريحةٍ في دماغِ مريضٍ مُصابٍ بشللٍ رباعي، وتمكَّن لاحقًا من تحريكِ المؤشّر بعقلِه. تصدّر الخبرُ الصحف، وتبعتهُ تقاريرُ عن عملياتٍ لاحقة وتجاربٍ سريريَّةٍ جديدة، بعد حصولِ الشركة على تمويلٍ يتجاوزُ ٦٥٠ مليون دولار. لكن خلفَ العناوينِ المُبهجة، بدأ الجدلُ يتصاعد: هل نحن أمام ثورةٍ طبيةٍ تخدمُ الإنسان؟ أم بدايةِ طريقٍ قد تجعلُ «الوعي البشري» سلعةً رقميَّة؟ يرى بعض الباحثين أنَّ الخطَّ الفاصل بين الحريةِ الفكرية والمراقبةِ الرقمية قد يختفي تمامًا عندما يصبحُ الدماغُ متّصلًا بشبكةٍ لاسلكية وعدٌ بالخلاص من الناحيةِ العلمية، تمثِّل واجهاتُ الدماغ والآلة أفقًا مُذهلًا في علاجِ إصاباتِ الحبلِ الشوكي، والزهايمر، وفقدان السمع أو البصر. إنَّها تمنحُ الأملَ لملايينِ المرضى حول العالم، وتُعيدُ تعريفَ العلاقة بين الجسد والعقل والآلة. قد يتمكَّن الإنسانُ في المستقبلِ من كتابةِ نصٍّ بمجردِ التفكير، أو نقلِ ذاكرتهِ إلى جهازٍ رقمي، أو استرجاعِ ذكرياتٍ مفقودةٍ بضغطةٍ واحدة. لكن في المقابل، لا أحد يعرفُ أين ينتهي العلاجُ ويبدأ التحكُّم. الجانب المظلم من الموضوع، يطرح سؤالاً كبيراً، هل يصبح العقلُ متّصلًا بالإنترنت؟ يشكِّك عددٌ من علماء الأعصاب والأخلاقيات الطبية في المشروع، محذّرين من مخاطره: مَن يملك البياناتَ العصبيّة؟ هل يمكن اختراقُ الدماغ كما تُخترق الحسابات؟ هل تصبحُ أفكارُ الإنسان مكشوفةً لشركاتِ التقنية؟ يرى بعض الباحثين أنَّ ما يفعله ماسك هو «هندسةُ الوعيِ البشري» أكثرَ مما هو علاجٌ طبي، وأنَّ الخطَّ الفاصل بين الحريةِ الفكرية والمراقبةِ الرقمية قد يختفي تمامًا عندما يصبحُ الدماغُ متّصلًا بشبكةٍ لاسلكية. التكنولوجيا كقوّةٍ سياسيةٍ جديدة ما يجري في مختبراتِ Neuralink لا يخصُّ الطبَّ فقط، بل يُعيد تعريفَ القوة في القرن الحادي والعشرين. فمَن يمتلكُ التكنولوجيا التي تقرأُ الأفكار أو تزرعُ الذاكرة، يمتلكُ السُّلطةَ المطلقة. وتتساءلُ الأوساطُ الحقوقيّة إن كانت مثلُ هذه التقنيات ستُستخدم يومًا في المراقبة أو السيطرة، أو ربما في الحروبِ الإلكترونيّةِ المستقبلية حيث يصبحُ العقلُ نفسُه ساحةَ معركة. في الوقتِ الذي تختبرُ فيه الولاياتُ المتحدة زراعةَ شرائحَ في الدماغ، ما تزالُ معظمُ الدولِ العربية تكافحُ لتأمينِ الأجهزة الطبية الأساسية في المستشفيات. هذا التفاوتُ لا يُقاسُ بالتقنية فقط، بل بالفكرِ العلمي والسياساتِ البحثيّة. لبنان مثلًا يضمُّ أدمغةً لامعةً في علوم الأعصاب، لكنها تعملُ غالبًا في الخارج بسببِ ضعفِ التمويل والبيئةِ البحثيّة. وإذا استمرَّ غيابُ الرؤيةِ العلمية، فقد نجدُ أنفسنا بعد عقدٍ من الزمن نناقش حقوقَ «البيانات العصبية» بينما لا نملكُ بنيةً تحتيةً لمختبرٍ جيني. الأمل والهيمنة يرى البعضُ في مشروعِ ماسك خلاصًا للبشرية من قيودِ الجسد، ويراهُ آخرون تهديدًا لجوهرِها. فإذا استطاع الإنسانُ مستقبلًا نقلَ وعيه إلى خادمٍ رقمي، فهل سيبقى إنسانًا؟ وإذا تمكَّن الأثرياء فقط من «تحسين» أدمغتهم، فهل يولد عصرٌ جديدٌ من اللامساواة بين العقول؟ ماسك نفسه لا يُخفي طموحه: «هدفُنا أن نصبحَ جزءًا من الذكاءِ الاصطناعي لا ضحاياه». لكنَّ هذه الجملة تختصرُ المعضلة: إنقاذُ الإنسان من الآلة عبرَ الاتحادِ معها. العقلُ كساحةِ صراع اختراعُ Neuralink ليس مجرّدَ ابتكارٍ هندسي، بل تحوّلٌ فلسفيٌّ في ماهيّةِ الإنسان.إنَّه يكشف هشاشةَ الحدودِ بين الجسد والعقل والتقنية، ويفتح سؤالًا وجوديًّا:هل نُطوِّرُ الآلةَ لخدمةِ الإنسان، أم نعيدُ تشكيلَ الإنسان ليتناسبَ مع الآلة؟ وبينما يزرع ماسك رقاقاتِه في العقول، تزرعُ هذه الأسئلةُ نفسَها في ضميرِ العالم:هل المستقبلُ أذكى… أم أكثرُ خطورةً ممّا نظن؟
في لبنان، لا أحد يعرف العنوان الحقيقي لأيّ شيء، لا المواطن، ولا الدولة، ولا حتى “غوغل” نفسه.ربّما وحده الخالقُ يملك نظام الملاحة الدقيق لهذا البلد المعلّق بين الأزمنة والأزمات. في بيروت، وتحديدًا قرب السفارة الكويتية، اختفى أخيرًا الاسم الذي كان يحتلّ النُصب لعقود: “جادة حافظ الأسد”.الاسم الذي وُلِد في زمن الهيمنة السورية على لبنان، مات بعد سقوط النظام السوري نفسه، وكأنّ اللوحةَ المعدنية أُزيلت متأخّرةً عن إعلان الوفاة بنحو عقدين من الزمن. لكن النكتة، كالعادة، لبنانيةُ النكهة: خرائطُ “غوغل” لم تعلم بالحدث بعد.المنصّة التي ترسم العالم بدقّة الأقمار الصناعية، ما زالت تظنّ أن بيروت تسير على “جادة الأسد”، في حين أنّ اللبنانيين أنفسهم بالكاد يسيرون على أيّ جادّةٍ منطقية في حياتهم العامّة. الذاكرة المعدنية لا شيء في لبنان بريء، حتى أسماءُ الشوارع.كلّ لافتةٍ هنا حكايةُ تحالفٍ أو خصومة، زمنٍ صعد فيه زعيمٌ أو سقط آخر.ولأنّ لبنان كان دائمًا مرآةً للآخرين أكثر من كونه انعكاسًا لذاته، فقد امتلأت جغرافيته الرمزية بأسماء رؤساءَ من وراء الحدود: من حافظ الأسد إلى جمال عبد الناصر، مرورًا بموسى الصدر، وكأنّ البلاد تعيش داخل متحفٍ لعصور النفوذ الإقليمي. غير أنّ المفارقة هذه المرّة، أنّ المنطقة التي كانت يومًا تُعرَف بولائها للنظام السوري، هي نفسها التي أزالت اسمه، وربّما دون إعلانٍ رسمي.خطوةٌ صغيرة في لوحةٍ نحاسية، لكنها تختصر انتقال لبنان من “الوصاية” إلى “الحياد الرمزي”، أو لنقل إلى فوضى ما بعد الاصطفاف. الخرائط أبطأ من السياسة في العادة، تكون السياسة أبطأ من التكنولوجيا. لكن في لبنان، انقلبت المعادلة.فالبلدية غيّرت اللافتة، والناس لاحظوا، والإعلام دوّن، وحدها “غوغل” بقيت خارج الحدث.ربّما لأنّ الخوارزميات، مهما بلغت من ذكاء، لا تفهم اللبنانيين. كيف لها أن تواكب بلدًا تتبدّل فيه التحالفات واللافتات مع تغيّر النسيم السياسي؟كيف تضع حدودًا واضحة في بلدٍ يعيش على الخطوط الرمادية؟من وجهة نظرٍ ساخرة، يمكن القول إنّ “غوغل” آخر من يعلم في لبنان. فهي لم تُدرِك بعدُ أنّ الشوارع التي تحمل أسماءَ رؤساء أجانب لم تعد تعبّر عن الجغرافيا بقدر ما تعبّر عن الحقبة.وفي بلدٍ لم ينجح بعدُ في تسمية أبنائه الحقيقيّين، يبدو طبيعيًا أن تبقى أسماؤه معلّقةً بين الخرائط والذاكرة. الجادة والهاوية ربّما حان الوقت لأن يُعيد اللبنانيون تسمية شوارعهم على صورتهم، لا على صورة مَن حكمهم أو أنقذهم أو ابتلعهم.أن تُسمّى الطرقات بأسماء العقول التي بنت، لا القبضات التي حكمت. وحتى ذلك الحين، سيبقى المشهد كما هو: خرائطُ عالقة بين ماضٍ لم يُمحَ ومستقبلٍ لم يُرسَم بعد. لعلّ أجمل ما في القصة، أنّ العالم كلَّه يستطيع اليوم أن يرى، على “غوغل مابس”، مشهدًا فريدًا من نوعه: بلدٌ صغير، أنهكته الأسماء، حتى أصبحت أرضُه تحتاج إلى تحديثٍ… أكثر من تطبيقه.
من إقليمِ دارفور المُضطرب غربَ السودان، برزت قوّةٌ مسلّحة غيّرت وجهَ الصراعِ وموازينَ القوى في البلاد بشكلٍ جذري. هذه القوّة، التي بدأت كميليشيا محليّة عُرفت باسم “الجنجويد”، تحوّلت خلال سنوات قليلة إلى “قوّات الدعم السريع”، إحدى أبرز وأقوى الجماعات المسلّحة في السودان، لتتصدر اليوم عناوينَ الأخبار مع اتّساع نطاق الحرب الأهلية، وورود تقارير عن انتهاكات واسعة النطاق، واتّهامات بمحاولة فرضِ سلطةٍ موازيةٍ للدولة. يثير الدورُ المتنامي لقوّاتِ الدعم السريع ونفوذُها جدلًا واسعًا، ويطرح تساؤلات جوهرية حول موقعِها في المشهدِ السياسي والاقتصادي والعسكري، ومستقبلِ السودان في ظلّ صراعٍ يهدّد بتمزيق نسيجه الاجتماعي وتقويضِ مؤسساته. النشأةُ والصعود قوّاتُ الدعمِ السريع هي قوّة شبهُ عسكرية يقودها الفريقُ أوّل محمد حمدان دقلو، المعروف بلقب “حُمَيدتي”، ويُقدّر عددُ أفرادها بعشرات الآلاف، حيث وصل تعدادُها قبل اندلاعِ الحرب في 2023 إلى نحو 100 ألف مقاتل ينتشرون في دارفور والعاصمة الخرطوم ومناطق أخرى. شكّل عامُ 2015 محطةً مفصلية في مسارِ صعودها؛ فإلى جانب انتشارها في دارفور وجنوب كردفان، شاركت وحداتٌ منها في التحالف العسكريّ الذي تقوده السعودية في اليمن. ووفقًا لتقارير دولية، تلقّت القوات دعمًا وتمويلًا سخيًا من السعودية والإمارات مقابل مشاركتها في العمليات القتالية، ما منحها موارد مالية هائلة وعزّز مكانتها السياسية والعسكرية داخل السودان. بالتوازي، وسّع قادتُها نفوذَهم الاقتصادي عبر السيطرة على مناجم الذهب في دارفور، وبناء شبكات تجارية تمتدّ عبر الحدود مع ليبيا وتشاد، مما أدّى إلى تعزيز مكانتِها كقوة موازية لمؤسسات الدولة، وأثار مخاوفَ متزايدة داخل الجيش السوداني. صدامُ الجنرالات بعد الإطاحة بالبشير في أبريل 2019، صعد حُمَيدتي إلى قلبِ السلطة، متولّيًا منصب نائبِ رئيس المجلس السيادي الانتقالي إلى جانب قائد الجيش الفريق أوّل عبد الفتّاح البرهان.ورغم أن الجنرالين ظهرا كحليفين يسعيان للحفاظ على استقرار الحكم بعد الثورة، إلا أن مصادر القوة والامتيازات التي تمتعت بها قوّات الدعم السريع أثارت قلقًا عميقًا داخل المؤسسة العسكرية. تفاقم التوتر مع بدء مفاوضات الانتقال إلى حكمٍ مدني، وطرح ملف دمج قوات الدعم السريع في الجيش. وقد تمحور الخلافُ الجوهري حول نقطتين أساسيتين: الجدول الزمني للدمج، دفعٌ نحو دمجٍ سريعٍ وفوري لإنهاء الازدواجية العسكرية. طلبُ فترةٍ انتقالية طويلة للحفاظ على الهيكلية والنفوذ.القيادة الموحّدة، الإصرار على أن تكون القيادة العسكرية خاضعة بالكامل للجيش. السعي لدور قياديّ يضمن استقلالية نسبية. ومع تصاعد الاتهامات المتبادلة والتحشيد العسكري في العاصمة، انفجرت المواجهة في 15 أبريل 2023، لتتحوّل الشراكة الهشّة إلى حربٍ أهلية مدمّرة، أدخلت السودان في أخطر منعطف في تاريخه الحديث. طموحاتُ الحكم وخريطةُ النفوذ المتغيّرة فيما تعرّف قوّاتُ الدعم السريع نفسها رسميًا بأنها قوةٌ مُساندة للمؤسسات الأمنية، تعكس تحركاتُها على الأرض طموحاتٍ سياسيةً متزايدة. ففي 15 أبريل 2025، أعلنت القوات تشكيل ما أسمته “حكومة السلام والوحدة” لإدارة المناطق الخاضعة لسيطرتها، وهي خطوة اعتبرها مراقبون مؤشرًا واضحًا على سعيها لبناء سلطة موازية. تتركّز سيطرةُ قوات الدعم السريع بشكلٍ أساسي في غربِ السودان، خاصةً في ولايات دارفور التي تُعدّ معقلها الرئيسي وقاعدة إمدادها المتقدمة. كما تسيطر على مناطق واسعة في ولايتي غرب وجنوب كردفان، وتنتشر في طرقٍ ريفية وحدودية تتيح لها حرية الحركة والوصول إلى خطوط الإمداد من دول الجوار. وفي الأشهر الأخيرة، وسّعت نفوذها ليشمل أجزاءً واسعة من العاصمة الخرطوم ومحيطها، إضافةً إلى أجزاء من ولاية الجزيرة الحيوية. في المقابل، تواجه القوات ضغوطًا متزايدة في الولايات الشمالية والشرقية، وفي المناطق القريبة من القواعد العسكرية الرئيسية للجيش السوداني، مما يحدّ من قدرتها على التوسع في تلك المحاور. ويرى محللون أنها تسعى إلى ترسيخ موقعها في معادلة الحكم المستقبلية، إمّا عبر المشاركة في سلطةٍ مركزية تفاوضية، أو من خلال إدارة مناطق نفوذها بشكلٍ مباشر ككيان شبه مستقل، وهو ما يفتح الباب أمام سيناريوهاتٍ معقدة لمستقبل وحدة الدولة السودانية. الأصول والنشأة تعودُ أصولُ هذه القوّة إلى ميليشيات “الجنجويد” القبلية التي استعان بها نظامُ الرئيس السابق عمر البشير لقمعِ التمرد في إقليم دارفور مطلعَ الألفية. وفي عام 2013، أُعيد تنظيمُها رسميًا لتصبح قوّة تابعة لجهاز الأمن والمخابرات الوطني، تحت ذريعة مكافحة التمرد وحماية الحدود. إلّا أن نفوذَها سرعان ما تعاظم بشكل لافت، حيث حصلت على تسليحٍ ثقيل وموارد مالية ضخمة، وتحولت إلى لاعبٍ عسكري لا يمكن تجاهله.