فَجأةً، وبِلا سابِقِ إنذارٍ، ورغم أنَّني حاولتُ ألّا أَنتقِدَ البلديّةَ التي دعَمت سَبعةَ أعضاءٍ ليكونوا ضِمنَ هيكلِها البلديّ، علَّهم يُغيِّرون، ليكونَ صوتُ صيدا مَسموعًا — لكن بَعضَ مَن فيها يُجبِرك أن “تكسِرَ الجرّةَ” وتتكَلَّم!أيُّ بلديّةٍ أنتُم؟ وعلى ماذا ارتكَزتُم؟ ولأنَّني أُريد أن أكونَ ناقدًا بصِدق، فاسمَحوا لي أن أَسأل:هل يمكنُكم أن تُوضِّحوا للنّاس، للصيداويّين، وللمجتمعِ اللبنانيّ كُلِّه، ما هي العناصِرُ التي اعتَمدتُم عليها في قرارِكم رفضَ مشروعِ “حِمى الزّيرة” الذي قدَّمه الاتِّحادُ الأُوروبّي؟ما هي السَّلبيّاتُ؟ وما الإيجابيّات؟ ومَن المُخوَّل أصلًا أن يُصدِرَ قرارًا وبيانًا بهذه الطَّريقةِ الفيسبوكيّةِ التي يُمرَّرُ فيها هروبٌ من الاتِّحادِ الأُوروبّي؟هل لي أن أعرِفَ إلى متى هذا الاستِهتارُ بعقولِ الصَّيداويّين خاصّةً، واللبنانيّين عامّةً؟ عقم مميت تقولون: “ارتأتِ البلديّةُ أنَّ الحفاظَ على الجزيرةِ بوضعِها الحاليِّ هو الخيارُ الأنسب.”ارتأت؟! كيفَ ارتأت؟ ومَن الذي ارتأى أصلًا؟ ما هذا الأسلوبُ المُستفِزّ؟ بلديّةٌ عقيمة، محاوَلاتٌ فرديّةٌ هنا وهناك، وبعضُ رجالِ الأعمال — نُحترِمُهم “بتحفُّظ” — وبعضُ النّاشطينَ يُزفِّتون طريقًا من هنا، أو يُنظِّمون نشاطًا رياضيًّا من هناك، أو يَجمعون كلابًا شاردة! أن ترفُضوا مشروعًا من الاتِّحادِ الأُوروبّي دونَ أن يَعرِفَ النّاسُ ما هو؟ لا دراسات، لا نقاشَ عامّ، لا عَرضَ على المجتمعِ المَدنيّ أو الفضاءِ العامّ، لا شيء كنّا نَنتظرُ مشاريعَ حقيقيّةً: إعادةَ مَعملِ تدويرِ النّفاياتِ إلى سُلطةِ البلديّة، مُراقبةَ مَعملِ تَكريرِ مياهِ المَجاري، فَرضَ رِقابةٍ على مَعملِ تَكريرِ النّفاياتِ الطّبيّة، مشروعَ فُندقٍ على شاطئِ صيدا، أو حتّى حُلمًا بجِسرٍ بسيطٍ يُوصِلُنا إلى الزّيرةِ التي ارتأيتُم أن تترُكوها “كما هي”! أيُّ وضعٍ حاليٍّ هذا؟ جزيرةٌ تُستَخدَمُ شَهرَينِ في السَّنةِ، وباقي السَّنةِ لِبَعضِ الصَّيّادين وأصحابِ المَراكب؟ تقولون “الحفاظُ على إرثٍ طبيعيٍّ وتاريخيٍّ وإنسانيٍّ”؟أن ترفُضوا مشروعًا من الاتِّحادِ الأُوروبّي دونَ أن يَعرِفَ النّاسُ ما هو المشروع؟ لا دراسات، لا نقاشَ عامّ، لا عَرضَ على المجتمعِ المَدنيّ أو الفضاءِ العامّ، لا شيء! أين الناس؟ أقلَّه اطرَحوا الفِكرةَ على النّاس، على الإعلام، على النُّشطاءِ البيئيّين، لنعرفَ على ماذا “ارتأيتُم”!ضَعوا الشّروطَ، ناقِشوا البُنودَ، لا بأس. لكن أن ترفُضوا لأنَّ “الوضعَ الحاليَّ أنسب”؟فهذا كلامٌ مُستفِزٌّ وساخِرٌ من عقولِ النّاس. ثم لِنكُن صادقين: الزّيرةُ اليومَ هي جزيرةٌ “تنفيعيّة” للبعضِ المحسوبينَ على أطرافِكم، لِمَن يَقدِر أن يُرجِّحَ كفّةً انتخابيّةً ساعةَ الصّندوقِ حين يُفتَحُ وتُطلَى الأصابعُ باللّونِ النّيليّ، و”الانتخاباتُ قَرُبت”.والكُلُّ في صيدا يَعلمُ تمامًا كم يُباعُ فيها الرُّبعُ ونِصفُ الرُّبعِ والسّيجارةُ “المَلغومة”.فلا “تَستَهبِلوا” أهلَ صيدا، ولا تُحاوِلوا تَمريرَ هذا الكلامِ على أنَّه “حِفاظٌ بيئيّ”! ظنَّ النّاسُ أنَّ البلديّةَ الجديدةَ ستكونُ مُختلِفة، بلديّةً شبابيّةً شفّافة، فإذا بنا نرى أنَّ النّزولَ إلى القاعِ صار أسرعَ من أيِّ وقتٍ مضى. ثم تتحدَّثون عن رَمزيّةٍ بيئيّةٍ وسياحيّةٍ وثقافيّة؟هل أنهَيتُم ترميمَ القلعةِ البحريّةِ التي نصَحَ أكثرُ من مُهندسٍ صيداويٍّ بعدمِ اللَّعبِ بحِجارتِها وشكلِها العُمرانيّ، وعدمِ استخدامِ الحديدِ الذي سيَصدأ؟هل رمَّمتُم القلعةَ البرّيّة؟هل أصلحتُم بلاطَ الجور في شوارعِ السّوق؟ كُلُّ هذا مُؤجَّل، لكن “الزّيرةَ بوضعِها الحاليّ” هي الأولويّة! الزّيرةُ ليست أرضًا لتُجّارِ الانتخابات، ولا حكايةً للتّصريحاتِ الفيسبوكيّة.الزّيرةُ هي “مالديف صيدا” الحقيقيّة — هكذا يُسمّيها الصَّيّادنةُ — الزّيرةُ الجميلةُ التي تَستحقُّ أن تُوضَعَ على الخريطةِ السّياحيّةِ بمشروعٍ جادٍّ يَحميها من الفوضى ويَصونَ هويّتَها، رغم أنَّها شَهِدَت شيئًا من الإصلاح، ولا نُنكرُ فضلَ جمعيّةِ حمايةِ الزّيرة. ساعِدوا الصَّيداويّين أن يتنفَّسوا حقًّا، لا بياناتٍ تَمريريّة. أن يعيشوا جزيرتَهم وبحرَهم وبرَّهُم، لا "ما ارتأيتُم".
في بلادٍ أَنهَكَهَا التاريخُ وما زال، لا تُروَى الحكاياتُ إلّا على لَحنِ الألَم، ولا تُفهَمُ المواقفُ إلّا حينَ تُقاسُ بميزانِ الكرامة. قِصَّةُ اليومِ ليست من خيالِ شاعرٍ، بل من فصلٍ حقيقيٍّ في ذاكرةِ الأُمَّة… حكايةُ ياسر عرفات مع الثورةِ الإيرانية، تلك اللحظةُ التي كُشِفَتْ فيها بوصلةُ القيادةِ الفلسطينيةِ على حقيقتِها: أن تكونَ فلسطينُ أولًا، لا تابعةً لأحدٍ، ولا مُلحقةً بأيِّ وصايةٍ، مهما كانَ بريقُها الثوريُّ أو عمقُها العقائديّ ثورةٌ أرادت أن تُخضِعَ الشرقعامَ 1979، اهتزَّت المنطقةُ تحتَ وقعِ انتصارِ الثورةِ الإسلاميةِ في إيران. بدا المشهدُ آنذاك مفعمًا بالأمل، إذ ظنَّ كثيرونَ أن وِلاَدَةَ نظامٍ “مُعادٍ للإمبريالية” ستعني وِلاَدَةَ سَنَدٍ جديدٍ لفلسطين.ومن بينِ المهنِّئينَ الأوائلِ كانَ الشهيدُ ياسر عرفات، الذي حملَ معه التفاؤلَ الفلسطينيَّ إلى طهران، مؤمنًا بأنَّ إيران التي ساهمَ الفلسطينيونَ في دعمِ ثورتِها ستردُّ الجميل، أو على الأقلِّ ستقفُ معهم في خندقٍ واحدٍ من أجلِ القدس. لكن، في طهران، اصطدمَ عرفاتُ بحقيقةٍ أُخرى: الثورةُ التي حلمَ بها حليفةً، أرادت أن تكونَ وصيَّةً. الخمينيُّ في العُلوّ… وأبو عمار في المبدأدخلَ عرفاتُ مجلسَ الخميني، فوجدَ نفسه في مشهدٍ رمزيٍّ لا يخلو من الرسائل:الخمينيُّ يجلسُ على منصَّةٍ مرتفعةٍ، وعرفاتُ في الأسفل؛ لَمسَةٌ مسرحيةٌ في السياسةِ تعني الكثير — أنَّ المرشدَ لا يرى نفسه نِدًّا، بل “قائدًا” لكلِّ الثورات.ولم يقفِ الأمرُ عند ذلك: الخمينيُّ طلبَ وجودَ مترجمٍ رغمَ إتقانِه اللغةَ العربيةَ بطلاقة، وكأنّما أرادَ أن يُبقي جدارًا بينه وبينَ الضيفِ الذي جاءَه مفعمًا بالودّ. ثم جاءت لحظةُ الحسم، حينَ قالَ الخمينيُّ بثقةٍ:«أُفتي بأنَّ الثورةَ الفلسطينيةَ يجبُ أن تُعلَنَ ثورةً إسلاميةً.» فردَّ عليه عرفاتُ بصلابةٍ لا تصدرُ إلّا عمَّن تربَّى على الكرامة:«وأنا ياسر عرفات الحسيني، أُفتي بأنَّها ثورةُ الإنسانِ الفلسطيني، مسيحيًّا كان أم مسلمًا.» هنا انتهى اللقاء… لكن بدأ تاريخٌ آخر: تاريخُ استقلالِ القرارِ الفلسطينيّ. اليوم، في زمنٍ تذوبُ فيه المفاهيمُ، ويُعادُ تعريفُ الهويةِ الفلسطينيةِ تحتَ وطأةِ الانقسامِ والارتهان، تظلُّ هذه الحكايةُ درسًا لا بُدَّ أن يُروَى. فلسطين تُختصر في إنسانِهامنذ ذلك اليوم، فهِمَ العالمُ أنَّ الثورةَ الفلسطينيةَ ليست بندقيَّةً مُؤجَّرة، ولا لافتةً لغيرِها من الثورات.هي ثورةُ إنسانٍ يرى في ترابِ وطنِه قبلةَ الحرية، وفي وحدتِه الوطنيةِ ضمانةَ بقائه.ولأنَّ الاستقلالَ موقفٌ قبل أن يكونَ سياسة، فقد دفعت منظمةُ التحريرِ ومن خلفَها الشعبُ الفلسطينيُّ أثمانًا باهظةً للحفاظِ على هذا الخطِّ الأحمر.لقد أثبتَ عرفاتُ أنَّ الكرامةَ الوطنيةَ لا تُقاسُ بالتحالفات، بل بقدرةِ القرارِ الفلسطينيِّ على أن يقولَ “لا” في وجهِ من يُحاولُ احتواءَه، أيًّا كانَ اسمُه أو مذهبُه. اليوم، في زمنٍ تذوبُ فيه المفاهيمُ، ويُعادُ تعريفُ الهويةِ الفلسطينيةِ تحتَ وطأةِ الانقسامِ والارتهان، تظلُّ هذه الحكايةُ درسًا لا بُدَّ أن يُروَى.من حقِّ الجيلِ الفلسطينيِّ الفَتِيّ، الذي لم يرَ سوى الموتِ والخِذلان، أن يعرفَ أنَّ لأسلافِه مواقفَ صنعت التاريخَ، لا تبعتْه.ومن واجبِنا أن نُذكِّرَه بأنَّ مَن فقدَ استقلالَه لا يحقُّ له أن يبكي على احترامِه. فيا أبناءَ فلسطين… ليس كلُّ مَن يرفعُ رايةَ القدسِ يعنيها، وليس كلُّ مَن يهتفُ باسمِ الثورةِ يؤمنُ بها. الثورةُ الحقَّةُ هي التي لا تُبدِّلُ ولاءَها، ولا تتنازلُ عن روحِها الإنسانيةِ والوطنيةِ في سبيلِ أيِّ مشروعٍ خارجيّ. كانَ يا ما كان… ولا يزالُ في فلسطينَ مَن يقولُ “لا”، ولو وحدَه.
ليست مذهبًا ولا هُويّة، بل النَّسيجَ الذي ربطَ الزمنَ والمعرفةَ والمجتمعَ في حضارةِ الإسلام. ليس مصطلحُ “أهلِ السُّنّة والجماعة” بالمصطلحِ البسيطِ الذي يُحدِّدُ مجموعةً من الناس أو طائفةً من الطوائف، كما صار يُقالُ عنه. لا شكَّ أنّه، في نهايةِ الأمر، يصفُ أو يُحدِّدُ هُويّةً دينيةً لمجموعةٍ كبيرةٍ من الناس قد تُطلِقُ على نفسها لفظَ “الأمّة”، ولكن هذا التحديد لا يمكن أن يكونَ كلَّ ما يُقدّمه هذا المصطلح. تقول المؤرِّخة باتريشيا كرون، وهي من أبرزِ الباحثين في تاريخِ الإسلام وعلومِه، وقد تكونُ أعتى النّاقدين للتاريخِ الإسلاميّ المبكّر، إنّ “السُّنّة” هم أعضاءُ الجماعةِ التي توصّلت إلى تسويةٍ أو، على الأقلّ، إلى اتفاقٍ على أن يختلفوا. فالمسألةُ ليست في وحدةِ العقيدةِ والشريعة، بل في قبولِ فكرةِ الخلافِ والاختلاف. العولمةُ الحضارية قد يكونُ هذا هو السببَ وراء تحوّلِ ما أُريدُ تسميتَه أنا بـ”السننيّة” إلى العولمةِ الحضاريةِ للإسلام؛ فالسننيّة هي النَّسقُ الداخليُّ المنظِّمُ للحياةِ الإسلامية، الذي يصلُ بين أبعادِها المختلفة: النصِّ والعبادةِ والعادةِ والمؤسّسةِ والزمن. فهي صوتٌ يُشهِد، وعادةٌ تُكرِّر، ومؤسّسةٌ تُسنِد، وطريقٌ يَجمع، وزمنٌ يُوحِّد؛ نسيجٌ حضاريٌّ تشكّل ببطءٍ واستمرارٍ عبر القرون، من ألفاظٍ وطقوسٍ وأسفارٍ وكُتبٍ وأصوات. هي ليست مذهبًا جديدًا، بل المبدأَ الحضاريَّ الذي تشكّلت حولَه الثقافةُ الإسلاميةُ بعد القرنِ الخامسِ الهجريّ؛ نظامٌ من القيمِ والمعارفِ والممارسات نظّم علاقةَ المسلمين بالوحي والزمن والمجتمع، وجعلهم، على اختلافِ أمصارِهم ومذاهبِهم، يتحرّكون بإيقاعٍ واحد. هذه هي البنيةُ التي يمكنُ تسميتُها “النَّسقَ السُّنّيّ”، أو الهيكلَ التاريخيَّ الذي منحَ الحضارةَ الإسلاميةَ تماسكَها واستمراريتَها. رحلةُ العلم تعملُ السننيّةُ وفقَ منطقٍ مؤسّسيٍّ متكاملٍ يقومُ على إعادةِ إنتاجِ المعرفةِ الدينيةِ وضبطِها عبر آليّاتٍ متكرّرةٍ ومتراكبة. ففي جوهرِ هذا المنطقِ مثلاً، يظهرُ السماعُ بوصفِه الوسيلةَ الأساسيّةَ لانتقالِ النصوصِ وضمانِ صحتِها. فالعلاقةُ بين المعلِّمِ والمتعلِّم لم تكن علاقةَ نقلٍ ميكانيكيٍّ، بل عمليّةَ تحقّقٍ متواصلةٍ تحفظُ للنصِّ سلطانَه من خلالِ السندِ الموثوق. ولذلك يمكنُ النظرُ إلى الإسناد بوصفِه نظامًا علميًّا للثقة قبل أن يكونَ إجراءً شكليًّا؛ إذ مكّنَ المجتمعاتِ الإسلاميةَ من بناءِ ذاكرةٍ معرفيّةٍ مشتركةٍ تتجاوزُ الحدودَ السياسيةَ والجغرافية. وإلى جانبِ السماع، مثّلتِ الرحلةُ في طلبِ العلم أحدَ أعمدةِ هذا النظام؛ فقد أسهمت في تشكيلِ شبكةٍ واسعةٍ من التواصلِ العلميّ بين المراكزِ الإسلامية، بحيث صار تداولُ الأفكار يتمّ داخلَ فضاءٍ واحدٍ تتداخلُ فيه المدارسُ والمذاهب. وهكذا تحوّلت السنِّيّة إلى بُنيةٍ شبكيّةٍ تعتمدُ على تنقّلِ العلماءِ والطلاب، وعلى استمراريةِ التعليمِ والإجازة، بما يضمنُ بقاءَ النَّسقِ المعرفيِّ في حالةٍ من الحيويةِ والتجدّد. أمّا المؤسّساتُ التعليميةُ والدينية، مثل المدارسِ والوقفِ والمكتبات، فقد أدّت دورَها في تحويلِ المعرفةِ إلى ممارسةٍ منظّمةٍ قابلةٍ للتكرار. فالمدرسةُ والوقفُ لم يكونا مجرّدَ أدواتِ تعليمٍ أو تمويل، بل آليّاتٍ لضبطِ الإيقاعِ الحضاريّ العامّ؛ تضمنُ استمرارَ التعليمِ والتدوينِ حتى في فتراتِ الاضطرابِ السياسيّ، وتحافظُ على وحدةِ المعاييرِ العلميةِ واللغويةِ في مختلفِ الأقاليم. في تجاربِ المشرقِ الحديث، لا سيّما في لبنانَ وسوريا والعراق، ظهرتْ تحالفاتٌ غيرُ متوقَّعةٍ التقت جميعُها عند هدفٍ واحد: تجاوزِ السننيّة بوصفِها النسيجَ الحضاريَّ التاريخيَّ الذي يملكُ المجالَ العامّ النسيجُ العجيب ومن خلالِ هذه العناصرِ مجتمعةً: السماعِ، والرحلةِ، والمؤسّسةِ، وغيرها كثير، استطاعتِ السننيّة أن توفّرَ إطارًا مستقرًّا لإدارةِ المعرفةِ الدينيةِ عبر الزمن. فهي ليست عقيدةً جامدةً، بل منظومةً متحرّكةً تُنسّق بين النصِّ والعقلِ والزمن، وتحوّلُ الدينَ من مجموعةِ نصوصٍ إلى حضارةٍ تمتلكُ نظامًا داخليًّا للاتصالِ والاستمرار. سمّيتُ هذا النسيجَ “عجيبًا” لأنّه استطاع أن يوفّق بين مكوّناتٍ متباعدةٍ من دون سلطةٍ مركزيةٍ تُلزمُها، فحوّلَ الخلافَ بين المدارسِ والمذاهبِ إلى آليّةٍ منظّمةٍ لإنتاجِ المعرفة، وجعلَ الاختلافَ جزءًا من بُنيةِ النظامِ لا تهديدًا له. لقد أعادت السننيّة ترتيبَ العلاقةِ بين الوحيِ والعقلِ والواقع بطريقةٍ متوازنةٍ؛ فلا يُقصى النصُّ لصالحِ العقل، ولا يُلغى الاجتهادُ بحجّةِ الحرف، بل يُبنى تفاعلٌ عمليٌّ بين مراتبَ محدّدة. ولم تكنِ السننيّة مجرّدَ منظومةٍ تنظّمُ الخلافَ أو تضبطُ التنوّع، بل الإطارَ الحضاريَّ الأوسع الذي تشكّل فيه العالمُ الإسلاميُّ بعد تراجعِ السلطةِ المركزيةِ للخلافة. فقد مثّلتِ البنيةَ التي أمكنَ من خلالها استمرارُ الحياةِ العلميةِ والدينيةِ والاجتماعيةِ في مختلفِ الأقاليم، من دون حاجةٍ إلى مركزٍ سياسيٍّ واحدٍ أو جهازٍ بيروقراطيٍّ موحّد. النَّسقُ الحضاريّ بهذا المعنى، يمكنُ النظرُ إلى السننيّة بوصفِها النَّسقَ الحضاريَّ الذي استقرّت عليه دارُ الإسلام في عصورِها الوسطى، أي النظامَ الذي نظّمَ التداولَ المعرفيَّ واللغويَّ والدينيَّ داخل فضاءٍ متّصلٍ ومتنوّعٍ في آنٍ واحد. وقد وصفَ مارشال هودجسون، وهو صاحبُ أحدِ أهمّ كتبِ التاريخِ الإسلاميّ، هذه المرحلةَ بـ”غلبةِ النَّسقِ السُّنّيِّ العالميّ”، مشيرًا إلى أنّ هذا النَّسقَ لم يكنْ سلطةً سياسيةً ولا مذهبًا واحدًا، بل شبكةً حضاريةً واسعةً تجاوزتِ الانقساماتِ القوميّةَ والإقليميّة، وجمعتِ العالمَ الإسلاميَّ في منظومةٍ مشتركةٍ من العلمِ واللغةِ والشريعةِ والعادة. لقد مثّلَ هذا التحوّل لحظةً فارقةً في تاريخِ الإسلام؛ إذ تحوّلتِ السننيّةُ إلى النسيجِ العامِّ للحضارةِ الإسلامية، واستطاعت أن تُؤطّرَ نشاطَ العلماءِ والفقهاءِ والمتصوّفةِ والإداريين في مدنٍ متباعدةٍ جغرافيًّا، لكنّها متّصلةٌ من حيثُ اللغةُ والمنهجُ والمرجعية. ومن هنا يمكنُ القولُ إنّ “غلبةَ النَّسقِ السُّنّيِّ العالميّ” لم تكنْ ظاهرةً فكريةً فحسب، بل تأسيسًا لنظامٍ حضاريٍّ استمرَّ قرونًا، ووفّرَ للإسلام بنيتَهُ العالميةَ المستقلّةَ عن السلطةِ السياسية. النسيجُ لا يقومُ على الصوتِ الأعلى، بل على الصوتِ الأبقى. الفكرةُ والدولة قد يقولُ قائلٌ إنّ هذا النجاحَ نتيجةُ سلطةٍ سياسيةٍ تبنّتِ السُّنّةَ وفرضتْها، وأنّه من مصلحةِ هذه السلطةِ أن توحِّدَ المفاهيمَ لتملكَ القوّةَ جميعَها وتضمنَ استمراريتَها. ولكن ماذا نقولُ في محنةِ الإمام أحمد؟ حينَ استقوى الخليفةُ المأمونُ بالقولِ في مسألةِ خلقِ القرآن، فثبتَ رجلٌ واحدٌ أمامَ سلطانٍ لا يُنازَع. لماذا غلبتِ الفكرةُ الدولةَ والسلطةَ والقوّة؟ إنّها ليست فكرةً ولا رجلًا، بل نَسقٌ متكاملٌ ترسّخ في البنيةِ التحتيةِ للحضارةِ الإسلامية، التي لا تقبلُ الانقطاعَ ولا التغييرَ الجذريّ. والمثالُ نفسه يقوّضُ فرضيّةَ السلطةِ ومصالحِها في ترسيخِ هذا النَّسق. ولهذا فشلتِ السلطاتُ كلُّها، قديمًا وحديثًا، في أن تُعيدَ تشكيلَ النسيجِ على هواها: يمكنُها أن تُغيّرَ رأسًا أو تُبدّلَ سياسةً، لكنّها لا تملكُ أن تُعيدَ صوغَ النَّسقِ الحضاريَّ نفسه. الصوتُ الأبقى ولئن كثرتِ الفِرقُ والمذاهب، وقد صُنّفتْ فيها الكُتب، فإنّ واحدةً منها لم تتحوّلْ إلى نسيجٍ جامع. ظلّت ظواهرَ موضعيةً أو لحظاتِ احتجاجٍ لامعة، ثم تنطفئ حين تنقطعُ سلاسلُ التكرارِ التي تُحوّلُ الفكرةَ إلى عادةٍ، والعادةَ إلى مؤسّسة. النسيجُ لا يقومُ على الصوتِ الأعلى، بل على الصوتِ الأبقى. في العقودِ الأخيرة، شهدتِ المنطقةُ تحوّلاتٍ فكريةً وسياسيةً عميقةً سعتْ إلى إعادةِ تعريفِ المجالِ الإسلاميِّ وموقعِه في التاريخ. وبرزتْ في هذا السياقِ محاولاتٌ متكرّرةٌ لتفكيكِ النَّسقِ السُّنّيِّ الذي شكّل، على مدى قرون، الإطارَ الحضاريَّ الأوسعَ للعالمِ الإسلاميّ. لم تتّخذْ هذه المحاولاتُ شكلًا واحدًا، بل تنوّعتْ بين حركاتٍ متطرّفةٍ أرادتْ إعادةَ صياغةِ الإسلامِ بالعنفِ والقطيعةِ مع تراثِه، ومشاريعَ أيديولوجيّةٍ يساريةٍ أو قوميّةٍ أو مذهبيّةٍ حاولتْ أن تحلَّ محلَّهُ بأنساقٍ فكريةٍ