السرُّ ليس كلماتٍ تُقال، بل مساحةٌ مُقدَّسة بين عقلَين يتبادلان الصمتَ أكثر مما يتبادلان الكلام. كلما اتّسعت هذه المساحة، ضاق احتمالُ الخيانة، وكلما امتلأت بالضجيج، صار السرُّ مادّةً في نشرةِ المساء. لكنّ الإنسان المعاصر، في لحظةٍ من الغرور الرقمي، صار يُلقي أسرارَه كما يُلقي أحدُهم خبزاً لطيورٍ غريبة، طمعاً في تفاعلٍ أو إعجابٍ عابر. وهكذا تحوّل الاعترافُ إلى محتوى، والبوحُ إلى عرضٍ حيّ أمام جمهورٍ لا يعرف الرحمة. ليس الشخص بل الظاهرة حين نقول: لا تُسرّ لترامب، فإننا لا نُحذّر من رجلٍ بعينه، بل من ظاهرةٍ تجسّد عصراً بأكمله؛ عصراً جعل من كلِّ شيءٍ قابلاً للتسويق… حتى الأسرار.ترامب لم يعُد مجردَ سياسي؛ بل صار تجسيداً للرأسمالية المتلفزة، التي تخلط بين السلطة والمسرح، بين الحقيقة والمشهد، بين الدولة والعرض التجاري. منذ اتفاق شرم الشيخ الأخير، بدا ترامب في صورتِه الأوضح: ملكُ العالم الجديد.يقف في المنتصف كما لو أنّه يوقّع باسم الحضارات لا باسم دولة، بعينَين تتحدّثان بلغة المخرج لا الدبلوماسي، وبحضورٍ يفرض نفسه كأنّ التاريخ مجرّد ديكورٍ في برنامجه العالمي الطويل.لقد أدرك ترامب ما لم يُدركه غيره: أنّ الكاميرا أقوى من الجيوش، وأنّ المشهد أهمّ من المعنى، وأنّ العالم لا يحكمه اليوم مَن يملك الحقيقة، بل مَن يملك المنصّة. الأسرارُ عملةً في السوق في عالم ترامب، لا وجود لكلمة سرّ.كلّ ما يُقال يُختزَن في ذاكرةٍ إعلامية بانتظار اللحظة المناسبة للبيع.لا يوجد صديق، بل مشاهد محتمل.ولا يوجد وفاء، بل ترند قادم. مَن يبوح لترامب، كأنّه يوقّع عقداً غير مكتوب، يسمح بتفكيك ذاته في أوّل خلاف.هو لا يخونك لأنّه شرير، بل لأنّه نتاجُ نظامٍ لا يعرف إلا لغة الصفقة.حتى الصدق عنده يُقاس بمدى قابليته للبثّ، والموقف الأخلاقي يُحدَّد بعدد المشاهدات. في عالم ترامب، لا وجود لكلمة سرّ. كلّ ما يُقال يُختزَن في ذاكرةٍ إعلامية بانتظار اللحظة المناسبة للبيع شرم الشيخ… السلامُ مشهداً ما بدا للعالم اتفاقاً لوقف النار في غزّة، كان في عمق الصورة عرضاً جديداً لإعادة إنتاج النفوذ الأميركي بلغة المسرح لا السياسة.ترامب في الوسط، يبتسم بثقة المخرج لا الوسيط، والزعماء إلى جانبه مجرّد كومبارسٍ في مشهدٍ مُعَدٍّ مسبقاً. السلام بدا كإعلانٍ تسويقيّ بلونٍ إنجيليٍّ وابتسامةٍ جمهورية، لا كتحوّلٍ حقيقيّ في ميزان القوى.لقد أصبحنا نعيش في زمنٍ تُستبدَل فيه الثقة بالمشاهدات، والمروءة بالفرجة، والخصوصية بالتفاعل. لم تعُد الأسرار تُحفَظ، بل تُؤرشَف في ذاكرة السوق الكبرى، بانتظار أن تُستخرَج عند الحاجة.مَن يثق بترامب المعاصر — سواء كان صديقاً أو إعلاماً أو منصّة رقمية — يضع رأسه في فم السوق، ويظن أنّ الوحش سيتحوّل إلى ناصحٍ أمين.لكن الوحش لا يُروَّض… بل يُتابَع ويُصفَّق له. في عالمٍ يحكمه الضوءُ لا الضمير، أصبحت الثقة رفاهيةً أخلاقية لا يملكها إلا مَن قرّر الصمت. احكِ لنفسك، لا للعالم. فالعالمُ اليوم لا يُنصِت ليحمي ما يسمع، بل ليسوّقَه. وما لم تفهم هذه القاعدة، ستجد نفسك جزءاً من العرض… لا من الحقيقة. Click here
في كلِّ صفحةٍ من التاريخ، هناك روايتان: روايةٌ تُنشَر، وأخرى تُخنَق في الصمت. وبين القلمِ والسيف، يقف السؤالُ الذي لم يجدْ إجابةً نهائية حتى يومِنا هذا: مَن يكتبُ التاريخ؟هل هو المُنتصِر الذي يمتلك القوّةَ والمنابر؟ أم الحقيقة التي تبقى حيّةً، تنتظر لحظةَ انكشافها مهما طال الزمن؟ منذ فجرِ الحضارة، كان التاريخُ مرآةَ الأمم، لكنه كثيراً ما كان مرآةً مشروخة. فالحروب لا تكتفي بقتل البشر، بل تقتل أيضاً الذاكرة، فتتركُ المُنتصِرَ يُدوّن ما يشاء، ويمحو ما يشاء. وهكذا، تصبح الحقيقة ضحيةً أخرى على صفحات التاريخ. يقول الكاتبُ البريطاني جورج أورويل: «مَن يتحكّم في الماضي يتحكّم في المستقبل، ومَن يتحكّم في الحاضر يتحكّم في الماضي.»عبارة تختصر مأساةَ التاريخ الإنساني، حيث تتحوّل الأقلامُ إلى أدواتِ سلطة، لا إلى شهودِ حق. المُنتصِر يكتب… لكن بأيِّ حِبر؟ مَن يتأمّل كتبَ التاريخ يُدرك أن المُنتصِر غالباً هو مَن يكتب الروايةَ الأولى. فالإمبراطورية الرومانية مثلاً، رسمت خصومَها كـ«برابرةٍ متوحشين»، بينما كانوا شعوباً تدافع عن أرضها وهويتها.وفي الحروبِ الصليبية، وُصفت الحملات بأنّها «تحريرٌ للأرض المقدّسة»، رغم أنّها كانت غزواً ونهباً تحت غطاءٍ ديني.حتى في الفتوحاتِ الحديثة، كان الاستعمارُ الأوروبي يُقدَّم في الكتب المدرسية على أنه «تمدينٌ للشعوب»، لا نهبٌ لثرواتها واستعبادٌ لأهلها.إنها لعبةُ الأقلام بعد صمت السيوف. قد يطمسُ المُنتصِر الحقيقةَ مؤقتاً، لكنه لا يستطيع أن يدفنها أبداً، فالتاريخ لا يُكتب بالحبر فقط، بل يُنقش بالعدل والذاكرة والدم فلسطين… شاهدٌ حيّ على تزوير الرواية في واقعنا المعاصر، تقف فلسطين المثالَ الأوضح على معركة الحقيقة ضد روايةِ القوّة.منذ أكثر من سبعة عقود، يحاول الاحتلالُ أن يُعيد كتابةَ التاريخ بمداد الزيف، فيحوّل المظلوميةَ إلى تُهمة، والحقَّ إلى جُرم.لكن الأرض لا تنسى، والذاكرة لا تُمحى.فكلُّ زيتونةٍ باقية، وكلُّ بيتٍ مهدوم، وكلُّ حجرٍ ما زال شاهداً على أن التاريخَ الحقيقي يُكتَب بالدم لا بالحبر. رغم ما يملكه العدو من أدواتٍ إعلامية ضخمة ودعمٍ سياسيٍّ غير محدود، تبقى الكاميرا البسيطة، وصوت الشاهد، وصورة الطفل المكلوم أصدقَ من ألف كتابٍ مُزيَّف.وفي زمن الإعلام الرقمي، تغيّر ميزانُ القوّة: لم يَعُد التاريخ يُكتب فقط بأقلام المنتصرين، بل بعدسات الهواتف ووعي الشعوب. بين القولَين… مَن يملكُ الخاتمة؟ بين مَن يقول إن «المُنتصِر هو مَن يكتب التاريخ»، ومَن يرى أنّ «الحقيقة لا بد أن تظهر»، يقف الواقع شاهداً على صدقِ القولين معاً؛ فالمُنتصِر يكتب المسوّدةَ الأولى، لكن الزمنَ وحده يُراجعها: الوثائقُ تظهر، الشهودُ يتكلّمون، والمظلومون يورّثون أبناءَهم الذاكرة كما يورّثون الأرض.وربما تتأخّر الحقيقةُ في الوصول، لكنها لا تُهزَم أبداً. التاريخ ليس ما يُكتب بالحبر، بل ما يُنقش في الضمير الإنساني. قد يطمس المُنتصِر الحقيقةَ مؤقتاً، لكنه لا يستطيع أن يدفنها أبداً. فالتاريخ لا ينام، والحق لا يشيخ. وإن كتب المُنتصِر السطرَ الأوّل، فالحقيقة وحدَها مَن تكتبُ الخاتمة.
علمت جريدة “البوست” من مصادر سياسيّة مطّلعة أنّ الرئيس الجديد لبلدية صيدا مصطفى حجازي مثُل منذ أيّام أمام المدّعي العام المالي القاضي ماهر شعيتو، على خلفيّة قضايا تتعلّق بالفساد المستشري والمخالفات المسجلة في عمل معمل النفايات في صيدا منذ سنين. وبحسب عارفين، فقد حضر حجازي برفقة محامي البلدية ح. ش. (الذي للأمانة لا يتقاضى في عقده السنوي الموقّع مع البلدية إلا دولارًا واحدًا كبدل أتعاب) إلى مكتب شعيتو في قصر العدل في بيروت، حيث جرى الاستماع إليه في الدعوى المقدَّمة من قبل النائب أسامة سعد بحقّ مخالفات معمل النفايات والعمل القائم فيه، والتي نامت في الأدراج منذ سنين طوال، لتستفيق مجددا مع تسلم شعيتو مهامه. خلال اللقاء، جهد حجازي لنفي أن يكون له أيّ علاقة بالموضوع، بحكم موقعه السابق كعضوٍ في المجلس البلدي، وموقعه الحالي كرئيسٍ للبلدية، حيال كلّ ما يُساق من مخالفات مسجَّلة بحقّ المعمل والقائمين عليه. وشدّد على أنّ مسؤوليّة التواقيع التي تثير الكثير من علامات الاستفهام والريبة — لما تختزنه من روائح كريهة — كانت تُوقَّع من قبل رئيس اتحاد بلديات صيدا ـ الزهراني في حينه رئيف يونان. وانتهى اللقاء، الذي لم يكن الأوّل من نوعه، على أن يُستكمَل في جلسات لاحقة. يؤكّد عارفون أنّ القاضي شعيتو ماضٍ في تحقيقاته في هذا الملف الذي يشبه “مغارة علي بابا صيداويّة” إلى الآخر، بعد الكلام الكثير الذي أُثير من أكثر من جهة حول المخالفات الحاصلة في عمل المعمل وأدائه. علمًا أنّ التشعّب في التدقيق بالموضوع بحسب مطلعين سيُظهر أنّ أطرافًا سياسيّة وقوى كثيرة متورّطة في النفايات والأوساخ حتى النخاع، وهو ما ستظهره التحقيقات.