مَن هوَ سِيبَاستيانُ جوركا الذي دخلَ قصرَ بعبدا والسِّراي الحكومي ووزارةَ المال، ولم تَعْصِ أمامَهُ دائرةٌ أو مؤسّسةٌ رسميّةٌ أو غيرُ رسميّةٍ لبنانيّة؟مَن هوَ هذا الرَّجلُ الفارعُ الطولِ الذي يتقدَّمُ وَفْدَ وزارةِ الخزانةِ الأميركيّةِ لشؤونِ الإرهابِ والاستخباراتِ الماليّة، القادمِ إلى لبنانَ لبحثِ ملفّاتِ تمويلِ الإرهابِ وتبييضِ الأموال، إلى جانبِ “الإصلاحاتِ” الماليّةِ المطلوبةِ من لبنان؟ إنَّهُ الرَّجلُ الَّذي استُقْدِمَ إلى الشَّرقِ الأوسطِ لِتَجفيفِ مَنابِعِ «حِزْبِ الله» الماليّةِ وحِصارِه. في مسارٍ مهنيٍّ مريب، عاد جوركا، الشخصيةُ الإعلاميّةُ والسياسيّةُ التي لا تكفُّ عن إثارةِ الجدل، ليحجزَ مقعدًا رفيعًا في إدارةِ دونالد ترامب الثانية. جوركا، الذي بنى شهرتَه على تفسيرِ الإرهاب من منظورٍ أيديولوجيٍّ بحت، يُجسّدُ عودةَ نهجِ “أمريكا أولًا” إلى مؤسّسةِ الأمنِ القومي، حاملًا معه تاريخًا من النقاشاتِ الحادّة حول مؤهلاتِهِ الأكاديميّة وارتباطاتِهِ السياسيّةِ السابقة. النشأة وُلِدَ جوركا في لندن عام 1970 لعائلةٍ مجريّة، وبدأ مسارَهُ المهنيَّ في المجر مطلعَ التسعينيّات، حيثُ عمِلَ في وزارةِ الدفاع، وحصلَ على درجةِ الدكتوراه في العلومِ السياسيّة. لكن نجمَهُ بدأ يسطعُ في الولاياتِ المتحدة بعد حصولِهِ على الجنسيّة الأميركيّة عام 2012، ليتحوّلَ إلى مُعلّقٍ بارزٍ في وسائلِ الإعلام المحافظة، مدافعًا شرسًا عن رؤيةِ ترامب السياسيّة. بلغَ هذا المسارُ ذروتَهُ في يناير 2017 بتعيينِهِ نائبًا لمساعدِ الرئيس، وهو منصبٌ استشاريٌّ لمكافحةِ الإرهاب في البيتِ الأبيض. إلّا أنّ فترةَ عملِهِ لم تدم طويلًا، إذ غادر في صيفِ العامِ نفسِهِ وسطَ تساؤلاتٍ حول صلاحياتِهِ وتصريحِهِ الأمني. ليعودَ من جديدٍ إلى مجلسِ الأمنِ القومي، ما يفتحُ البابَ أمامَ تساؤلاتٍ حول تأثيرِهِ المحتملِ على سياساتِ مكافحةِ الإرهابِ الأميركيّة. الأيديولوجيا أولًا وأخيرًا يكمُن جوهرُ فكرِ جوركا في تركيزِهِ المطلق على البُعدِ الأيديولوجي، وتحديدًا ما يسمّيه “الإسلام المتطرّف”، باعتبارهِ المحرّكَ الأساسيَّ للإرهاب المعاصر. يرى أنّ أيَّ استراتيجيةٍ أمنيّةٍ لا تُعالِجُ هذا “التهديد الفكري” بشكلٍ مباشر هي استراتيجيةٌ قاصرة.هذا المنهجُ، الذي يُميّز كتاباتِهِ وتصريحاتِهِ، يضعُهُ في خلافٍ مباشر مع قطاعٍ واسعٍ من خبراءِ الأمنِ القومي الذين يتبنّون تحليلًا متعدّدَ العوامل يأخذُ في الاعتبار الظروفَ الاقتصادية والاجتماعية والسياسية. لم يكن مسارُ جوركا خاليًا من العقبات. فقد واجهَ تدقيقًا إعلاميًا وأكاديميًا مكثّفًا بشأنِ خلفيتِهِ. تقاريرُ استقصائيّةٌ ربطتْهُ بشخصياتٍ وأحزابٍ قوميّة في المجر، وهي اتهاماتٌ نفاها بشدّة. كما شكّكَ أكاديميّون وصحفيّون في مصداقيّةِ أبحاثِهِ ودرجتِهِ العلميّة، ما ألقى بظلالٍ من الشكِّ على مكانتِهِ كخبيرٍ تقنيٍّ في مجالِ مكافحةِ الإرهاب. يرى مؤيدوهُ فيه صوتًا شجاعًا لا يخشى تسميةَ التهديداتِ بأسمائها الحقيقيّة، بينما يعتبرهُ منتقدوه، ومن ضمنهم منظماتٌ حقوقيّة وخبراءُ أمنيون، شخصيةً أيديولوجيّةً تفتقرُ إلى العمقِ التحليليِّ المطلوبِ للمناصبِ الحسّاسة. في مجلس الأمن القومي من الناحيةِ العمليّة، أدّى تعيينُ جوركا إلى إعادةِ توجيهِ أولويّاتِ مكافحةِ الإرهاب نحوَ التركيزِ على التياراتِ الفكريّة، وتغييرِ الخطابِ الرسميِّ المتعلّقِ بالهجرة والإسلام السياسي. لكن قدرتَهُ على إحداثِ تغييرٍ حقيقيٍّ اصطدمتْ بتعقيداتِ البيروقراطيّةِ الأمنيّة، حيثُ تتشاركُ وكالاتُ الاستخباراتِ والبنتاغون ووزارةُ الخارجيّة في صناعةِ القرار. ومع ذلك، يبقى سِيبَاستيان جوركا شخصيةً محوريّةً في فهمِ التحوّلاتِ الفكريّة داخل اليمينِ الأميركي. لا يعكسُ وجودُهُ في هذا المنصبِ الرفيع فقط عودةَ شخصٍ مثيرٍ للجدل، بل يُشيرُ إلى انتصارِ رؤيةٍ أيديولوجيّةٍ معيَّنة في صياغةِ سياساتِ الأمن القومي، ما جعل تأثيرَهُ — سواءٌ كان محدودًا أو واسعًا — محطَّ أنظارِ المراقبين في واشنطن وحولَ العالم. يقوم كتابُ جوركا على فرضيّةٍ مركزيّة واحدة، الحربُ ضدَّ الإرهاب ليست مجرّدَ عمليةٍ عسكريّة أو استخباراتية، بل هي حربٌ أيديولوجيّةٌ في المقامِ الأول. يرى أنّ الولايات المتحدة وحلفاءَها فشلوا في تحقيق نصرٍ حاسم لأنهم يرفضون تسميةَ العدوِّ باسمِهِ الحقيقي وفهمَ دوافعِهِ الفكريّة كتاب “هزيمة الجهاد” لجوركا يقوم كتابُ جوركا على فرضيّةٍ مركزيّة واحدة، الحربُ ضدَّ الإرهاب ليست مجرّدَ عمليةٍ عسكريّة أو استخباراتية، بل هي حربٌ أيديولوجيّةٌ في المقامِ الأول.يرى أنّ الولايات المتحدة وحلفاءَها فشلوا في تحقيق نصرٍ حاسم لأنهم يرفضون تسميةَ العدوِّ باسمِهِ الحقيقي وفهمَ دوافعِهِ الفكريّة. 1) تشخيص المشكلة: العدو هو “الأيديولوجيا الجهادية” رفضُ التفسيرات الاجتماعية والاقتصادية: يرفضُ جوركا بشدّة التحليلاتِ التي تربطُ الإرهابَ بالفقرِ أو البطالةِ أو السياسةِ الخارجية الأميركيّة. يعتبرُ هذه التفسيرات “أعذارًا” تتجاهلُ جوهرَ المشكلة. العدوُّ ليس “الإرهاب”: يجادل بأنّ “الإرهاب” مجردُ تكتيكٍ، مثل “الحرب الخاطفة” (Blitzkrieg)، وليس عدوًا بحدّ ذاته.العدوُّ الحقيقي، في نظرِهِ، هو الأيديولوجيا الجهادية العالميّة التي تستلهمُ أفكارَها من شخصياتٍ مثل سيد قطب وأبي بكر ناجي، وتهدفُ إلى إعادةِ تأسيسِ الخلافة وتطبيقِ الشريعةِ بالقوة. التشابه مع الحرب الباردة: يقارنُ جوركا بين الأيديولوجيا الجهادية والأيديولوجيا الشيوعية. وكما هُزِمَت الشيوعية عبر استراتيجيةِ احتواءٍ طويلة الأمد قادها جورج كينان، يرى أنّ هزيمةَ الجهادية تتطلبُ استراتيجيةً مماثلة تُركّز على تفكيكِ الأيديولوجيا من الداخل. 2) الاستراتيجية المقترحة: “خطة كينان للقرن الحادي والعشرين” يقترح جوركا خطةً من ثلاثِ ركائزَ أساسيّة: أولًا: نزعُ الشرعية عن الأيديولوجيا قلبُ الاستراتيجية. يدعو إلى تمكينِ الأصواتِ المسلمة المعتدلة لتتولّى مواجهةَ الفكرِ الجهادي. دورُ الولايات المتحدة: توفيرُ منصّاتٍ ودعمٍ لهذه الأصوات. ثانيًا: العملُ العسكري والاستخباراتي المحدود. يرفضُ “بناءَ الدول”، ويُفضّل دعمَ الحلفاءِ المحليين للقتال على الأرض، مع دعمٍ أميركيٍّ استخباراتي وجوي. ثالثًا: تعزيزُ الدفاعات الداخلية، يدعو إلى: تدريبِ الشرطة على فهمِ علاماتِ التطرف مراقبةٍ أكثرَ صرامة للمساجدِ المشتبه بها. 3) نقاط الضعف والنقد تبسيطٌ مُفرِط: يهملُ عواملَ اجتماعية واقتصادية وسياسية مؤثرة. إشكالية تحديد “المعتدلين” داخل المجتمعات المسلمة. تجاهلُ خطر اليمين المتطرف في الغرب. خطابٌ استقطابي قد ينفّرُ المسلمين ويُقوّي دعايةَ المتطرّفين. يقدّم جوركا رؤيةً واضحة ومتماسكة، لكنها مثيرةٌ للجدل. قد تجد بعضُ أفكارِهِ صدى لدى صُنّاعِ القرار، إلا أنّ نهجَهُ الأيديولوجيَّ الصارم يجعلُهُ في منافسةٍ مع مقارباتٍ أكثرَ شمولًا يتبنّاها غالبُ خبراءِ الأمن القومي اليوم.
امتد عمر الإمبراطورية الرومانية لقرون طويلة، حيث بسطت هيمنتها على مساحات شاسعة شملت ثلاث قارات، وحولت البحر الأبيض المتوسط إلى بحيرة رومانية خالصة، حتى أصبحت جميع الطرق تؤدي إلى روما، في دلالة على مركزيتها المطلقة. فرضت روما سلطتها بقوة عسكرية حاسمة، فلم تكن هناك قوة في ذلك العصر قادرة على تحدي هيمنتها أو الوقوف في وجه نفوذها. وتُعد قرطاجة، المدينة التي كانت تنافسها على السيادة البحرية، مثالاً واضحاً على ذلك. فبعد انتهاء الحروب البونيقية، قامت القوات الرومانية بتدمير المدينة تدميراً شاملاً، حيث قُتل رجالها، واستُعبدت نساؤها وأطفالها، وأُحرقت مبانيها ومعابدها حتى سويت بالأرض. وتذكر بعض الروايات التاريخية أن الرومان قاموا بنثر الملح على أراضيها لمنع الزراعة فيها، في عمل يعكس رغبتهم في محو أي أثر لعدوهم اللدود. أما الشعوب التي خضعت لسيطرتها، فقد تحول الكثير من أفرادها إلى عبيد يتم بيعهم وشراؤهم في الأسواق. وعندما اندلعت ثورة العبيد الشهيرة بقيادة سبارتاكوس، التي طالبت بالحرية والكرامة الإنسانية، كان رد روما قاسياً، حيث تم صلب ستة آلاف من الثوار على طول الطريق الممتد بين مدينتي كابوا وروما، في مشهد يعبر عن مدى قسوة الدولة في التعامل مع من يهدد نظامها. لم تقتصر ممارسات القوة على الحروب والاستعباد، بل امتدت لتشمل أشكالاً من الترفيه العام التي ارتبطت ارتباطاً وثيقاً بحضارتها، وأبرزها مدرج الكولوسيوم. لم يكن هذا الصرح العظيم مسرحاً للفن أو الفكر، بل كان حلبة للمصارعة والقتال حتى الموت، حيث كان يُلقى بالآلاف من أسرى الحرب والعبيد والمجرمين لمواجهة وحوش ضارية، وسط هتافات الجماهير. لقد كانت هذه المشاهد الدموية جزءاً من الحياة اليومية في روما، ووسيلة لإرضاء العامة وتوجيه انتباههم. وكان مصير كل من حاول مقاومة الإمبراطورية هو الهزيمة والإذلال. فزنوبيا، ملكة تدمر التي تحدت روما، تم اقتيادها كأسيرة في شوارع العاصمة، وهنيبعل، القائد القرطاجي العظيم، أمضى نهاية حياته مطارداً ومنفياً. لقد كانت رسالة روما واضحة: كل من يسعى إلى الاستقلال سيواجه القوة الساحقة للإمبراطورية. كما قامت روما باستغلال موارد الشعوب التي احتلتها، ومصر خير مثال على ذلك. فبعد سقوطها في قبضة الرومان، تحولت إلى “سلة غلال” للإمبراطورية، حيث كان أهلها يزرعون الأرض لتأمين القمح لروما، بينما كانوا يعانون هم أنفسهم من وطأة الضرائب الباهظة التي كانت تُجبى بالقوة. ومن كان يعجز عن الدفع، كان مصيره السجن أو الاستعباد. في خضم هذا الواقع، ظهرت قوة جديدة من شبه الجزيرة العربية مع بزوغ فجر الإسلام. حمل رجال هذا الدين الجديد نظاماً قانونياً وأخلاقياً مختلفاً، وسعوا إلى إرساء مبادئ العدل والمساواة. وفي سلسلة من المعارك الحاسمة، تمكنت الدولة الإسلامية الناشئة من تحقيق انتصارات كبيرة على الإمبراطورية الرومانية الشرقية (البيزنطية)، مما أدى إلى نهاية سيطرتها على أجزاء واسعة من العالم القديم، وبداية عصر جديد أعاد تشكيل خريطة القوى العالمية.
حين تتسلّلُ التكنولوجيا إلى قلبِ المأساةِ الإنسانية، يصبحُ السؤالُ الأخطر، من يملكُ مفاتيحَ البيانات هو من يتحكم بالفلسطينيين… من دون بنادق.من هنا تبدأ قصةُ المديرةِ العامّةِ لوكالةِ “الأونروا” في لبنان، دوروثي كلاوس، التي تحوّلت خلال عقدينِ من باحثةٍ أكاديميةٍ هادئةٍ إلى شخصيةٍ جدليةٍ تتقاطعُ عندها خيوطُ المال والسياسة والأمن والتكنولوجيا، في أكثرِ الملفاتِ حساسيةً في الشرق الأوسط: ملفّ اللاجئين الفلسطينيين يحاولُ تقريرٌ صدر عن “اللقاء التشاوري الوطني الفلسطيني” رسمَ ملامحِ وجهِ تلك الألمانيةِ الوافدةِ إلى بلادِنا، وفي جعبتِها الكثيرُ، كما يحاول استشرافَ الأوجهِ المتعدّدة التي تختفي خلف هذا الوجه تحت عناوينَ ومسمياتٍ كثيرة، لا بدّ من التعرّفِ عليها والتنبه لها، في واحدةٍ من أكثرِ أوقاتِنا حساسيةً ودقة. مسارٌ يُثيرُ التساؤلاتتنحدرُ كلاوس من ألمانيا، وتحملُ خلفيةً أكاديميةً تبدو للوهلةِ الأولى رصينة:• ماجستير في الأنثروبولوجيا والفلسفة من جامعة Freie Universität Berlin.• ماجستير في المساعدة الإنسانية.• دكتوراه في الجغرافيا من جامعة Ruhr-Universität Bochum عام 2003، بأطروحةٍ بعنوان:“Where to Belong? Palestinian Refugees in Lebanon”.أطروحتُها تناولت اللاجئين الفلسطينيين في لبنان من منظور اجتماعي–مكاني، لكنها عُرضت بروحٍ تحليلية “باردة”، تختزلُ معاناةَ الشتاتِ في أسئلةِ الانتماءِ والإدماج، دون التطرّقِ إلى العدالةِ أو حقِّ العودة.وما يثيرُ الانتباه أنّ جامعةَ بوخوم الألمانية التي منحتها الدكتوراه، ترتبطُ بشراكاتٍ بحثيةٍ مع مؤسَّساتٍ إسرائيليةٍ مثل جامعةِ تل أبيب، وتشترط—بحسب التقرير—مناقشةَ رسالةِ الدكتوراه أمامَ الجامعتين معًا، ما يفتحُ البابَ للتساؤل:هل انعكسَ ذلك لاحقًا على رؤيتِها الأكاديمية داخلَ الأونروا للملفِّ الفلسطيني؟ تحت شعار “الشفافية والمساءلة”، فرضت كلاوس نموذجَ إدارةٍ أقربَ إلى شركاتِ الاستشارات التقنية الأوروبية منهُ إلى مؤسسةٍ إنسانية، حيث يُقاس النجاحُ بعدد التقارير الرقمية… لا بعددِ الأسر المنقذة من الإغاثة إلى البيروقراطية الذكية بدأت كلاوس مسيرتَها الأممية عام 2000 في “اليونيسف” – اليمن كموظفةٍ شابةٍ في التخطيطِ والبرمجة، ثم شغلت مناصبَ في آسيا وإفريقيا، قبل أن تنضمَّ إلى الأونروا عام 2014 كنائبةِ مديرِ برامجِ الأردن. في عام 2017، تولّت إدارةَ برنامج الإغاثة والخدمات الاجتماعية، أحد أكثر برامج الوكالة حساسيةً، إلى أن رُقّيت في فبراير 2023 إلى منصب مديرة “الأونروا” في لبنان. لكن هذا الصعود لم يكن انتقالًا وظيفيًا عاديًا. فمنذ تولّيها المنصب، تغيّر وجهُ “الأونروا” في لبنان، إذ تحوّلت من وكالةٍ إغاثيةٍ تقليدية إلى مختبرٍ للرقمنة الإنسانية، مشروعٌ طموح يُسوَّق تحت شعار “التحوّل الرقمي”، لكنه يُعيدُ صياغةَ العلاقةِ بين اللاجئِ الفلسطيني والمؤسسة، في نموذجٍ جديدٍ من الإدارة الرقمية للسكان. تحوُّلُ المانحِ إلى مُوجِّه كلاوس، بحكمِ جنسيتِها وصلاتِها الدبلوماسية، نجحت في جذبِ تمويلٍ ألمانيٍّ واسعٍ لبرامج الأونروا في لبنان. وُقّعت اتفاقاتٌ عدّة مع بنك التنمية الألماني KfW لدعم مشاريع البنى التحتية والتعليم والخدمات الاجتماعية. غير أنّ هذه الاتفاقات جاءت مشروطةً بأنظمةِ إبلاغٍ ومراقبةٍ رقمية دقيقة، وعليها تساؤلاتٌ عدّة حول جدواها وأهدافها. تحت شعار “الشفافية والمساءلة”، فرضت كلاوس نموذجَ إدارةٍ أقربَ إلى شركاتِ الاستشارات التقنية الأوروبية منهُ إلى مؤسسةٍ إنسانية، حيث يُقاس النجاحُ بعدد التقارير الرقمية… لا بعددِ الأسر المنقذة. بمعنى آخر: المعاناةُ تحوّلت إلى بيانات، والفقرُ أُعيد تصنيفُه كمعطى إحصائي أكثر منه مأساةً إنسانية. ويبقى السؤال الأساس: هل أصبحَ التمويلُ الإنساني وسيلةً لضبطِ المجتمعات الفلسطينية تحت غطاء التحقق الرقمي، واستخلاص بياناتٍ تُستخدم في مشاريعَ تتقاطعُ مع شطبِ قضيةِ اللاجئين وحقِّ العودة؟ الوجهُ الخفيُّ للمكننة والتحقّق الرقميمن أكثر مشاريع كلاوس جدلًا هو مشروع التحقّق الرقمي والمكننة، الذي يهدف—نظريًا—إلى تحديث سجلات اللاجئين وتجنّب الازدواجية في المساعدات. لكن عمليًا، يُطلب من كلّ لاجئ إثبات هويته رقميًا عبر البصمة أو الصورة أو رمز إلكتروني للحصول على المساعدة النقدية أو الغذائية.هذا النظام يولّد قاعدةَ بياناتٍ مركزية ضخمة تتضمن معلوماتٍ شخصيةً عن مئات آلاف اللاجئين: أماكن السكن، أفراد العائلة، الحالة الاجتماعية، الوضع الاقتصادي، وأنماط الاستهلاك…ولا آلية شفافة توضّح من يملك حق الوصول، أو كيف تُستخدم، أو إن كانت تُشارك مع جهات مانحة أو استخباراتية.في بعض المخيمات، كـ عين الحلوة و برج البراجنة، تحدّثت أُسرٌ عن حجبِ مساعداتٍ بسبب “أخطاءٍ في التسجيل”، ما جعل الحقَّ الإنساني يتحوّل إلى امتيازٍ تقنيٍّ مشروط. الشفافية أم المراقبة الناعمةيصفُ الخطابُ الرسمي للأونروا مشروعَ المكننة بأنه “نقلةٌ نوعية نحو الشفافية”.لكنّ مراقبين يرون فيه بدايةَ نظام مراقبة ناعم، يستبدل الزياراتِ الميدانية بواجهاتٍ إلكترونية، ويراقبُ حياةَ اللاجئين من خلف الشاشات، ولمصلحةِ مَن؟حتى المسوح الاجتماعية بإشراف كلاوس—مثل Lebanon Socioeconomic Survey (2023)—جمعت بيانات دقيقة عن العمل والهجرة والعلاقات العائلية، ما أثار مخاوفَ من تحوّل اللاجئين إلى حقول تجارب لسياساتٍ تقنية أوروبية في إدارة السكان.وهكذا، أصبحت “الهُوية الرقمية” أداة إعادة تعريف للوجود الفلسطيني، لا كجماعةٍ بشريةٍ لها حقوق… بل كـمجموعـة بيانات قابلة للمراقبة والتحليل. إدارةُ الأزمة بدلَ حلّها في الإعلام، تظهر كلاوس كإداريةٍ مُنضبطة تتحدث بلغةٍ دبلوماسيةٍ محايدة. لكن خلف هذا الهدوء، تتعالى أصواتٌ داخل الأونروا نفسها تتحدث عن: تضييق على المبادرات الفلسطينية المستقلة داخل المخيمات. إحالات متكررة إلى “إجازةٍ إدارية” لموظفين منتقدين للسياسات الجديدة. تشديد غير مسبوق على مبدأ “الحياد”، الذي يُستخدم—بحسب موظفين—كذريعةٍ لتكميم الأصوات. هكذا تتحوّل الأونروا إلى جهاز إدارة أزمات أكثرَ منها وكالةً تنموية، وتتحوّل “الحيادية” إلى شكلٍ من أشكال الانضباط السياسي المقصود. الحدود الضبابية وجود كلاوس في لبنان يضعُها وسطَ معادلةٍ معقّدة تجمع: اللاجئين الفلسطينيين، الدولة اللبنانية، الفصائل، والمانحين الأوروبيين. وأيّ اختلال قد يتحول إلى أزمة سياسية أو أمنية. في عام 2023، حين صرّحت بأن “جماعات مسلّحة تحتل منشآت الأونروا في عين الحلوة”، بدا التصريحُ لأول وهلة تحذيرًا إنسانيًا… لكنه حمل أيضًا رسالةً سياسية مزدوجة: توجيهُ اللوم إلى الفصائل داخل المخيم، وتبريرُ التشدد الإداري باسم الأمن. وبينما تواجه الأونروا اتهاماتٍ إسرائيلية–أميركية بتورّط موظفين مع حماس، اتهمت منظمة UN Watch كلاوس بـ“إخفاء معلومات” حول موظفين مرتبطين بفصائل فلسطينية، وهو ما نفته رسميًا. لكن الحادثة كشفت هشاشةَ مفهومِ “الحياد”، وبرّرت الذهابَ بعيدًا في استهداف الانتماء الوطني للعاملين. تبدو دوروثي كلاوس نموذجًا جديدًا من الإداريين الدوليين الذين يجمعون بين الإنسانية والرقمنة، لكن في بيئةٍ مشبعة بالسياسة والأمن. إتحاول—كما يبدو—إعادة تعريف العمل الإغاثي… لكن النتيجة قد تكون إعادة تعريف اللاجئ نفسه: من إنسانٍ له حقوق… إلى رقمٍ داخل قاعدة بيانات. ويبقى السؤال الجوهري: هل هذه التحولات تحديثٌ ضروري؟ أم شكلٌ جديد من السيطرة الناعمة على المجتمعات تحت مسمى “التحقّق الرقمي”؟ بين الملفات الأكاديمية والبرامج الرقمية، وبين بيروقراطية الأونروا ومآسي المخيمات، تقف دوروثي كلاوس كوجهٍ يعكس مرحلةً انتقالية في تاريخ الوكالة: من الإغاثة إلى الإدارة، ومن المساعدة، إلى المراقبة، ومن المراقبة إلى …؟ إنها تمثّل تحوّل “الإنسانية المؤتمتة”: حيث تُدار حياةُ اللاجئين ببرمجيات، وتُقاس المأساةُ بالبيانات، وتُحكَم المخيمات… لا بالقوة، بل بالأرقام.