في مطلع القرن العشرين، شهدت الصومال فصلاً بطوليًا من فصول المقاومة ضد القوى الاستعمارية، قاده رجلٌ استثنائي هو محمد عبد الله حسن نور. هذا القائد الصومالي، الذي أطلق عليه البريطانيون لقب “الملا المجنون”، خاض على مدار 21 عامًا ما يقارب 270 معركة، مجسدًا روح الجهاد ضد الاحتلال البريطاني والإيطالي والإثيوبي صمود أسطوري تُشير المصادر التاريخية إلى أن القوات البريطانية والإثيوبية والإيطالية حشدت في عام 1900 جيشًا قوامه 15 ألف جندي بهدف سحق حركته الوليدة. إلا أن محمد عبد الله حسن نور، بفضل التفاف أبناء القبائل الصومالية حوله وحماسهم للجهاد، تمكن من هزيمة هذه القوات مجتمعة، محققًا انتصارًا مدويًا أثار دهشة القوى الاستعمارية. لم تتوقف محاولات القوات البريطانية عند هذا الحد. ففي عام 1902، عاودت الكرة ضد المجاهد نور، مستعينة بخمسمئة مقاتل صومالي يعملون في صفوفها. لكن رجال الشيخ ألحقوا بهم هزيمة نكراء في معركة بإقليم بارن، حيث قُتل مئة جندي بريطاني، لتُسجل هذه الواقعة كحدث بارز في تاريخ القرن الأفريقي. في منتصف مارس 1903، شنت قوات بريطانية وإثيوبية هجومًا آخر على مقاتلي الشيخ، موقعةً خسائر كبيرة في صفوفهم. ومع ذلك، تمكن نور من تحقيق النصر في نهاية المطاف، دافعًا المحتلين إلى التراجع. وفي السنوات اللاحقة، عزز الشيخ نفوذه، وألحق خسائر فادحة بالقوات البريطانية في العديد من المعارك، مؤكدًا بذلك قدرته على الصمود والمقاومة. بحث البريطانيون عن جثمانه عازمين على فعل ما فعلوه برأس محمد المهدي في السودان، حيث حوّلوا جمجمته إلى منفضة سجائر لملكة بريطانيا وزوارها نهاية المقاومةفي عام 1916، سعى محمد عبد الله حسن نور إلى الانضواء تحت لواء الخلافة العثمانية طلبًا للحماية والدعم. إلا أن الخلافة، التي كانت منشغلة آنذاك بالثورة العربية الكبرى ونشاط الشريف حسين، لم تتمكن من تقديم المساعدة التي كان يحتاجها نور في مواجهة القوى الاستعمارية المتزايدة. في عام 1920، اتخذت الحكومة البريطانية قرارًا حاسمًا بإنهاء مقاومة نور. حشدت جيشًا بريًا ضخمًا مزودًا بالعربات المصفحة والمدافع الرشاشة السريعة الطلقات، بالإضافة إلى عشرة آلاف جندي من المشاة، مدعومين بقوة جوية هائلة. شنت القوات البريطانية قصفًا جويًا عنيفًا على مقاتلي نور، مما أجبره على الانسحاب من مقديشو. ورغم التفوق العسكري الساحق للمحتلين، استمرت الحروب البريطانية الصومالية نحو عام كامل، مما يدل على شراسة المقاومة الصومالية. رحيل القائد وبقاء السر خرج الشيخ نور جريحًا من إحدى المعارك، وتوفي متأثرًا بجراحه في نهاية عام 1921 تقريبًا. بحث البريطانيون عن جثمانه بعد المعركة، عازمين على فعل ما فعلوه برأس محمد المهدي في السودان، حيث حوّلوا جمجمته إلى منفضة سجائر لملكة بريطانيا وزوارها. إلا أنهم لم يتمكنوا من ذلك، فقد نجح ورثته من إخوانه المجاهدين الصوماليين في إبقاء قبره سرًا لا يعرفه إلا المقربون، ليظل رمزًا للصمود والتحدي في ذاكرة الأمة الصومالية.
في قلب جبل العرب، حيث تمتدّ مدينة السويداء كعاصمة للطائفة الدرزية في سوريا، يقف رجلٌ واحدٌ في مركز عاصفةٍ سياسيةٍ تُهدِّد بإعادة تشكيل خريطة الجنوب السوري. إنّه الشيخ حكمت سلمان الهجري، شيخ عقل طائفة الموحدين الدروز، الذي تحوَّل من مؤيِّدٍ مطلقٍ لنظام بشار الأسد إلى أحد أبرز معارضيه، ومن داعيةٍ للوحدة السورية إلى منادٍ بالتدخّل الدولي، بل وصل الأمر إلى حدّ وصفه بـ”العميل الإسرائيلي” شخصيةٌ معقّدةٌ ومثيرةٌ للجدل، وُلد في فنزويلا ونشأ في أحراش السويداء، ووصل إلى قمّة الهرم الديني للطائفة الدرزية في ظروفٍ غامضة، ليجد نفسه اليوم في قلب أزمةٍ سياسيةٍ تتجاوز حدود سوريا لتصل إلى أروقة البيت الأبيض والكنيست الإسرائيلي. من هو حكمت الهجري؟ وكيف تطوّرت مواقفه السياسية عبر السنين؟ وما حقيقة علاقاته المزعومة بإسرائيل؟ وإلى أيّ مدى يُمثّل الطائفة الدرزية في سوريا؟ من كاراكاس إلى قنوات في التاسع من يونيو عام 1965، وُلد حكمت سلمان الهجري في العاصمة الفنزويلية كاراكاس، حيث كان والده الشيخ سلمان أحمد الهجري يعمل في ذلك الوقت. هذه الولادة في المنفى ستُصبح لاحقًا رمزًا لحياةٍ مليئةٍ بالتنقّلات والتقلّبات السياسية، كما لو أن القدر كان يُعِدّ هذا الطفل لمستقبلٍ يتأرجح بين الانتماءات والولاءات المختلفة. عاد الطفل حكمت مع عائلته إلى سوريا في سنٍّ مبكرة، ليُكمل تعليمه الأساسي والثانوي في محافظة السويداء، تلك المنطقة الجبلية التي تُعتبر معقل الطائفة الدرزية في سوريا. نشأ في بيئةٍ دينيةٍ محافظة، حيث كان والده من رجال الدين المحترَمين في الطائفة، ممّا وفّر له أرضيةً صلبةً للتدرج في السُّلَّم الديني لاحقًا. بعد إنهاء دراسته الثانوية، التحق حكمت الهجري بكلية الحقوق في جامعة دمشق، حيث تخرّج عام 1990. هذه المرحلة الجامعية في العاصمة السورية كانت حاسمةً في تشكيل وعيه السياسي والقانوني، حيث تعرّض لأفكارٍ ومفاهيم جديدة خارج البيئة المحلية المحدودة للسويداء. خلال سنوات الدراسة الجامعية، شهدت سوريا تحوّلاتٍ سياسيةً مهمّة، حيث كان حافظ الأسد في أوج قوّته، والنظام السوري يُرسّخ أُسس دولة الحزب الواحد. هذه البيئة السياسية المغلقة والمحكومة بقبضةٍ أمنيةٍ صارمة تركت أثرًا عميقًا على جيلٍ كامل من الشباب السوري، بمن فيهم حكمت الهجري، الذي سيُظهِر لاحقًا تقلباتٍ في مواقفه تجاه النظام السوري. بعد التخرّج من كلية الحقوق، اختار حكمت الهجري العودة إلى السويداء والتفرغ للشؤون الدينية والاجتماعية للطائفة الدرزية. هذا القرار لم يكن مفاجئًا، نظرًا لخلفيته العائلية الدينية، لكنه كان بداية رحلةٍ طويلة نحو قمة الهرم الديني للطائفة. تدرّج الهجري في المناصب الدينية، مستفيدًا من مكانة والده وشقيقه أحمد الهجري الذي كان يشغل منصب شيخ العقل. خلال هذه الفترة، بدأ في بناء شبكة علاقات واسعة داخل الطائفة وخارجها، مما مهّد له الطريق للوصول إلى المنصب الأعلى في الهرم الديني الدرزي. موتٌ غامض وخلافةٌ مثيرة في عام 2012، شهدت الطائفة الدرزية في السويداء حدثًا مأساويًا غيّر مجرى تاريخها الديني والسياسي. تُوفِّي الشيخ أحمد الهجري، شقيق حكمت وشيخ عقل الطائفة آنذاك، في حادث سير وُصف بالغامض. هذه الوفاة المفاجئة فتحت الباب أمام حكمت الهجري للوصول إلى أعلى منصب ديني في الطائفة الدرزية السورية. الظروف المحيطة بوفاة أحمد الهجري أثارت تساؤلات كثيرة داخل الطائفة وخارجها، فقد جاءت الوفاة في وقتٍ حسّاس، حيث كانت سوريا تشهد بدايات الثورة والاضطرابات السياسية التي ستعصف بالبلاد لسنوات طويلة. بعض المصادر تشير إلى أن أحمد الهجري كان يتخذ مواقف أكثر حذرًا تجاه النظام السوري مقارنةً بشقيقه حكمت، مما يضيف طبقة إضافية من الغموض حول ملابسات الوفاة. خلف حكمت الهجري شقيقه في منصب شيخ العقل في ظروف استثنائية، حيث كانت سوريا تغرق في أتون حربٍ أهلية مدمّرة. هذا التوقيت الحساس وضع الهجري الجديد أمام تحدياتٍ جسيمة، حيث كان عليه أن يُحدّد موقف الطائفة الدرزية من الصراع الدائر في البلاد. منذ اللحظة الأولى لتولّيه المنصب، أظهر حكمت الهجري ميولًا سياسية واضحة، على عكس التقاليد الدرزية التي تدعو إلى الحياد والابتعاد عن الصراعات السياسية. في أول ظهور علني له بعد وفاة شقيقه، ألقى كلمة أمام جمعٍ من أبناء الطائفة أعلن فيها تأييده الواضح لنظام بشار الأسد، مما أثار استياء قطاعاتٍ واسعة من الدروز الذين كانوا يُفضّلون الحياد. بناء الشرعية الدينية والسياسية لم يكن وصول حكمت الهجري إلى مشيخة العقل مجرّد وراثة تقليدية، بل تطلّب منه بناء شرعية دينية وسياسية في ظروفٍ معقّدة. استغل الهجري خلفيته القانونية ومهاراته الخطابية لترسيخ موقعه كزعيمٍ ديني، لكنه في الوقت نفسه بدأ بالتدخّل بشكلٍ متزايد في الشؤون السياسية. خلال السنوات الأولى من تولّيه المنصب، ركّز الهجري على توطيد علاقاته مع النظام السوري، معتبرًا أن هذا التحالف يُوفّر الحماية للطائفة الدرزية في ظل الفوضى التي تعم البلاد. هذا الموقف جلب له دعمًا من قطاعات معينة داخل الطائفة، خاصةً تلك التي كانت تخشى من تداعيات سقوط النظام على مصير الأقليات في سوريا. بدأ خطاب الهجري يتبدّل. الشيخ الذي كان يتجنّب الظهور في صراعات داخلية، صار يصدر بيانات سياسية تصعيدية. وصار واضحًا أن حضوره لا يقتصر على منبر الصلاة، بل صار أقرب إلى “زعيم طائفة”، لا مجرد شيخها عندما كان “رجل الأسد” منذ تولّيه مشيخة العقل عام 2012 وحتى عام 2021، شكّل حكمت الهجري نموذجًا للولاء المطلق لنظام بشار الأسد. لم يكن هذا التأييد مجرد موقفٍ سياسيٍّ حذر أو براغماتي، بل كان تأييدًا عقائديًّا وشخصيًّا وصل إلى حد التماهي الكامل مع النظام وسياساته. في عام 2014، وخلال الحملة الانتخابية الرئاسية التي أعاد فيها بشار الأسد انتخاب نفسه لولاية ثالثة، ظهر حكمت الهجري في مقدّمة المؤيدين للرئيس السوري. لم يكتفِ الهجري بالتأييد الصامت، بل نظّم فعاليات ومهرجانات في السويداء لدعم حملة الأسد الانتخابية، وألقى خطابات حماسيّة وصف فيها الأسد بـ”القائد الحكيم” و”رمز الوحدة الوطنية”. لم يقتصر تأييد الهجري للنظام على الجانب السياسي فحسب، بل امتدّ إلى الجانب العسكري أيضاً. في عدّة مناسبات، أصدر الهجري بيانات يدعو فيها أبناء الطائفة الدرزية للالتحاق بقوات النظام السوري والمشاركة في “الدفاع عن الوطن” ضدّ ما وصفهم بـ”الإرهابيين والتكفيريين”. العلاقات مع قيادات النظام خلال سنوات التأييد المطلق، طوّر حكمت الهجري علاقات شخصية وثيقة مع قيادات النظام السوري على مختلف المستويات. هذه العلاقات لم تكن مجرد علاقات بروتوكولية، بل كانت علاقات عمل وتنسيق مستمر، خاصة مع أجهزة الأمن والمخابرات السورية. كشفت وثائق مسرّبة أن الفرع 312 التابع للمخابرات الجوية السورية قام بتسليم دفعات من الأسلحة والذخائر لمرافقي الشيخ الهجري في أواخر عام 2023، خلال تصاعد الاحتجاجات الشعبية ضد نظام الأسد في السويداء. هذه الوثائق تشير إلى عمق العلاقة بين الهجري والنظام، وتطرح تساؤلات حول طبيعة هذه العلاقة ومدى تأثيرها على مواقفه السياسية اللاحقة. لم يكن تأييد الهجري للنظام مجرد موقف انتهازي أو براغماتي، بل كان مدعومًا بتبريرات أيديولوجية ودينية. في خطاباته ومقابلاته خلال تلك الفترة، كان الهجري يؤكّد أن دعم النظام السوري يأتي من
في عام 1940، اتحدت قوتان عظميان، الصين وروسيا، في حلف غير مسبوق، بهدفٍ واحدٍ فقط: القضاء على رجلٍ واحد فقط! فمَن هو هذا الرجل الذي دفع دولتين بحجم الصين وروسيا لتعبئة جيشٍ ضخمٍ يضم 300 ألف مقاتل، مزوّدين بأحدث الأسلحة آنذاك؟ إنه بطلٌ من أبطال الأمة المجهولين، طُمست ذكراه عمدًا من تاريخنا: إنه عثمان باتور إسلام أوغلو. عندما اجتاحت الجيوش الصينية والروسية تركستان الشرقية لإخضاع المسلمين، لم تتوانَ عن ارتكاب أبشع الجرائم: قتلٌ، ونهبٌ، واغتصابٌ، وانتهاكٌ للحرمات. كانوا يلقون القبض على كل من يحمل سلاحًا، مهما كان نوعه، سواء أكان بندقيةً أم سهمًا أم حتى سكين صيد. لكن عثمان، الفارس القازاقي الشجاع، المعروف بلقب “باتور” أي البطل، رفض أن ينحني لهؤلاء الغزاة. اختار حياة الجبال، حاملًا سلاحه، ليبدأ في مقاومة هذا التحالف العدواني الذي جاء ليمنع قيام دولةٍ توحّد المسلمين في تلك البقاع. عُرف عثمان بدهائه وحنكته العسكرية، حيث ابتكر أسلوبًا فريدًا في نصب الكمائن. كانت هذه الكمائن مركبة؛ يستدرج العدو إلى فخٍ تقع فيه سريةٌ كاملةٌ من الفتية، ثم إذا أتت قوات الإنقاذ، تقع بدورها في كمينٍ آخر أشد إحكامًا. استمر في هذه الاستراتيجية حتى أوقع جيوشًا بأكملها في شراكه، مما بث الرعب في نفوسهم. بلغ الخوف من عثمان ورفاقه مبلغًا جعل الجنود الروس والصينيين يقدمون الرشاوى لقادتهم، فقط لتجنب إرسالهم إلى تلك المناطق التي يقاتل فيها هذا البطل وجيشه. بل إن الحاكم العسكري الصيني بلغ به اليأس حدًا جعله يقول: “من يأتِ لي برأس عثمان حيًا أو ميتًا، أعطيته زوجتي 70 يومًا يفعل بها ما يشاء”. لكن الزوجة فرت إلى معسكرات المسلمين، وهناك اعتنقت الإسلام بعد أن شهدت أخلاق الجيش الإسلامي، فتزوجها أحد قادة عثمان، وعاشت بين المسلمين بعزةٍ وكرامة. كان لمعسكرات عثمان سمعةٌ عظيمةٌ بين الناس؛ فلم يعرفوا ظلمًا ولا اعتداءً على النساء والأطفال والشيوخ، بل التزموا بأخلاق الحرب الإسلامية النبيلة. يروي كتاب “ليالي تركستان” وصفًا دقيقًا لهذا القائد: “كان عثمان باتور ذا نظراتٍ صارمةٍ، كث اللحية، طويل الشارب، هادئ الحركة، قليل الكلام، عميق التفكير… كان يلبس ملابس ثقيلة تقيه برد الجبال القارس، وكان شعاره الذي يهز الجبال: الله أكبر… الله أكبر.” لكن مع كل ما أبداه من شجاعةٍ وبسالةٍ، لم يكن ممكنًا الإيقاع به إلا بالخيانة. دلَّ أحد الخونة قوات العدو على مكان تواجده. فهاجمت القوات الصينية معسكره بجيشٍ جرار. قاوم عثمان مع مائتي مجاهدٍ، في معركةٍ شرسةٍ، لكن جواده تعثر في نهاية المطاف، وبعد أن تعطل سلاحه، استمر في القتال بخنجره، حتى سقط جريحًا. بلغ الخوف من عثمان ورفاقه مبلغًا جعل الجنود الروس والصينيين يقدمون الرشاوى لقادتهم، فقط لتجنب إرسالهم إلى تلك المناطق التي يقاتل فيها هذا البطل وجيشه في 29 أبريل 1951، وقع عثمان باتور في الأسر. لم يستسلم، بل واجه الموت بجلالٍ وكرامةٍ، مهللًا ومكبرًا. وقُطع أنفه وأذنه، كما فعلوا بأسد الله حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه. وأُعدم بينما صدح بالتكبير، متقدمًا نحو الموت بثبات. ولما بلغ الخبر أمه، قالت بفخرٍ واعتزازٍ: "لمثل هذا ربيته".