يحق لكل صيداوي، ولكل ساكن في المدينة، بعد قراءة هذا المقال، التساؤل: لماذا يجب عليّ أن أدفع فواتير الكهرباء والماء والهاتف، بينما إخوان لي في الوطن على بعد أمتار قليلة مني، في ذات الجغرافيا، يعفون من ذلك؟ هذا التساؤل يجب أن يصل إلى نواب المدينة، وإلى القوى السياسية والاقتصادية والاجتماعية الحيّة فيها، لتكون صوتاً للمواطنين، وتنقل مطالبهم إلى الجهات المعنية، بما يمكّن من اتخاذ الإجراءات الكفيلة بتحقيق العدالة الاجتماعية للجميع في الحقوق الواجبات. بتاريخ 14/8/2025 نُشِر في الجريدةِ الرسميّة تصحيحُ الخطأِ المادّيِّ الواردِ في القانونِ رقم 22 الصادرِ في 11 تمّوز 2025، بحيث أصبح النصُّ الجديد يُعفي جميعَ المكلّفين بدلَ المتضرّرين في قرى أقضية: حاصبيا، مرجعيون، بنت جبيل، جزّين وصور، من رسومِ الكهرباءِ للعام 2024، ومن رسومِ المياهِ والهاتفِ عن العام 2025. يحقّ لأهلِنا في تلك القرى والبلدات هذا الدعمُ، وأكثرُ بكثير، وهو أضعفُ الإيمان، ولا يُوازي جرحَ إصبعِ ولدٍ منكم. فهذه المناطق دفعت من دمّها وشبابِها واقتصادِها واستقرارِها أثمانًا باهظة جرّاء العدوان، وما زال أبناؤها يعيشون تحت وطأة التهجير والدمار والخوف. لكن، في قلبِ هذا المشهد، يبرز سؤالٌ أساسيّ: أليست صيدا عاصمةَ الجنوب الذي يضمّ كلّ تلك الأقضية؟ وإذا كانت عاصمةً إداريّةً وجغرافيّةً وسياسيّةً للجنوب، فلماذا تُستثنى من برامج الدعم، وكأنها مدينةٌ على هامش المشهد أو خارج خريطة الجنوب المتضرّر؟ المركزيةُ المقنّعة صيدا، التي شكّلت عبر تاريخها رئةَ الجنوب وممرّه وواجهتَه، كانت دائمًا أوّل المتلقّين لارتدادات أيّ توتّر أمني في الجنوب. اقتصادها يتأثّر، أسواقها تفرغ، مؤسساتها تنكمش، وقطاعاتها الإنتاجية تتضرّر بشكل مباشر. فالعدوان الذي يضرب الجنوب لا يمرّ “جغرافيًا” عبر حدود صيدا، بل يمرّ “اقتصاديًا” عبرها دائمًا. على الرغم من ذلك، يجد الصيداويون أنفسهم اليوم أمام معادلة غريبة: هم جزء لا يتجزّأ من الجنوب حين يتعلّق الأمر بالأعباء، لكنّهم خارج الجنوب حين يتعلّق الأمر بالدعم. الجنوب “يتّسع” ليشمل صيدا سياسيًا وانتخابيًا، لكنه “يضيق” عندما يدخل في حسابات الإعفاءات والمساعدات. تأثيرات اقتصادية مباشرة تُظهر الوقائع الميدانية أنّ صيدا لم تكن بمنأى عن ارتدادات الحرب:• حركة الناس من الجنوب إلى المدينة تراجعت بشدّة.• قطاع المطاعم والسوق التجاري تكبّد خسائر متواصلة. • السياحة الداخلية التي كانت تشكّل متنفسًا انعدمت.• مؤسسات صيدا الصحية والتربوية استقبلت أعدادًا كبيرة من النازحين من الجنوب، ما فرض أعباء إضافية.• الحركة اللوجستية والنقل بين المرفأ والمناطق الجنوبية شهدت اضطرابات وخسائر. ومع كل ذلك، يطلب من الصيداويين دفع فواتيرهم كاملة: كهرباء، مياه، هاتف… وكأنّ المدينة ليست جزءًا من دائرة الانهيار التي سبّبها العدوان، ولا نقطة تأثير اقتصادي أساسية في الجنوب بأكمله. أين تُرسم حدود “الجنوب”؟ القضية هنا لا تتعلّق بفاتورة ماء أو كهرباء فقط، بل بما هو أعمق: كيف تفكّر الدولة؟ وكيف ترسم أولوياتها؟ وما هي المعايير التي تُعتمد لتحديد من يستحق الدعم؟ إذا كانت صيدا تُعامل خارج إطار الجنوب، فهل هذا يعني أنها ليست عاصمة الجنوب فعليًا؟ أم أنّ هذا اللقب يُستخدم فقط عند الحاجة السياسية والانتخابية؟ وإذا كانت صيدا غير متضرّرة بنظر واضعي القانون، فهل زار أحد منهم أسواقها؟ هل سأل التجار؟ هل رصد الخسائر؟ هل تابع الأزمات الاجتماعية الناتجة عن تهجير آلاف العائلات عبرها وإليها؟ من حقّ القرى المتضرّرة الحصول على الإعفاء، بل يجب توسيع الدعم لها أضعافًا.لكن من حقّ الصيداوي أيضًا أن يسأل:• لماذا تُعامل صيدا كجزء من الجنوب عندما يتعلّق الأمر بالعبء، لا بالدعم؟• لماذا لا يُحتسب الضرر الاقتصادي والاجتماعي الذي لحق بها؟• ولماذا تُستثنى مدينة هي مركز كلّ الحركة الاقتصادية والصحية والاجتماعية للجنوب؟ صيدا ليست مدينة عابرة قد لا تكون الخطوط الأمامية قد وصلت إلى بابها، لكن ارتدادات الحرب وصلت إلى بيت كلّ صيداوي، ومحلّه، ومؤسسته، وجيبه. فإذا كان الجنوب وحدة واحدة في المأساة، فلماذا يصبح أجزاء منفصلة في الدعم؟ والسؤال يبقى معلّقًا… أيّ جنوبٍ هذا الذي تُخرج صيدا من حساباته حين يتعلّق الأمر بحقوق أبنائها؟
“البوست”- جنوب لبنان تُعدُّ محطات معالجة مياه الصرف الصحي من المشاريع الحيوية التي تعكس مدى التزام الدول بتحقيق التنمية المستدامة وحماية البيئة. في لبنان، تبرز قصتان متناقضتان تمامًا في هذا المجال، تجسدهما محطتا تكرير المياه في مدينتي صيدا والنبطية. ففي حين تمثل محطة النبطية نموذجًا واعدًا للمعالجة الحديثة والفعالة، تقف محطة صيدا كشاهد على الفشل الذريع والهدر المالي والبيئي. فشل مستمر منذ 2010 تم إنشاء محطة تكرير المياه في منطقة سينيق جنوب صيدا بهدف إنهاء الكارثة البيئية الناجمة عن صب مياه الصرف الصحي مباشرة في البحر. بدأ تشغيل المحطة في عام 2010 بتمويل من الحكومة اليابانية على شكل قرض بقيمة 38 مليون دولار، بالإضافة إلى منحة بقيمة 300 ألف دولار لبدء التشغيل. إلا أن المحطة لم تعمل يومًا كما هو مخطط لها. فمنذ اللحظة الأولى، اقتصر عملها على فصل الحمأة عن السائل، دون أي معالجة حقيقية للمياه التي تُضخ في البحر عبر أنبوب يمتد لمسافة 1.8 كيلومتر، لقاء مليون دولار سنويًا للشركة المتعهدة. كشفت تقارير كثيرة عن فضائح بيئية وإدارية خطيرة. فبالإضافة إلى عدم فعاليتها، تم فتح “عبّارة” جانبية لتصريف المياه الملوثة مباشرة في البحر لتوفير تكاليف المازوت، ما أدى إلى تلوث الشاطئ وانتشار الروائح الكريهة. كما أن الحمأة الناتجة عن المعالجة الأولية تُرمى في بحيرة مجاورة للمحطة، ما يزيد من حجم الكارثة البيئية. ورغم أن تكلفة التشغيل السنوية تبلغ مليون دولار، إلا أن التكلفة الحقيقية لا تتجاوز 250 ألف دولار، مما يطرح علامات استفهام كبيرة حول الهدر المالي. النبطية: نموذج للمعالجة الحديثة على النقيض تمامًا، تمثل محطة معالجة الصرف الصحي في منطقة الشرقية بالنبطية قصة نجاح. تم تنفيذ المحطة بتمويل من البروتوكول الفرنسي وبأحدث المواصفات من قبل شركة OTV Veolia الفرنسية العالمية. تخدم المحطة حوالي 17 بلدة في قضاء النبطية، وتستوعب ما يصل إلى 10,900 متر مكعب من المياه يوميًا. تتميز المحطة بتقنيات معالجة ثانوية متقدمة، تشمل نظامًا لمعالجة الحمأة بالطرد المركزي والمعالجة بالكلس، ونظام تحكّم آلي (سكادا) للمراقبة والتشغيل. ورغم أنها واجهت بعض التحديات في البداية، حيث كانت تعمل بخط واحد من أصل خطين، خضعت لاحقًا لعمليات تأهيل وصيانة شاملة بتمويل من اليونيسف والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). نتيجة لهذه الجهود، أصبحت المحطة تنتج مياهًا معالجة صالحة للاستخدام في الصناعة وري الأشجار غير المثمرة. كما تم تأهيل محطة ضخ النميرية التي تضخ مياه الصرف الصحي من منطقة النبطية إلى محطة الشرقية، ما يضمن استمرارية عمل المنظومة بكفاءة عالية. درس من الواقع اللبناني يمثل الفارق الشاسع بين معملي صيدا والنبطية صورة مصغرة عن واقع المشاريع العامة في لبنان. ففي حين يثبت معمل النبطية أن النجاح ممكن عند توفر الإرادة السياسية، والخبرة التقنية، والرقابة الفعّالة، يكشف معمل صيدا عن عمق الفساد وسوء الإدارة الذي ينخر مؤسسات الدولة. إن قصة هذين المعملين يجب أن تكون درسًا للمستقبل، وحافزًا لمحاسبة المسؤولين عن هدر المال العام وتلويث البيئة، وتشجيعًا لتعميم التجارب الناجحة على كافة الأراضي اللبنانية.
مع تسارُعِ التكنولوجيا، تتحوَّلُ المنصّاتُ الرقميّةُ إلى مختبرٍ واسعٍ لإنتاجِ واقعٍ بديل. ظاهرةُ “مزارعِ شرائحِ” الـSIM لم تَعُدْ محصورةً في نطاقِ الجرائمِ الإلكترونيّة، بل باتت منظوماتٍ معقّدةً تُعيدُ تشكيلَ الوعيِ العامِّ بطريقةٍ تُشبهُ عملَ المصانعِ التي تُكرِّرُ المنتجاتِ على خطِّ إنتاجٍ لا يتوقّف تبدو هذه المزارعُ في ظاهرِها غرفًا مزدحمةً بالهواتف، لكن في جوهرِها هي منشآتٌ تُدار بعقلٍ استثماريٍّ—سياسيٍّ. هاتفٌ واحدٌ يُشغِّلُ عشراتِ الشرائح، وكلُّ شريحةٍ تستولدُ مئاتِ الحساباتِ التي تُشاركُ في النقاشات، تخلقُ جدالاتٍ، تصنعُ موجاتِ رأيٍ، وتُعيدُ تدويرَ سرديّاتٍ مقصودة. ما نعتقدُ أنّه “تفاعلٌ طبيعيّ” قد يكونُ مجرّدَ محاكاةٍ دقيقةٍ صُمِّمَت لتوجيهِ المزاجِ العامّ. عمليّة لاتفيا الإعلانُ الأخيرُ لـ”يوروبول” عن تفكيكِ مزرعةٍ رقميّةٍ في جمهوريّةِ لاتفيا أدارت نحو تسعةٍ وأربعينَ مليونَ حسابٍ مزيّفٍ يُشكّلُ دليلًا صارخًا على حجمِ الظاهرة. منشأةٌ واحدةٌ قادرةٌ على قلبِ نتائجِ انتخاباتٍ، ودفعِ رواياتٍ محدَّدةٍ إلى واجهةِ النقاش، وتشويهِ الحقائقِ على نطاقٍ دوليّ. وهذا مجرّدُ نموذجٍ واحد… فيما العالمُ يعجُّ بمزارعَ لم تَصِلْها الأعينُ بعد. كيف تتحوَّلُ المزارعُ الرقميّةُ إلى ماكينةٍ انتخابيّة؟ الحساباتُ المزيّفةُ تخلقُ ديناميّةً كاملة: موجاتُ دعمٍ مصطنعةٌ لمرشّحين بلا قواعد، حملاتُ تشويهٍ مُمنهجةٌ ضدّ آخرين من الشوارعِ إلى الشاشات في لبنان، ومع اقترابِ الانتخاباتِ النيابيّة، يصبحُ السؤالُ ليس عمّا إذا كان المالُ السياسيُّ سيُضَخُّ، بل أين سيُضَخُّ هذه المرّة. المالُ الذي كان يُصرَفُ على الحشودِ والمهرجاناتِ بات يجدُ في هذه المزارعِ الرقميّةِ فرصةً ذهبيّةً: جمهورٌ افتراضيٌّ جاهز، طيّع، سريعُ الاستجابة، قادرٌ على تضخيمِ مرشّحٍ وجعلِ خصمِه يبدو محاصَرًا برأيٍ شعبيٍّ غاضبٍ، ولو كان هذا “الرأي” مصنوعًا بالكامل. كيف تتحوَّلُ المزارعُ الرقميّةُ إلى ماكينةٍ انتخابيّة؟ الحساباتُ المزيّفةُ تخلقُ ديناميّةً كاملة: موجاتُ دعمٍ مصطنعةٌ لمرشّحين بلا قواعد، حملاتُ تشويهٍ مُمنهجةٌ ضدّ آخرين، تسريبُ معلوماتٍ مُضلِّلة، افتعالُ معاركٍ وهميّةٍ تشغلُ الرأيَ العامّ، وتوليدُ ضوضاءٍ متعمّدةٍ تحجبُ القضايا الجوهريّة. وهكذا يدخلُ الناخبُ اللبنانيُّ إلى ساحةٍ سياسيّةٍ يختلطُ فيها الحقيقيُّ بالمصنَّع، والصوتُ الحقيقيُّ بصدى آلةٍ تعملُ في مكانٍ مجهول. المشهدُ اللبنانيّ: بين الناخبِ والآلة كلّما اقتربتِ الانتخاباتُ، زاد خطرُ أن تتحوّلَ المنصّاتُ إلى مسرحِ صراعٍ غيرِ متكافئ، لا بين المرشّحين وحدَهم، بل بين الناخبِ والآلة. فمَن يمتلكُ القدرةَ على شراءِ مئاتِ آلافِ التفاعلاتِ المصطنعةِ يمتلكُ القدرةَ على صناعةِ “ظاهرةٍ” انتخابيّةٍ، أو دفنِ منافسِه تحتَ موجةٍ من الضجيجِ المبرمج. في بيئةٍ مُشبعةٍ بالحساباتِ الوهميّة، يتلاشى النقاشُ الحقيقيّ. القضايا الأساسيّة—الإصلاح، الاقتصاد، القضاء، الخدمات—تغيبُ تحت ضغطِ السرديّاتِ المصنَّعة، بينما ينجُرُّ المواطنُ إلى جدالاتٍ مع خصومٍ قد لا وجودَ لهم خارجَ شريحةِ هاتفٍ في غرفةٍ لا تُعرَفُ ماهيّتُها. وهكذا يُصبِحُ الرأيُ العامُّ نفسُه ضحيّةً، وتُصبِحُ الديمقراطيّةُ عُرضةً للتلاعبِ قبل الوصولِ إلى صناديقِ الاقتراع. المشكلةُ ليست فقط في وجودِ هذه المزارعِ، بل في أنّ معظمَ الناسِ لا يُدرِكونَ عمقَ تأثيرِها. كلُّ موجةِ رأيٍ مفاجِئة، كلُّ خبرٍ ينتشرُ كالنارِ في الهشيم، كلُّ تعليقٍ يُثيرُ غضبًا، قد يكونُ جزءًا من ماكينةٍ ضخمةٍ هدفُها توجيهُ النقاشِ، أو تضليلُ الجمهور، أو خلقُ صورةٍ انتخابيّةٍ لا علاقةَ لها بالميدان. بين مزارعِ شرائحِ الـSIM والمالِ السياسيّ، تدخلُ الانتخاباتُ اللبنانيّةُ مرحلةً جديدةً من المعركة. معركةٌ لا تُخاضُ فقط في الشارعِ أو عبرَ التلفزيون، بل داخلَ هواتفِنا. والسؤالُ الذي يجبُ أن يطرحَ نفسَه منذ الآن: كم من الأصواتِ التي ستعلو في الموسمِ الانتخابيِّ المقبل ستكونُ حقيقيّةً؟ وكم منها سيكونُ مجرّدَ صدى قادمٍ من مزرعةٍ مجهولة؟