شهد لبنان البارحة يوماً مضطرباً على مستوى السياسة والأمن. ففي ساعات النهار الأولى، وصل إلى بيروت خبرُ إلغاء الاجتماعات التي كان من المقرّر أن يعقدها قائدُ الجيش اللبناني رودولف هيكل في واشنطن، وهي زيارةٌ كانت منتظرةً لبحث مستقبل التعاون العسكري بين الجانبين وبحلول المساء، دوّى انفجارٌ داخل مخيّم عين الحلوة في مدينة صيدا إثر غارةٍ إسرائيلية خلّفت أكثر من أربعة عشر شهيداً وعدداً من الجرحى. تزامُنُ الحدثين فتح الباب أمام أسئلةٍ واسعة حول ما إذا كان الأمرُ مجرّدَ مصادفةٍ أم أنّه يعكس تغيّراً في قواعد الاشتباك الدبلوماسي والأمني في المنطقة. رسائلُ مكتومةٌ بصياغةٍ دبلوماسية بحسب مصادر دبلوماسية في بيروت وواشنطن، فإنّ قرار إلغاء الاجتماعات جاء من الجانب الأميركي حصراً. الرسالة التي تلقّتها القيادة العسكرية اللبنانية حملت عبارةً مقتضبة مفادها أنّ “الظروف غير مناسبة لعقد اللقاءات”. خلف هذه الصياغة الحذِرة، تتردّد في الأوساط الدبلوماسية أسبابٌ تتعلّق بقلقٍ أميركي من مسار الوضع الأمني في لبنان، خصوصاً في الجنوب والمخيّمات الفلسطينية، إضافةً إلى إعادة تقييمٍ شاملة لبرامج الدعم العسكري التي يتلقّاها الجيش اللبناني من واشنطن. على مدار الأشهر الماضية، عبّر مسؤولون أميركيون عن انزعاجٍ متصاعد من الطريقة التي تتعاطى بها الدولة اللبنانية مع نفوذ جماعاتٍ مسلّحة خارج إطار المؤسسات. وكان يُفترض أن تحمل زيارة قائد الجيش ملفاتٍ حسّاسة تشمل مستقبل التعاون الاستخباراتي ومصير المساعدات العسكرية. وبالتالي، فإنّ إلغاء اللقاءات في هذا التوقيت بدا أقرب إلى رسالةٍ سياسية ضاغطة منه إلى خطوة بروتوكولية عابرة. بعض القراءات ترى أنّ ما جرى يعكس مزاجاً إقليمياً واحداً يتجسّد عبر رسائل سياسية ودبلوماسية من جهة، وتحركاتٍ عسكرية من جهة أخرى غارة داخل “عاصمة الشتات” بعد ساعاتٍ فقط من إلغاء الزيارة، استُهدف مبنى في مخيّم عين الحلوة بصاروخٍ إسرائيلي، في هجومٍ وصفته إسرائيل بأنّه ضربُ “مركز تدريب” تابع لحركة حماس. فصائلُ المخيّم نفت هذه الرواية، وأكّدت أنّ المبنى المستهدف كان سكنياً، وأنّ الضربة تهدف إلى زعزعة استقرار المخيّم الأكبر للفلسطينيين في لبنان. الغارة أعادت إلى الواجهة هشاشةَ الوضع في المخيّمات الفلسطينية، وأظهرت من جديد قدرةَ أيّ تطوّرٍ ميداني على إشعال دائرة توتّرٍ تتجاوز حدود صيدا. كما أثارت أسئلة حول ما إذا كانت إسرائيل قد قرّرت توسيع نطاق عملياتها ضد البُنى المرتبطة بحماس خارج غزة، في ظلّ الحرب الدائرة داخل القطاع وتنامي المخاوف الإسرائيلية من توسّع خطوط الدعم لحماس عبر ساحاتٍ خارجية. على الرغم من عدم وجود دليلٍ مباشر يربط الإجراء الأميركي بالغارة الإسرائيلية، إلا أنّ التزامن أثار تحليلاتٍ متباينة في الأوساط السياسية والإعلامية. بعض القراءات ترى أنّ ما جرى يعكس مزاجاً إقليمياً واحداً يتجسّد عبر رسائل سياسية ودبلوماسية من جهة، وتحركاتٍ عسكرية من جهة أخرى. وفق هذا التصوّر، يبدو أنّ واشنطن أرادت توجيه إشارةٍ واضحة بأنّ استمرار الفوضى في الساحة اللبنانية يضع مستقبل التعاون مع الجيش تحت المجهر، فيما جاءت الغارة لتؤكّد أنّ إسرائيل تراقب عن قرب أيّ نشاط تعتبره مرتبطاً بحماس داخل لبنان، حتى داخل المخيّمات المكتظّة بالسكان. في المقابل، هناك من يعتبر أنّ الجيش الإسرائيلي يعمل وفق أولوياتٍ استخباراتيةٍ مستقلّة، وأنّ الضربة جاءت نتيجة رصدِ هدفٍ محدّد لا علاقة له بما جرى دبلوماسياً في واشنطن. ومع أنّ هذه القراءة الأخيرة تبقى ممكنة، إلا أنّ التطابق الزمني بين الحدثين، في ظلّ لحظة توتّرٍ إقليمي عميق، يجعل احتمال المصادفة البحتة أقلّ إقناعاً. فالتاريخ الحديث للصراعات في المنطقة يبيّن أنّ الرسائل السياسية والعسكرية غالباً ما تتحرك على خطوطٍ متوازية، حتى إن لم يصدر عنها إعلانٌ رسمي يربطها. الجيش تحت الضوء والمخيّم على الحافة داخل لبنان، وضع التطوران الجيشَ اللبناني في موقعٍ حسّاس. فإلغاء الزيارة يُضعف صورة المؤسسة العسكرية في لحظة تحتاج فيها إلى دعمٍ خارجي وإلى إثبات قدرتها على ضبط الساحة الداخلية. كما أنّ الغارة على عين الحلوة تطرح تساؤلاتٍ حول قدرة الدولة على حماية المخيّمات ومنع تحوّلها إلى مسرحٍ لتصفية حساباتٍ إقليمية. على الجانب الفلسطيني، سادت حالةٌ من الحذر بعد الضربة، وسط خشية من أن يؤدي الهجوم إلى اضطراباتٍ داخلية أو صداماتٍ بين القوى الموجودة في المخيّم، الذي شهد خلال العامين الماضيين سلسلةً من المواجهات الداخلية. أمّا حزب الله، فوجد نفسه أمام اختبارٍ جديد لمعادلته مع إسرائيل: هل يدخل المخيّمات ضمن نطاق “الردع” أم يبقيها خارج إطار الاشتباك؟ رسالتان في يوم واحد سواء أكان التزامن بين الإلغاء والغارة مقصوداً أم لا، فإنّ تداعياته تتجاوز حدود الحدثين. ما يظهر في الأفق هو مرحلة يُعاد فيها تحديد كيفية مقاربة لبنان على المستويين الأميركي والإسرائيلي، مع تراجع الثقة الدولية في قدرة مؤسسات الدولة على إدارة ملفات الأمن والحدود والنفوذ السياسي داخل المخيّمات. الأيام المقبلة ستكشف ما إذا كانت واشنطن ستكتفي برسالة الإلغاء، أم أنّها ستتجه نحو خطواتٍ أشدّ، خصوصاً في ملف المساعدات العسكرية. كما ستُظهر ما إذا كانت الغارة على عين الحلوة حدثاً منفرداً، أم بداية مسارٍ جديد في استراتيجية إسرائيل تجاه الساحة الفلسطينية في لبنان. في ذلك اليوم، وصلت إلى لبنان رسالتان مختلفتان في الوسيلة لكنّهما متقاربتان في المعنى. واشنطن اختارت لغة الدبلوماسية الباردة عبر إلغاء لقاءاتٍ كانت ستحدّد مصير التعاون مع الجيش. وإسرائيل اختارت لغة النار عبر غارةٍ على مخيّمٍ يُعدّ أكثر الساحات حساسيةً في الجنوب. وبين الرسالتين، وجد لبنان نفسه مرة أخرى في قلب معادلةٍ إقليمية أكبر من حدوده، وأكثر تعقيداً من أن تُختزل في مصادفةٍ زمنية.
حتّى في عزِّ الحربِ التي دارت بين إسرائيلَ وحزبِ الله قبل التوقيعِ على وقفِ إطلاقِ النار بين الجانبين، لم يتعرّضْ مخيَّمُ عينِ الحلوة لضربةٍ قاسيةٍ كتلك التي تعرّض لها مساءَ أمس، وأدّت إلى سقوطِ أكثرَ من 14 شهيدًا وعشراتِ الجرحى، فيما زعمَ الجيشُ الإسرائيليّ أنّه «استهدافٌ لاجتماعٍ لِعناصرَ من حركةِ حماس كانوا يُخطِّطون للتدريبِ والتأهيل بهدفِ تخطيطٍ وتنفيذِ مخططاتٍ ضدَّ إسرائيل». في خطوةٍ تصعيديّةٍ لافتة، شنّت القواتُ الإسرائيليةُ هجومًا جويًّا مساءَ يومِ الثلاثاء، 18 نوفمبر 2025، استهدف موقعًا داخل مخيَّمِ عينِ الحلوة للاجئين الفلسطينيين في مدينةِ صيدا جنوبَ لبنان. يأتي هذا الهجوم في سياقٍ أمنيٍّ وسياسيٍّ معقّد، خصوصًا في ظلِّ اتفاقِ وقفِ إطلاقِ النار الهشّ القائم بين إسرائيلَ وحزبِ الله منذ نوفمبر 2024. وقع الهجوم بواسطة طائرةٍ مُسيّرةٍ إسرائيلية استهدفت بأكثرَ من صاروخٍ ما وصفه الجيشُ الإسرائيليّ بأنّه «مجمّعُ تدريبٍ تابعٌ لحماس».يقع مخيَّمُ عينِ الحلوة، المعروف بكونه «عاصمةَ الشتاتِ الفلسطيني»، خارج السيطرة الأمنية المباشرة للدولة اللبنانية، ويشكِّل معقلاً للعديد من الفصائل الفلسطينية المسلحة، بما في ذلك حركةُ حماس. هذا الوضعُ الخاصّ يجعلُه منطقةً شديدةَ الحساسيّة ومرشّحةً دائمًا للتوتّرات الأمنية. الضربةُ تحمل تحذيرًا واضحًا لحماس بأنّ لبنان ليس ساحةً آمنة، وأنّ إسرائيل قادرة على استهدافِ كوادرِها حيثما وُجدوا الأبعادُ الاستراتيجيةُ والتداعياتُ ماذا تعني هذه الضربةُ في التوقيتِ والشكلِ والمضمون؟ قراءةٌ في معانيها ودلالاتها. يُمثّل هذا الهجوم منعطفًا هامًّا في الديناميكيات الأمنية والسياسية في المنطقة، حاملاً في طيّاته رسائلَ متعددة وتداعياتٍ محتملة على الأطراف الثلاثة الرئيسية. على الصعيد الإسرائيلي من المنظور الإسرائيلي، يمكن تفسيرُ هذا الهجوم في إطارِ عدّة أهدافٍ استراتيجية: 1.توسيعُ بنكِ الأهداف وتجاوزُ الخطوطِ الحمراء: باستهدافها مخيمَ عينِ الحلوة، تكونُ إسرائيلُ قد تجاوزت خطًّا أحمر جديدًا. تاريخيًّا، كانت العملياتُ الإسرائيلية في لبنان تتركّز على أهدافٍ تابعةٍ لحزب الله. أمّا اليوم، فاستهدافُ حماس داخل مخيمٍ مكتظٍّ بالسكان يُشيرُ إلى استعدادٍ إسرائيليّ لتوسيعِ نطاقِ عملياتها جغرافيًّا ونوعيًّا. 2. تأكيدُ سياسةِ «الذراعِ الطويلة»: تبعث إسرائيل برسالةٍ واضحة مفادُها أنّها لن تتسامحَ مع أيّ وجودٍ عسكريٍّ لحماس على حدودها الشمالية، وأنّها مستعدّةٌ لملاحقة عناصرِ الحركة في أيّ مكان، حتى في عمقِ الأراضي اللبنانية وداخلِ المخيمات. 3. استغلالُ اتفاقِ وقفِ إطلاقِ النار مع حزبِ الله: يأتي الهجوم في ظلِّ الهدوءِ النسبي على الجبهة الشمالية. يبدو أنّ إسرائيل تستغلُّ هذا الاستقرار لتصفيةِ ما تعتبره تهديداتٍ أخرى، وعلى رأسها حماس، مرجِّحةً أنّ حزبَ الله لن يردّ على هجومٍ يستهدف فصيلاً فلسطينيًا في هذه المرحلة. 4. رسالةُ ردعٍ لمحورِ المقاومة: الضربةُ تحمل تحذيرًا واضحًا لحماس بأنّ لبنان ليس ساحةً آمنة، وأنّ إسرائيل قادرة على استهدافِ كوادرِها حيثما وُجدوا. على الصعيدِ اللبناني بالنسبة للبنان، الهجومُ يمثّل تحدّيًا كبيرًا وتعميقًا لأزماته: 1. انتهاكٌ صارخٌ للسيادة: هو انتهاكٌ جديد يؤكّد عجزَ الدولة عن حماية أراضيها ومنع تحويلها إلى ساحةِ صراعاتٍ إقليمية. 2. إحراجٌ للدولة وحزبِ الله: الدولةُ اللبنانية عاجزةٌ عن الردّ، فيما يجدُ حزبُ الله نفسَه بين معادلةِ «وحدةِ الساحات» وضغوطٍ داخلية ودولية تطالبه بضبطِ النفس. 3. إعادةُ فتحِ ملفِّ السلاحِ الفلسطيني: الهجوم يعيد تسليطَ الضوء على ملفّ السلاح داخل المخيمات، ما قد يؤدّي إلى توتراتٍ ومشاكل داخلية جديدة. على صعيدِ حركةِ حماس 1. استهدافُ الوجود العسكري: يمثّل الهجوم ضربةً مباشرة لمحاولاتِ حماس بناء قدراتٍ عسكرية في لبنان وفتح جبهةٍ شمالية ضد إسرائيل. 2. تحدّي استراتيجية «وحدةِ الساحات»: عدم الردّ على هذا الهجوم سيضعف مصداقية هذه الاستراتيجية، ويُظهر محدودية القدرة على الردّ من الأراضي اللبنانية. 3. خسائر بشرية ومعنوية: إضافةً إلى الشهداء والجرحى، تُعدّ الضربةُ صفعةً معنويةً للحركة، لأنها تكشف هشاشةَ مواقعِها داخل بيئةٍ كانت تُعدُّ أكثرَ أمنًا لها. يمكن القول إنّ الهجومَ الإسرائيليَّ على مخيمِ عينِ الحلوة خطوةٌ محسوبةٌ من تل أبيب، تهدفُ إلى منعِ حماس من ترسيخِ وجودِها العسكري في لبنان وتعزيزِ قدرتها على الردع. لكنّها في الوقت نفسه خطوةٌ محفوفةٌ بالمخاطر، إذ إنّها تُهدّد اتفاقَ وقفِ إطلاقِ النار الهش، وتفتح البابَ أمام مواجهةٍ أوسع في الجنوب إذا قررت حماس أو أحدُ حلفائها الردّ.
مع كلِّ جولةِ تصعيدٍ عسكري على الحدود الجنوبية مع العدوّ الإسرائيلي، يعودُ اسمُ جمعيةِ «القرض الحسن» إلى الواجهة. غير أنّ ما يجري اليوم يتجاوزُ استهدافَ مبانٍ أو مراكز، ليتحوّل إلى معركةٍ مفتوحةٍ على العصب المالي لحزب الله، وعلى مدّخراتِ عشراتِ آلافِ اللبنانيين الذين هربوا من المصارف التقليدية إلى هذه الجمعية منذ انفجارِ الأزمة عام 2019. مؤسسةٌ في مرمى النار تقدّم «القرض الحسن» نفسها كجمعيةٍ اجتماعيةٍ تعمل وفقَ مبدأ القرض الحسن من دون فوائد ربوية، عبر شبكةِ فروعٍ منتشرةٍ في الضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب والبقاع. خلال سنوات الانهيار، توسّعت قاعدةُ المودعينَ والمقترضين لديها بشكلٍ كبير، بعد أن فقد الناسُ ثقتهم بالمصارف وعجزوا عن سحب ودائعهم بالدولار. جعل هذا التطوّر من الجمعية مركزَ ثقلٍ مالي حقيقي داخل بيئةٍ واسعة، وأكسبها دوراً يتجاوز تقديم قروض صغيرة إلى إدارةِ كتلٍ نقدية وودائع وذهبٍ مرهون، ما عزّز الاتهامات الأميركية بأنها أداةٌ مالية موازية تابعة لحزب الله تُستخدم لتمويل نشاطه والالتفاف على منظومة العقوبات. في الأسابيع الأخيرة، برز مساران متوازيان:المسار العسكري، حيث استهدفت إسرائيل عدداً من المراكز التي تقول إنها تابعة لـ«القرض الحسن» أو تُستخدم لتخزين الأموال والذهب العائد للحزب ومناصريه في أكثر من منطقة لبنانية. الرسالة واضحة: ضربُ الشبكة المالية الميدانية للحزب تماماً كما تُضرب مخازن السلاح ومراكز القيادة.وعلى المستوى الدبلوماسي، تتحدّث الأوساط السياسية عن أن وفداً أميركياً زار بيروت أخيراً طرح، بشكل مباشر أو غير مباشر، ملف «القرض الحسن» تحت عنوان “تجفيف مصادر تمويل حزب الله”، مع تسريباتٍ عن طلب إقفال الجمعية أو فرض قيود صارمة عليها. يأتي ذلك امتداداً لسلسلة عقوبات طالت المؤسسة ومسؤولين فيها وشركات مرتبطة بها خلال السنوات الماضية. بهذا المعنى، يجد «القرض الحسن» نفسه اليوم في قلب معركةٍ مزدوجة: قصفٍ من الجو، وضغوطٍ مالية وسياسية على الأرض. مدينة تستحق أن تكون مركزًا معرفيًا متطورًا.. تحوّلت إلى حي فقير رقميًا قصفٌ مالي في الخطابِ المحسوب على حزب الله وبيئته، يجري وصف هذه الضغوط بأنها “سَطوٌ أميركي” على أموال اللبنانيين ومحاولة لوضع اليد على مدّخراتهم تحت عنوان مكافحة تمويل الإرهاب.في المقابل، تردّ واشنطن بأن ما تفعله هو تطبيقٌ صارم لمنظومة العقوبات ومنع استخدام الأراضي والمؤسسات اللبنانية كمنصّة لتمويل تنظيم تعتبره الولايات المتحدة منظمةً إرهابية. بين هذين الخطابين المتناقضين، يضيع السؤال الأهم: هل الإجراءاتُ المقترحة تستهدف فعلاً حزب الله وحده، أم تمتدّ عملياً إلى جيوب الناس الذين وجدوا في «القرض الحسن» ملاذاً بعد سقوط المصارف التقليدية؟ إزاء هذا المشهد، تقف الدولة اللبنانية أمام اختبارٍ شديد الحساسية: فإما الاستجابةُ للضغوط الأميركية ولو جزئياً، بما قد يُترجَم بخطواتٍ قانونية أو مصرفية ضد الجمعية (ملاحقات، إقفال فروع، تضييق على التعاملات). هذا المسار يرضي واشنطن وربما يجنّب لبنان عقوبات إضافية على النظام المالي، لكنه يهدّد بصدامٍ سياسي وأمني مع حزب الله وبيئته الشعبية، ويعزّز شعوراً واسعاً بأن الدولة تستهدف «أموال الفقراء» وليس أموال الطبقة السياسية.وإما التجاهل والممانعة، وهو ما يعزّز موقعَ حزب الله داخلياً، لكنه يفتح الباب أمام مزيدٍ من العقوبات والعزلة، وربما إجراءات تطال مصارف ومؤسسات رسمية لبنانية بحجّة “التساهل مع تمويل الحزب”. في الحالتين، يبدو أن ثمن القرار ستدفعه مؤسساتُ الدولة الهشّة واقتصادُ البلد المنهك. المودعون والأسئلة الكبيرة منذ ما بعد 2019، قرّر كثيرٌ من اللبنانيين سحب ودائعهم من المصارف حين سنحت الفرصة، أو بيع جزءٍ منها في السوق، ثم نقلوا ما تبقّى من مدّخرات نقدية أو ذهبية إلى «القرض الحسن» أو خزّنوها في المنازل. بالنسبة لهؤلاء، القضية ليست شعاراتٍ سياسية، بل أسئلةٌ عملية جداً: ماذا لو تعرّضت الجمعيةُ لقرارات إقفال أو ملاحقة قضائية؟ ماذا لو تكرّرت الضرباتُ العسكرية على مراكز تخزين الأموال والذهب؟ كيف يمكن استرداد الحقوق في مؤسسة لا تخضع فعلياً لرقابة مصرف لبنان أو لقواعد الحوكمة والشفافية المعتمَدة نظرياً في القطاع المصرفي؟ النتيجة أن المودعين وجدوا أنفسهم، مرّة جديدة، أمام خطر خسارة مدّخراتهم؛ مرّة عبر الانهيار المصرفي، ومرّة عبر تحويل مؤسسة بديلة إلى هدفٍ في لعبة الأمم. «بنكُ الظل» الصورة في الداخل اللبناني تبدو منقسمة أيضاً. معارضو حزب الله يرون في «القرض الحسن» “بنكَ ظلّ” يتفلّت من القوانين والضرائب والرقابة، ويمنح الحزب أفضليةً هائلة في سوق المال والاقتصاد، ويشكّل منافسة غير متكافئة للمصارف المرخّصة.في المقابل، يعتبره مؤيّدوه شبكةَ أمانٍ اجتماعية قدّمت للناس قروضاً صغيرة ومتوسطة بلا فائدة أو بفوائد رمزية، وساعدتهم على شراء منازل أو تمويل مشاريع أو تغطية نفقات تعليم واستشفاء، في الوقت الذي أغلقت فيه المصارف أبوابها في وجوههم. يعكس هذا الانقسام الشرخَ الأعمق في البلد بين من يرى في الحزب ومؤسساته “دولةً داخل الدولة”، ومن يرى فيها تعويضاً عن دولةٍ غائبة أو منحازة. السيناريوهات المحتملة في ضوء الوقائع الحالية، يمكن رسم ثلاثة مسارات رئيسية لموضوع “القرض الحسن”: تشديدٌ تدريجي من دون إقفالتمضي الولايات المتحدة في سياسة العقوبات واستهداف الأفراد والشركات المتعاملة مع الجمعية، مع تشجيع الدولة على تضييق الخناق التنظيمي، دون الذهاب إلى قرار صدامي بإقفال تام. يبقى «القرض الحسن» يعمل، ولكن ضمن مناخ مخاطر أعلى وعزلة أكبر. مواجهةٌ مفتوحةإصرار أميركي على خطوات حاسمة يقابله رفض قاطع من حزب الله، ما يفتح الباب أمام اشتباكٍ سياسي وربما أمني داخلي، يضيف ملف «القرض الحسن» إلى قائمة أزمات الرئاسة والحكومة واللاجئين وغيرها. تسويةٌ رماديةمقايضة سياسية أوسع، تخفَّف فيها الضغوط المباشرة مقابل ضبط بعض تعاملات الجمعية أو الحدّ من توسّعها، بما يجنّب الجميع الانفجار الكامل. «القرض الحسن» اليوم ليس مجردَ جمعية مالية في مرمى العقوبات، بل مرآةٌ لأزمةٍ أعمق يعيشها لبنان: دولةٌ عاجزة، نظامٌ مصرفي منهار، سلاحٌ في قلب السياسة، وضغوطٌ خارجية تتعامل مع البلد كساحةِ تصفية حسابات. أمّا السؤال الأهم، الذي لم يُجَب عنه بعد، فهو: من سيحمي أموال اللبنانيين في هذه العاصفة، قبل أن تُمحى الحدود نهائياً بين عقابِ حزبٍ وسحقِ مجتمع؟