لم يكد المسؤول الإداري الجديد يتسلّم مهامه في إحدى دوائر المدينة الأساسية حتى بدأ الهمس يتردّد في الكواليس الطبية والاجتماعية عن لجوئه المتزايد إلى الحبوب المهدئة كوسيلة لمواجهة ضغوط المنصب. مصادر طبية صيداوية معنية توقفت عند هذه الظاهرة، معتبرةً أنّها تحمل دلالات مثيرة للقلق لا يمكن التهاون معها. ففي وقتٍ يُفترض أن يمنح المنصب الجديد دفعةً من الثقة والطموح، وجد الرجل نفسه – بحسب مقربين – أمام كمٍّ من التحديات والضغوط الإدارية والسياسية، دفعه إلى البحث عن “ملاذ سريع” في الأدوية المهدئة. ومعلوم أنّ الاستهلاك المفرط لمثل هذه العقاقير لا يمرّ من دون آثار جانبية خطيرة على الصحة الجسدية والنفسية، خصوصاً إذا جرى التعامل معها كبديل عن مواجهة أصل المشكلة أو معالجة جذورها. يؤكد الأطباء أن الإفراط في تناول أدوية الأعصاب يؤدي إلى مضاعفات مباشرة على التركيز، الجهاز العصبي، وحتى القدرات الإنتاجية، وهو ما قد ينعكس سلباً على أداء المسؤول في موقعه. ويزداد الأمر خطورة عندما يتعلّق بشخص لا يزال في منتصف العمر، إذ إنّ هذه المرحلة تتطلب توازناً صحياً ونفسياً لمراكمة الخبرة والإنجاز، لا التورط في عادات دوائية قد تحوّل الضغط المهني إلى أزمة وجودية. في قراءة أوسع، يرى مطلعون في الشأن الطبي أنّ الظاهرة تكشف هشاشة البنية الإدارية في المدينة، حيث يجد بعض المسؤولين أنفسهم محاطين بتوقعات ضخمة وملفات شائكة تفوق قدرتهم على التحمّل. وهنا تتحول المناصب، بدل أن تكون فرصة لخدمة عامة، إلى عبء نفسي يستنزف صاحبها. لكن تبقى الحقيقة واحدة: الصحة هي الثروة الفعلية في الحياة، فيما الكراسي والمناصب ليست سوى أوهام عابرة قد تتبخّر عند أول اختبار.
في بلدٍ اعتاد أن يقدّم نفسه كمنارةٍ للعلم والثقافة، تتحوّل الجامعةُ اللبنانية، الجامعةُ الوطنية الوحيدة، إلى صورةٍ مُصغَّرة عن انهيار الدولة. القاعاتُ تضيق بطلابها، والأساتذةُ يُهانون بتأخير مستحقاتهم، والمناهجُ لا تزال أسيرةَ عقودٍ مضت. كلُّ ذلك يجري تحت أنظار سلطةٍ سياسية تتعامل مع المؤسسة الأكاديمية الأهم في لبنان وكأنها عبءٌ زائد، لا رافعة وطنية صفوف كالمخيماتيكفي أن يزور المرءُ كليةَ العلوم أو الحقوق أو الإعلام ليكتشف المأساة: قاعاتٌ تستوعب مئةَ طالبٍ تضم أحياناً أكثر من مئتين. المقاعدُ غيرُ كافية، والطلابُ يقفون أو يجلسون على الأرض ليستمعوا إلى محاضرةٍ تُلقى على عجل.بحسب الأرقام الرسمية، بلغ عددُ طلابِ الجامعة اللبنانية نحو 80 ألفَ طالبٍ قبل الأزمة المالية، ليتراجع العددُ المُسجَّل عام 2024–2025 إلى 50 ألفاً فقط من أصل 65 ألفاً مُؤهَّلين للتسجيل.هذا الانخفاضُ لا يعود إلى تحسّن الظروف، بل إلى تسرّب عشرات الآلاف نحو الجامعات الخاصة أو الهجرة القسرية، بعد أن عجزت الجامعةُ عن فتح صفوفٍ إضافية أو توفير مقاعدَ تليق بأبنائها. أساتذة على قارعة الطريقالأستاذُ الجامعي، الذي يُفترض أن يكون قدوةً علمية، تحوّل إلى موظفٍ مُهان. رواتبه فقدت أكثر من 90% من قيمتها بفعل انهيار العملة. بدلُ الإنتاجية، الذي يُفترض أن يُعوّض جزءاً من الخسارة، أصبح مجرد فتات. عقودُ التفرّغ تُؤجَّل، والمتعاقدون بالساعة يعيشون على قلقٍ دائم: هل تُدفع مستحقاتهم هذا الشهر أم بعد سنة؟لا عجب إذن أن نشهد إضراباتٍ متكرّرة تهدّد العام الجامعي بالشلل. فكيف يُنتظر من أستاذٍ لم يقبض حقَّه أن يُقدّم تعليماً نوعياً أو أن يُواكب التطور البحثي العالمي؟ بلغ عددُ طلابِ الجامعة اللبنانية نحو 80 ألفَ طالبٍ قبل الأزمة المالية، ليتراجع العددُ المُسجَّل عام 2024–2025 إلى 50 ألفاً فقط من أصل 65 ألفاً مُؤهَّلين للتسجيل مناهج جامدة في زمن متسارعبينما تتسابق الجامعاتُ الإقليمية على تحديث برامجها وربطها بسوق العمل، لا تزال الجامعةُ اللبنانية تتخبّط في تطبيق نظام LMD. في بعض الكليات، تُفرض مبارياتُ دخولٍ غيرُ مبرّرة لشهادة الماستر، ما يحوّل التعليمَ إلى امتحانٍ إضافي بدل أن يكون امتداداً للتعلّم.المختبراتُ تعاني نقصاً في المعدات، والمكتباتُ ما زالت تعتمد على كتبٍ متقادمة، في حين يغيب الاستثمارُ في التكنولوجيا التعليمية. في زمن الذكاء الاصطناعي والاقتصاد الرقمي، ما زال طلابُ الجامعة اللبنانية يدرسون بوسائل ثمانينيات القرن الماضي. 21,958 طالباً خسرتهم الجامعةُ بين عامي 2021 و2023، أي ما يُعادل رُبع طلابها نسبةُ طلاب الجامعة من مجمل التعليم العالي في لبنان انخفضت من 60% في التسعينيات إلى نحو 35% فقط اليوم عشراتُ الصفوف في الكليات تبدأ متأخرة أو تُقسَّم على دفعات، ما يجعل الطالبَ ينتظر أشهراً قبل أن يبدأ مادته الأساسية هذه الأرقامُ ليست إحصاءاتٍ باردة، بل مؤشراتُ انهيارٍ مُمنهج. حين تخسر الجامعةُ اللبنانية موقعَها كخيارٍ أول للطلاب، يخسر لبنان ما تبقّى من عدالةٍ في التعليم. صرخة لا بد منهاالسلطةُ تصمت، والطلابُ يهاجرون، والأساتذةُ يُستنزَفون. النتيجة: تفريغُ الجامعة من دورها التاريخي، وفتحُ الطريق أمام الجامعات الخاصة، التي تتحول يوماً بعد يوم إلى الخيار الإجباري لمن يستطيع الدفع، فيما يُترك أبناءُ الطبقات الوسطى والفقيرة لمصيرهم.الجامعةُ اللبنانية ليست مجرد مبنى أو مؤسسة. هي ذاكرةٌ وطنية، مصنعُ كفاءات، وحصنٌ أخير للفقراء في وجه احتكار التعليم. إنقاذُها لا يكون بترقيعٍ هنا أو دعمٍ مؤقتٍ هناك، بل بإرادةٍ سياسية تعترف بأنها العمودُ الفقري للبلد.هل يُعقَل أن تُترك الجامعةُ، التي خرّجت آلافَ القضاة والمهندسين والأطباء والصحافيين، لتواجه مصيرَها وحيدة؟ هل يريدون أن تتحوّل من جامعة الوطن إلى “جامعة الأطلال”؟ إن لم تُفتح الصفوف، وتُدفع المستحقات، ويُحدَّث المنهج، ويُعاد الاعتبار للأستاذ والطالب، فإن الحديث عن “جامعة لبنانية” سيبقى مجردَ ذكرى رومانسية، تُروى للأجيال المقبلة عن زمنٍ كان فيه التعليمُ العام المرموق أمراً ممكناً في هذا البلد.
لفتَ نظرَ المهتمين بأوضاع مدينة صيدا، البيانُ الذي أصدرته البلدية بتاريخ ١٤ أيلول ٢٠٢٥، الذي دعت فيه أصحابَ المبادرات للتنسيق المسبق مع البلدية والحصول على موافقة خطيّة منها، وذلك “بعد كثرة التقديمات والمبادرات الطيبة والمشكورة من أبناء صيدا”.وتضمّن البيانُ بنودًا تشترط إلزامَ كلّ صاحب مبادرة بالحصول على موافقة خطية مسبقة، كي تستطيع البلدية تنظيمَ الأعمال وضمانَ سلامتها، وأنّ كل مبادرة لا تلتزم سيتم إيقافُها من قِبَل شرطة البلدية، كما جاء في البيان المذكور. لماذا المبادرات؟ لا يختلفُ اثنان حول قانونية البنود التي تضمنها البيان، الذي أتى بعد مبادرات عديدة نُفِّذت من قِبَل مواطنين من أعضاء المجلس البلدي أو من خارجه، وكان آخرها مبادرة صبّ الباطون في شارع الشاكرية التي بادر إليها الصيدليّ عمر مرجان.لكن السؤال الذي يطرح نفسه: لماذا تحصل هذه المبادرات الآن؟ البعضُ يشير إلى أنّ معظم أصحاب المبادرات يسعى لدور سياسيّ أو سلطويّ في المدينة، والبعض الآخر يشير إلى عدم قيام بلدية صيدا بواجباتها ومهامها ما فتح الباب أمام هذه المبادرات. فضيحة تبليط الشوارع إذا كان بيانُ البلدية قد أتى بعد عملية صبّ الباطون في شارع الشاكرية مباشرة، فإنّ السؤال الملحّ يصير: لماذا لم تُبادر بلدية صيدا إلى إصلاح فضيحة تبليط السوق التجاري التي جرت قبل سنوات؟خلال تنفيذ المشروع المذكور كان النقاشُ يدور حول آلية تنفيذ المشروع وكيفية الإشراف عليه، وكان واضحًا منذ تلك اللحظات أنّ المشروع فاشل وسيُخرّب السوق التجاري بالطريقة التي نُفِّذ فيها، ومع ذلك وافق المجلس البلدي آنذاك على الأعمال ووقّع المعنيون في المجلس البلدي على تسلّم المشروع. اليوم، ومنذ أكثر من شهر، تتداول المعلومات أنّ السلطات المركزية قد أمّنت كمية الزفت المطلوبة لإعادة تزفيت شوارع السوق الأساسية، وأنّ معظم التجار وافقوا على إعادة التزفيت قبل وصول فصل الشتاء، بديلًا من الخراب الذي تعيشه شوارع السوق التجاري، إلا أنّ الحديث يدور حول موقف رئيس جمعية التجار علي الشريف وعدد من التجار الذين يرفضون التزفيت ويصرّون على إعادة التبليط، من دون البحث في طريقة تأمين التمويل اللازم لذلك. بانتظار التجار بالمقابل، يُلاحَظ غيابُ موقف رسميّ وواضح للسلطة المحلية، ويبدو أنّ المجلس البلدي بانتظار أن يحسم التجار موقفهم، ناسيًا مسؤوليةَ البلدية وسلطتَها التقريرية.لا يكفي أن نضع شروطًا لأيّ مبادرة، بغضّ النظر عن النوايا السياسية لأصحابها، المهم أن تلعب البلدية دورَها كمؤسسة مسؤولة عن المدينة، هذا إذا كنا من أصحاب النوايا الحسنة.لأنّه من الجانب الآخر قد تبرز آراء تُبرّر عجزَ البلدية وضرورةَ تلزيمها إلى القطاع الخاص أو جمعيات أهلية.