إذا كانتْ موائدُ رمضانَ في بعضِ العواصمِ العربيةِ قدْ تحوّلتْ، ويا للأسفِ، إلى مهرجاناتٍ للتبذيرِ تُلقى فيها النِّعمُ في القمامةِ بدلًا من أنْ تكونَ جسورًا للرحمةِ والتكافلِ، فإنَّ شوارعَ مدينةِ صيدا لم تكنْ أقلَّ بشاعةً في الآونةِ الأخيرةِ
كان الحال في صيدا مشابها إلى حد ما لما في الولايات المتحدة الأميركيّة، حين يُقال لك: "You are smart"، فقد اجتزت نصف الطريق إلى "سيليكون فالي"، حيث الفرص بالثراء والتطور والتقدم والابداع واحتضان الأذكياء في دول الخليج، على سبيل المثال، “أنت ذكي” تُقال بوقار يليق بشخصٍ يستحق أن يتصدّر مقدّمة المجلس ويُصَبّ له القهوة. أمّا في صيدا، فالأمر مختلف كليًّا: إذا أثبتّ أنك ذكي، فغالبًا ما ستُكافأ بجملة: “إنت حرام تكون بلبنان”، أو بنسختها المحلّية الأكثر لذعًا: “هيدا مخّو بيشتغل، يروح يشوفلو بلد يقدّروا هيك نوع”. حساسية العقلفي العاصمة الثالثة للبنان، مدينة العلم والعلماء، والحبر والسمك والزعتر، لم تَعُد المشكلة في غياب الفرص، بل في حساسيّة المجتمع تجاه من يمتلك عقلًا وقّادًا. هنا، إذا كنتَ رياديًّا أو مبتكرًا، فعليك أن تُخفي ذلك كما يُخفى الذهب في الجوارير، وإلّا فقد تصبح هدفًا للتنمّر الوظيفي، الغيرة العائليّة، أو حتى العرقلات الإداريّة. أحد المهندسين الصيداويين – فضّل عدم ذكر اسمه لأنّه “بعدو بلبنان وبدنا نحافظ عسلامتو” – حاول أن يؤسّس شركة ناشئة تعتمد على الذكاء الاصطناعي لتحسين توزيع المياه في أحياء المدينة. طلب تمويلاً صغيرًا من بلديّة صيدا أو أحد الشركاء المحليين، فقيل له: “شو بدك تعمل روبوت يوزّع المي؟ خلّينا عالطرمبة أحسن”. لم يمرّ أسبوع حتى تلقّى عرضًا من شركة أوروبيّة، فتوجّه إلى ألمانيا، وهناك – كما قال لنا ضاحكًا – “قالولي إنت عبقري، مش حرام تكون بلبنان، حرام تبقى هون… لازم تسافر على برلين فورًا”. الغرق في الأزمات في المقابل، لا تزال المدينة تغرق في الأزمات: مياه ملوّثة، كهرباء مقنّنة، وشوارع تحوّلت إلى ساحات صراع بين درّاجة توصيل وصوت مولّد. وسط كلّ هذا، يُنظر إلى الذكاء وكأنّه رفاهيّة زائدة عن الحاجة، أو في أحسن الأحوال، نوع من الغرور. الخطير أن هذه الذهنيّة لا تقتصر على الشارع، بل تمتدّ إلى المؤسّسات، حيث تُقابل الأفكار الجديدة بتنهيدة طويلة تُختصر بجملة: “خلّينا عالقديم… ما حدا اشتكى”. لكن من أين جاءت هذه الذهنيّة؟ هل هي نتيجة الحرب الأهليّة؟ أم من تراكم الخيبات؟ أم أنّها ببساطة ردّ فعل دفاعي من مجتمع يرى في المبدع تهديدًا لا قيمة مضافة؟ الأرجح أنّها مزيج من كلّ ما سبق، ممزوجة بقليل من “حسد الأقارب”، وكثير من “سياسة لا تشبه أهل المدينة”. في النهاية، لا يسعنا إلا أن نضحك بمرارة. فصيدا التي أنجبت رائد الفضاء علي سكاف، والمخترع في مجال الأدوية سامر فاخوري، لا تزال تتعامل مع الموهبة كما لو كانت عيبًا اجتماعيًّا، أو “ترفًا لا يليق بناس بتقسط فاتورة المولّد”. فلعلّنا نُعيد النظر، ونبدأ نستخدم هذه العبارة الشهيرة بشكل مختلف:“حرام تكون بَعيد عن شمال الليطاني، لأنك ذكي… ولأننا بحاجة لك، ولذكائك، مش لنخونك ونخليك تهجّ.” غادروا لأنهم ناجحون بحسب أرقام غير رسميّة، هناك ما يزيد عن ٣٢٠٠ خرّيج جامعي من أبناء صيدا بين عامي ٢٠١٨ و٢٠٢٣، غادر منهم ما لا يقل عن ١٢٠٠ شاب وفتاة إلى الخارج بحثًا عن فرص تستحقّ مؤهلاتهم. الغريب أن هؤلاء لم يُغادروا لأنهم فشلوا، بل لأنهم نجحوا. صيدا، التي كانت تُصدّر الحرفيين والتجّار، أصبحت تُصدّر العقول… مجانًا.
تاريخيّاً، تقليدياّ، وحتى مهنياّ، تقع على عاتق رئيس التحرير في أيِّ جريدةٍ تصدرُ مسؤوليةُ الإجابةِ في افتتاحية العدد الأول عن سؤالٍ بديهيٍّ لماذا جريدةٌ جديدة؟ومعه الأسئلة الطبيعية المصاحبة: ما خطُّها التحريري؟ ما تموضعها السياسي؟ ما رؤيتها للقضايا الاقتصادية والإنسانية والاجتماعية والفكرية؟ لقد تغيَّر عالم الإعلام كثيرًا في السنوات الأخيرة، وتغيَّرت معه شروط اللعبة، في دقائق تفاصيلها كما في عظائم الأمور.ولأنّنا عاصرنا جيلين، ونحن على أبواب الجيل الثالث من متغيرات هذه المهنة/الرسالة، مع دخول الذكاء الاصطناعي غرفة التحرير، نؤكّد على أصلٍ ثابت: Content is King مهما تغيّرت المتغيرات، و”عُدَّةُ الشغل”… يبقى المحتوى هو الملك. من المفردة اللاتينية “positus”، تنحدر كلمة “post”، وهي اسم المفعول من الفعل “ponere”، الذي يعني “يضع”. في الجرمانية القديمة، جاءت الكلمة بمعنى: “عمود” أو “وتد”، وتعني أيضًا “القطعة القائمة المثبَّتة في الأرض”، أو “موضع” أو “مكان”. من هنا استلهمنا التسمية. في الإمبراطورية الرومانية القديمة، كانت “positus” تُستخدم في سياق محطات التوقّف على الطرق لنقل الرسائل. هكذا تكوّنت فكرة “نقاط البريد”، ومنها نشأت الكلمة الإنجليزية “post” للدلالة على نظام البريد، ثم تحوّلت لاحقًا إلى “تعليق إعلان على الحائط”. مع تطوّر وسائل الإعلام والتواصل، لا سيما مع ظهور الإنترنت، وازدياد استخداماته، وما تبعه من فورة وسائل التواصل الاجتماعي، صار الاستخدام الحديث لكلمة “بوست” يأتي بمعنى “النشر”. وقد تعرَّبت الكلمة في الاستعمال اليومي، كما حصل مع كلماتٍ مثل: تلفزيون وتلفون. لكلّ ما تقدّم، سنسعى في “البوست” لأن نكون عمودًا مثبّتًا في أرضه، بجذورٍ يُفتَخَرُ بها، وأن نضع حدًّا للكثير من الممارسات الشاذة التي سبقت، ونُؤسِّس لما يترك أثرًا فيما سيأتي. إن أَصَبْنا فلنا أجران، وإن لم نُوَفَّق فنحن مأجورون. “البوست”: جريدة إنسانيّة، عربيّة، وطنيّة، تقدّميّة، تحرّريّة، ثوريّة، جامعة. ومع ذلك، سنسعى لنكون صوتاً صادحاً من أصوات “السُّنّة” المغيبين في لبنان.صوت الذين لا صوت لهم. استعارة من مدرستنا الأم: “السفير”. في وقتٍ انتهى فيه الورق كأداةٍ لانتشار الأخبار بين الناس، نُعيد له اعتباره، ولكن بطريقة “ذكيّة”: ورقةٌ وحيدة… كافية.ورقةٌ ذكيّة تدمج بين مفهوم الورق التقليدي، وتقنيات الهاتف المحمول الحديثة. في حضرة “الأستاذ”… كلّنا تلامذة. كما قالها الراحل جوزف سماحة يومًا عن الصدور في “توقيتٍ صائب”، نستحضر اليوم المفهوم لأننا نراه توقيتًا صائبًا… وإن طال. نستلهم فكرتك التي لم يُتَح لك أن تُحقّقها: أسبوعية، لا يومية، أبعد من الخبر نفسه، في زمنٍ تتسارع فيه الأخبار، وتندفع فيه المعلومات… حدّ التخمة والملل. https://al-post.com/wp-content/uploads/2025/05/al-post-5.mp4 في نسخها المطبوعة، ستحاكي “البوست” دقائق المناطق اللبنانية، لا شمولية الوطن الكبير فحسب. موقعها الإلكتروني سيكون شاملًا، لكن نسختها الورقية ستُوزَّع في المدن والمحافظات والمناطق اللبنانية بنسخٍ محليّة، تُحاكي أخبار وهموم ومشاكل وتطلّعات هذه المناطق وأهلها، على حدة. سنخوض “حروب الناس الصغيرة”، وحكاياتهم الفرديّة والجماعيّة، البسيطة:عن شوارع أفضل، وحياة كيف يمكن أن تتحسّن. وحكايات كثيرة عن “الأطراف”… لم يروِها أحد. في “الزمن الكبير” المعولم، سيكون هناك: “البوست لصيدا”، “البوست لكسروان”، “البوست لطرابلس”، البوست لكلّ مناطق لبنان… أما البداية، فمن أصل الحكاية: من صيدا، بكر كنعان… أولى مدن فينيقيا. “البوست” هي المدماك الأول من مشروعين إعلاميين سيبصران النور بإذن الله تعالى، تِباعًا.ولأن “السُّنّة” هي “الأمّة”، وما عدا ذلك مجرّد أفكار تحتمل الصواب والخطأ،فولادة جريدة إسلامية دوليّة عابرة للحدود والبلدان، والأعراق والمذاهب…مسألةُ وقتٍ لا أكثر.