في خُطوةٍ تتجاوزُ أبعادَها الإداريّةَ لِتَرسُمَ ملامِحَ سياسيّةً جديدة، وَقَّعَ وزيرُ الداخليّةِ والبلديّات، أحمد الحجار، على مَرسومَيْ ترخيصِ حزبَيْنِ جديدَيْن: حزبِ «المسار الوطني» بقيادةِ بهاء رفيق الحريري، وحزبِ «تحالف وطني» المُنبثِقِ من رَحِمِ الحراكِ المدنيِّ وقُوى التغيير للوهلةِ الأولى، قد يبدو هذا القرارُ إجراءً روتينيًّا ضِمنَ قانونِ الجمعيّات، لكنَّهُ في جوهرِه يُؤشِّرُ إلى بدايةِ تحوُّلٍ في توزيعِ الأدوارِ السياسيّة، سواءٌ داخلَ الساحةِ السُّنِّيّةِ التي تشهدُ فَراغًا قياديًّا، أو في صُفوفِ المعارضةِ وقُوى التغييرِ الساعيةِ إلى تنظيمِ صُفوفِها. عودةُ الحريريّةِ السياسيّةِ بوجهٍ جديد؟ تَقليديًّا، تَنشأُ الأحزابُ في لبنان عبرَ نظامِ «العِلمِ والخَبَر»، وهو إشعارٌ قانونيٌّ يُودَعُ لدى وزارةِ الداخليّة. لكنَّ توقيعَ الوزيرِ الحجارِ ينقلُ «المسار الوطني» و**«تحالف وطني»** إلى مرحلةٍ جديدة، مانحًا إيّاهما شخصيّةً اعتباريّةً كاملة. لم يَعُدِ الأمرُ يقتصرُ على مُبادراتٍ فرديّةٍ أو مجموعاتٍ ناشطةٍ، بل أصبحنا أمامَ كيانَيْنِ حزبيَّيْنِ رسميَّيْنِ، يتمتّعانِ بالقدرةِ على فتحِ حساباتٍ مصرفيّةٍ، وتأسيسِ مكاتِبَ، وتنظيمِ قواعدِهما الشعبيّة، والأهمّ، خوضِ الاستحقاقاتِ الانتخابيّةِ تحتَ رايتِهِما الخاصّة. يُمثِّلُ ترخيصُ حزبِ «المسار الوطني» نقطةَ تحوُّلٍ استراتيجيّةً في مسيرةِ بهاء الحريري. فبعدَ سنواتٍ من الحضورِ الإعلاميِّ والسياسيِّ الذي قدَّمَ فيه نفسَه كوريثٍ «مُصحِّحٍ» لمسارِ الحريريّةِ السياسيّةِ عقبَ اعتزالِ شقيقِه سعد، يسعى بهاء اليومَ إلى ترجمةِ هذا الحضورِ إلى هيكلٍ تنظيميٍّ فاعل. يهدفُ الحزبُ إلى استقطابِ الشارعِ السُّنّيِّ الذي يعيشُ حالةً من الفَراغِ منذ تراجُعِ تيّارِ المستقبل، وتأطيرِ شَبَكاتِ المناصرينَ في بُنيةٍ حزبيّةٍ واضحة. يَطرحُ «المسار الوطني» نفسَه كمنصّةٍ لاستعادةِ «مشروعِ رفيق الحريري»، ولكن بخِطابٍ أكثرَ حدّةً فيما يتعلّقُ بملفّاتِ السيادةِ، وتطبيقِ اتفاقِ الطائف، ومُكافحةِ الفساد.بهذا، يتحوّلُ الحزبُ إلى مُنافِسٍ مباشرٍ للقُوى السُّنِّيّةِ التقليديّةِ وبقايا تيّار المستقبل، وقد يُؤدّي هذا التطوّرُ إلى فَرزٍ جديدٍ داخلَ البيتِ الحريريِّ نفسِه. قد يبدو ترخيصُ هذَيْنِ الحزبَيْنِ خَبَرًا عابرًا في خِضمِّ الأزماتِ اللبنانيّةِ الطاحنة، لكنَّهُ يَحمِلُ مؤشّراتٍ عميقةً على إعادةِ تشكيلِ المشهدِ السياسيّ. فلبنان يتّجهُ، ولو ببطءٍ، نحوَ مرحلةِ ما بعدَ أحزابِ الحربِ الأهليّةِ والوصاية، حتى مع استمرارِ نُفوذِها من زَخَمِ الشارعِ إلى العَملِ السياسيِّ على الضفّةِ الأُخرى، يَحمِلُ ترخيصُ حزبِ «تحالف وطني» دلالةً مختلفةً كُلِّيًّا. فهذا الكيانُ، الذي وُلِدَ من رَحِمِ الحراكِ المدنيِّ منذ عامَ 2017، يَجمعُ تحتَ مظلّتِه مجموعاتٍ شبابيّةً ومناطقيّةً رفعتْ شِعاراتِ بناءِ دولةِ المواطنةِ ومُحاربةِ الفساد. بتحوُّلِه إلى حزبٍ مُرخَّص، يخطو «تحالف وطني» خُطوةً حاسمةً نحوَ العملِ السياسيِّ المُنظَّم، مُتجاوزًا تجربةَ دعمِ لوائحِ التغييرِ في انتخاباتِ 2022. إنّهُ يُقدّمُ نموذجًا لحزبٍ عابِرٍ للطوائف، يسعى لتحويلِ شِعاراتِ الساحاتِ إلى برنامجٍ سياسيٍّ قابلٍ للتطبيق. لكنَّ هذا التحوّلَ يطرحُ سؤالًا جوهريًّا: هل تنجحُ قُوى المعارضةِ في الانتقالِ من رَدِّ الفعلِ إلى بناءِ أُطرٍ سياسيّةٍ مُتماسكةٍ؟ أم أنَّ تَعَدُّدَ الأحزابِ سيُفاقمُ تشتّتَ الأصواتِ في الاستحقاقاتِ المقبلة؟ رَسائلٌ سياسيّةٌ بين السطور يَحمِلُ هذا القرارُ رسائلَ سياسيّةً مُتعدِّدةَ الأوجه: انفتاحُ الدولةِ على لاعبينَ جُدُد: ترخيصُ حزبَيْنِ، أحدُهما يُمثِّلُ شخصيّةً بحجمِ بهاء الحريري، والآخرُ منبثِقٌ من الحراك، هو إشارةٌ إلى أنَّ البابَ ليس مُوصَدًا أمامَ تشكيلِ قُوى جديدةٍ، رغم غيابِ قانونٍ عَصريٍّ للأحزابِ ورقابةٍ فعّالةٍ على التمويلِ السياسيّ. إعادةُ خلطِ الأوراقِ في الساحةِ السُّنِّيّة: يَجدُ الشارعُ السُّنّيُّ نفسَه أمامَ خيارٍ حزبيٍّ جديدٍ، ممّا قد يُعيدُ رَسمَ التحالفاتِ والتوازناتِ داخلَ الطائفةِ بعدَ سنواتٍ من الانكفاء. قد يبدو ترخيصُ هذَيْنِ الحزبَيْنِ خَبَرًا عابرًا في خِضمِّ الأزماتِ اللبنانيّةِ الطاحنة، لكنَّهُ يَحمِلُ مؤشّراتٍ عميقةً على إعادةِ تشكيلِ المشهدِ السياسيّ. فلبنان يتّجهُ، ولو ببطءٍ، نحوَ مرحلةِ ما بعدَ أحزابِ الحربِ الأهليّةِ والوصاية، حتى مع استمرارِ نُفوذِها. الشارعُ السُّنّيُّ اليومَ على موعدٍ مع تجربةٍ قد تنجحُ في مَلءِ الفَراغِ أو تُعمِّقُ الانقسام. وقُوى التغييرِ أمامَ اختبارٍ حقيقيٍّ لمدى قُدرتِها على التحوّلِ إلى مشروعٍ سياسيٍّ متينٍ، بدلًا من البقاءِ أسيرةَ الشِّعاراتِ والأُطرِ الفضفاضة. في بلدٍ عالقٍ بينَ انهيارٍ اقتصاديٍّ شاملٍ وفَراغٍ دستوريٍّ مُزمِن، لا يُمثِّلُ كلُّ حزبٍ جديدٍ مجرّدَ اسمٍ يُضافُ إلى السِّجِلّاتِ الرسميّة، بل هو محاولةٌ جديدةٌ للإجابةِ على السؤالِ الأكبر: مَن سيَصوغُ مُستقبلَ هذا البلد؟ هل هي السُّلطةُ القديمةُ بأقنِعتِها المُتجدّدة؟ أم قُوى جديدةٌ قادرةٌ حقًّا على تغييرِ قواعدِ اللعبة؟