في توقيت دقيق وحرج، وبتكتم بلغ حد النكران من أوساط رسمية، تسلُّم الجانب اللبنانيّ الوَرقة الأمريكيّة النهائيّة التي جاءت رَدّاً على الاقتراح اللبنانيّ الأخير المُقدَّم للمبعوث الأمريكيّ توم براك خلال زيارته الأخيرة إلى بيروت. كشفت مصادر سياسيّة مُطَّلعة لـ”البوست” إنّ الوثيقة الأمريكيّة تضمَّنت تعديلات جوهريّة على الصيغة اللبنانيّة الأوليّة، بما يجعل النصّ غير قابل للمراجعة أو التعديل، مع تضمينها مطالب محدَّدة تشمل:جدول زمنيّ لتسليم السِّلاح: يبدأ بالأسلحة الثقيلة وينتهي بالخفيفةإعادة ترتيب الأولويّات: مع تأجيل البحث في ملفّ مزارع شبعاتعديلات على ترسيم الحدود: تتضمَّن تنازلات من الحِصّة اللبنانيّة في مياه الوزّانيخيار القَبول الكامل أو الرَّفض الكامل: مع تحمُّل التداعيات المترتّبة على أيّ قرار توقيت حَرِج يُصعِّد التوتُّر يُلفت النظر في توقيت وصول الوَرقة الأمريكيّة، حيث جاءت عشيّة انعقاد مجلس الوزراء في جلسة مفصليّة مهمّة يوم الثلاثاء ٥ آب الجاري، ممّا يعني فَرض بحثها في جلسة تُثير جدلاً واسعاً حول مشاركة الثنائيّ الشيعيّ فيها.في هذا السياق، شهدت الساحة اللبنانيّة دعوات من هيئات ثقافيّة إلى تحرُّكات واسعة قبل جلسة مجلس الوزراء، رفضاً لما أسمته “إعدام المُقاومة”، ممّا يطرح تساؤلات حول موقف حزب الله والثنائيّ الشيعيّ من هذه التطوُّرات.توضح مصادر سياسيّة متابعة أنّ حزب الله لم يوجِّه أيّ دعوة رسميّة للتحرُّك يوم الثلاثاء، مؤكّدة أنّ التحرُّكات المذكورة تُعتبر مبادرات فرديّة لا علاقة للحزب بها.أمّا بخصوص مشاركة وزراء الثنائيّ في الجلسة، مع غياب وزيرين بداعي السفر، فتؤكّد المصادر أنّ الاتّصالات لا تزال جارية بهذا الخصوص. وتشير إلى أنّ الوَرقة التي وصلت من المبعوث الأمريكيّ “قلبت كلّ الأولويّات اللبنانيّة، ووضعت لبنان في موقع آخر”، واصفة إيّاها بأنّها “وَرقة مطلوب تنفيذها دون مناقشة”. التحدّي الأمريكيّ للسيادة اللبنانيّة يطرح الاقتراح الأمريكيّ تساؤلاً جوهريّاً حول كيفيّة تعاطي الدولة اللبنانيّة مع مطلب يفرض عليها وَضع جدول لتسليم السِّلاح، دون تقديم مُقابل حقيقيّ يتمثّل في وقف إطلاق النار أو الانسحاب أو تسليم الأسرى. في هذا الصدد، يظهر التناقض الأمريكيّ بشكل واضح في لبنان، حيث يُمارَس الضغط في لحظة تُعتبر فيها السلطة الحاكمة أقرب سياسيّاً إلى الخطّ الأمريكيّ، أو على الأقلّ غير معادية له. ورغم ذلك، تستمرّ واشنطن في التلويح بخيار الحرب والتصعيد الأمنيّ. تضع هذه الإشكاليّة الأمريكيّين أمام معادلة صعبة: كيف يضغطون بقوّة على بلد، في وقت يريدون فيه الحفاظ على توازن هشّ مع السلطة القائمة؟ تجد الولايات المتّحدة نفسها اليوم أمام مزيج من الأهداف المتعارضة: فهي تريد استثمار الانتصارات التي حقّقتها، لكنّها في الوقت نفسه عاجزة عن دفع هذه الإنجازات نحو حَسم شامل. موقف استراتيجيّ بحسب متابعين لحزب الله وطرق إدارته للملفات، فإنّ ما عبَّر عنه أمينه العام الشيخ قاسم ليس جديداً، بل هو امتداد لموقف يعتبر أنّ أيّ بحث في “مستقبل المُقاومة” يجب أن يتمّ ضمن إطار استراتيجيّ شامل، لا أن يُقحم في النقاشات الحكوميّة التقنيّة أو حتّى الأمنيّة، خصوصاً إذا جاء ذلك تحت ضغط خارجيّ.ويشدّد هؤلاء على أنّ الحزب لا يزال يدرس خطواته بروية، ولم يحسم بعد مشاركته في الجلسة المفترضة يوم الثلاثاء، بانتظار ما ستؤول إليه الوساطات القائمة، وهو ويتواصل مع الجميع لتقدير الأمور بدقّة بعيداً عن الانفعال، لأنّ الموضوع حسّاس ويحتاج إلى الكثير من الحِكمة والتروّي في مقاربته. وتنبّه إلى أنّ الحزب والثنائيّ عموماً لا ينطلقان من فكرة مقاطعة جلسة مجلس الوزراء، بل ينتظران كيفيّة تعاطي السلطة السياسيّة الرسميّة مع الوَرقة الأمريكيّة، وكيفيّة مقاربة موضوع السِّلاح خلال الجلسة المرتقبة. تُعيد جلسة الحكومة المحدَّدة في ٥ آب لاتّخاذ قرار البحث في نَزع السِّلاح ووَضع جدول زمنيّ لتحقيق ذلك، إلى الأذهان جلسة ٥ أيّار ٢٠٠٨، التي حاولت مصادرة شبكة الاتّصالات الخاصّة بالحزب. واعتُبرت تلك الجلسة آنذاك أنّها تمسّ بجوهر المُقاومة، فتصدّى لها حزب الله في ٧ أيّار وأسقط ما أسماه “مؤامرة”. والسؤال المطروح اليوم: هل سيسمح الحزب بمصادرة سِلاحه، أم سيتصدّى مرّة أخرى لما يسمّيه البعض “إعدام المُقاومة”؟ بين أورتاغوس وبراك… والتصعيد المرتقب تَشْهَدُ الساحةُ اللبنانيةُ حالِيًّا تَطَوُّراتٍ سياسيَّةً ودبلوماسيَّةً مُعَقَّدَةً، تَتَمَحْوَرُ حَوْلَ مُسْتَقْبَلِ المبعوثِ الأمريكيِّ الخاصِّ توم براك وَدَوْرِهِ في الملفِّ اللبنانيِّ، وَسَطَ تَكَهُّناتٍ حَوْلَ عَوْدَةٍ مُحْتَمَلَةٍ لِمورغان أورتاغوس إلى المشهدِ اللبنانيِّ. هذِهِ التَّطَوُّراتُ تَأْتِي في ظِلِّ تَصاعُدِ الضُّغوطِ الأمريكيَّةِ على لبنانَ لِحَصْرِ السِّلاحِ بِيَدِ الدَّولةِ وَتَفْكيكِ تَرْسانَةِ حزبِ الله، مِمَّا يَضَعُ البِلادَ أَمامَ مَفْتَرَقِ طُرُقٍ حَرِجٍ قَدْ يَذْكُرُ بِأَحْداثِ ٧ أيَّارَ ٢٠٠٨. خِلالَ الأَشْهُرِ الماضِيَةِ، لَعِبَ براكَ دَوْرًا مَحْوَرِيًّا في الجُهُودِ الدبلوماسيَّةِ الأمريكيَّةِ لِحَلِّ الأَزْمَةِ اللبنانيَّةِ، حَيْثُ قامَ بِزِياراتٍ مُتَعَدِّدَةٍ إلى بيروتَ وَأَجْرَى لِقاءاتٍ مَكْثَفَةً مَعَ المَسْؤولينَ اللبنانيِّين. وَقَدْ شَدَّدَ براك خِلالَ هذِهِ الزِّيَاراتِ عَلَى ضَرورَةِ حَصْرِ السِّلاحِ بِيَدِ الدَّولةِ اللبنانيَّةِ وَتَفْكيكِ تَرْسانَةِ حزبِ الله، مُعْتَبِرًا أَنَّ هذَا شَرْطٌ أَسَاسِيٌّ لِاسْتِقرارِ لبنان وَنَيْلِ الدَّعْمِ الدُّوَلِيِّ. في تَطَوُّرٍ مُفاجِئٍ، اِشْتَعَلَت مَوَاقِعُ التَّواصُلِ الاجْتِماعِيِّ خِلالَ الأَيَّامِ الماضِيَةِ بِحَمْلَةٍ قادَتْهَا الإعْلامِيَّةُ وَالنَّاشِطَةُ الجُمْهُورِيَّةُ اليَمِينِيَّةُ لورا لومر، التي تُعْتَبَرُ مِن كِبارِ داعِمِي الرَّئِيسِ ترامب، تَدْعُو فيها إلى إِقالَةِ براك مِن مَنْصِبِهِ الدبلوماسيِّ.في مُواجَهَةِ هذِهِ الاتِّهاماتِ وَالتَّكَهُّناتِ، نَفَت وزارةُ الخارِجِيَّةِ الأمريكيَّةِ بِشَكْلٍ قاطِعٍ وُجودَ أَيِّ خُطَطٍ لِإِبعادِ براك عَنِ الملفِّ اللبنانيِّ. وَأَكَّدَت مَصادِرُ في الخارِجِيَّةِ الأمريكيَّةِ لقَنَاةِ “العَرَبِيَّة/الحَدَثِ” أَنَّهُ “لا صِحَّةَ لِلشَّائِعاتِ حَوْلَ تَرْكِ براك لِلْمَلَفِّ اللبنانيِّ وَعَوْدَةِ أورتاغوس”. كَما أَوْضَحَت مَصادِرُ مُطَّلِعَةٌ في القَصْرِ الجُمْهُورِيِّ اللبنانيِّ أَنَّ السَّفَارَةَ الأمريكيَّةَ في بَيْرُوتَ أَبْلَغَتْهَا بِأَنَّهُ “لا تَغْييرَ في هذَا الشَّأْن”. السيناريو المستقبلي على الرَّغْمِ مِنَ النَّفْيِ الرَّسْمِيِّ الحَالِيِّ، تَشِيرُ مَصادِرُ أُخْرَى إلى أَنَّ دَوْرَ براك في الملفِّ اللبنانيِّ قَدْ يَنْتَهِي طَبِيعِيًّا بِمُجَرَّدِ تَسَلُّمِ السَّفيرِ الأمريكيِّ الجَدِيدِ “فَوْقَ العادَةِ” مايكل عِيسَى مَنْصِبَهُ، فَوْرَ تَأْكِيدِ تَرْشِيحِهِ مِن قِبَلِ مَجْلِسِ الشَّيُوخِ الَّذِي دَخَلَ في عُطْلَتِهِ الصَّيْفِيَّةِ حَتَّى أَوَّلِ سَبْتَمْبِرَ المُقْبِلِ.بِمَا أَنَّ السَّفيرَ عِيسَى يُعْتَبَرُ مِن المُقَرَّبِينَ جِدًّا مِنَ الرَّئِيسِ ترامب وَعَلَى تَواصُلٍ مُبَاشِرٍ مَعَهُ، فَسَتَنْتَفِي الحَاجَةُ إلى تَعْيِينِ مَبَعوثٍ خاصٍّ إلى لبنان، حَيْثُ سَيَقُومُ السَّفيرُ بِهذِهِ المَهَمَّةِ مُبَاشَرَةً. على الرَّغْمِ مِنَ النَّفْيِ الرَّسْمِيِّ، تَشِيرُ بَعْضُ التَّقاريرِ إلى أَنَّ أورتاغوس قَدْ تَعُودُ إلى المشهدِ اللبنانيِّ بِصِفَةٍ مُخْتَلِفَةٍ، حَيْثُ قَدْ تَأْتِي إلى بَيْرُوتَ لِبَحْثِ مَوْضُوعِ القُوَّاتِ الدَّوْلِيَّةِ جَنُوبَ لبنان، بِاعْتِبارِهَا مُسْتَشَارَةً لِلْبَعْثَةِ الأمريكيَّةِ في الأُمَمِ المُتَّحِدَةِ. يَقِفُ لبنانُ اليَوْمَ على مَفْتَرَقِ طُرُقٍ تَاريخِيٍّ، حَيْثُ تَتَضَافَرُ عَوَامِلُ داخِلِيَّةٌ وَخارِجِيَّةٌ مُعَقَّدَةٌ لِتَضَعَ البِلادَ أَمامَ خِيَاراتٍ صَعْبَةٍ وَمَصِيرِيَّةٍ. الجِدَالُ حَوْلَ مُسْتَقْبَلِ المبعوثِ الأمريكيِّ توم براك وَاحْتِمالِيَّةُ عَوْدَةِ مورغان أورتاغوس إلى المشهدِ اللبنانيِّ لَيْسَ سِوَى جُزْءًا مِن مَعادَلَةٍ أَكْبَرَ تَتَعَلَّقُ بِمُسْتَقْبَلِ لبنان وَدَوْرِهِ في المِنْطَقَةِ.
فجر يوم الأحد، 22 حزيران 2025، سُجّل أخطر تصعيد عسكري في الشرق الأوسط منذ حرب العراق عام 2003، عندما نفذت الولايات المتحدة ضربات جوية دقيقة ضد منشآت نووية إيرانية في فوردو، نطنز، وأصفهان، في عملية وصفتها إدارة ترامب بأنها “ضربة استباقية لإنهاء الحلم النووي الإيراني”. لكنّ السؤال الأبرز اليوم لم يعد: ماذا ضربت واشنطن؟ بل: كيف ستردّ طهران؟ سيناريوهات الردّ الإيراني ضربات مباشرة على قواعد أميركية قد تختار إيران استهداف قواعد أميركية في العراق (قاعدة عين الأسد، أربيل)، أو في سوريا (التنف)، وهي مواقع سبق أن تعرّضت لهجمات إيرانية محدودة بعد اغتيال قاسم سليماني عام 2020. “نحن أمام احتمال وارد لضربة باليستية مركّزة على قاعدة أميركية خلال 72 ساعة”، وفق تصريح لمصدر أمني غربي في بغداد. استخدام “الوكلاء” عبر المنطقة حزب الله قد يُفعّل جبهة الجنوب اللبناني ضد إسرائيل، ولو جزئيًا، لخلق تشتيت استراتيجي. الحوثيون في اليمن يمتلكون مسيّرات وصواريخ قادرة على ضرب منشآت خليجية، من باب “الرد بالوكالة”. الميليشيات العراقية مثل كتائب حزب الله والعصائب قد تستهدف المصالح الأميركية أو السعودية. ضربات سيبرانية إيران قد تلجأ للهجمات السيبرانية، لا سيما ضد البنية التحتية الإسرائيلية أو الأميركية: شبكات كهرباء مطارات مصارف وأسواق إلكترونية دور إسرائيل في الضربة على الرغممن أن الضربة نُسبت رسميًا لواشنطن، إلا أن أصابع إسرائيل كانت واضحة منذ اللحظة الأولى: الهجوم التمهيدي يوم 13 حزيران، الذي استهدف مفاعل نطنز وأدى إلى تعطيل التخصيب. الدعم اللوجستي الأميركي-الإسرائيلي عبر الأقمار الاصطناعية والطائرات المسيّرة. “هذه الضربة تحمل توقيعاً إسرائيليًا بغطاء أميركي”، حسب المحلل العسكري إيلي باراك، موضحا “هي استكمال لاستراتيجية إسرائيل في منع إيران من تجاوز العتبة النووية”. إسرائيل تستعد اليوم لمواجهة أكثر من جبهة: من الشمال (لبنان وسوريا) من الجنوب (غزة وسيناء) ومن الداخل (عبر أعمال شغب محتملة في المدن المختلطة) الخليج… “نار قريبة من البيت” دول منطقة الخليج، المستفيدة اقتصاديًا من ارتفاع أسعار النفط، تجد نفسها عسكريًا في عين العاصفة. السعودية: رفعت مستوى التأهب في منشآت أرامكو وموانئ تصدير النفط، وهي تحاول تجنّب أن تُستخدم أراضيها لانطلاق أي ضربة إضافية ضد إيران. الإمارات: أعلنت عن جاهزية أنظمة الدفاع الجوي وتحذير المواطنين من “أزمة محتملة في الملاحة البحرية”، وتحاول القيام بوساطة خلف الكواليس عبر سلطنة عُمان. قطر والكويت: أعلنتا دعم “خفض التصعيد”، مع استعدادات لوجستية في القواعد الأميركية (العديد، علي السالم). الخليج يدفع الثمن الأمني والاقتصادي لكل مواجهة كبرى في المنطقة”، يقول دبلوماسي خليجي سابق. الضربة تحمل توقيعاً إسرائيليًا بغطاء أميركي” هي استكمال لاستراتيجية إسرائيل في منع إيران من تجاوز العتبة النووية” الأثر الاستراتيجي موت الاتفاق النووي رسميًا: حتى لو نجت الوكالة الدولية للطاقة الذرية من الحظر الإيراني، فإنّ العودة إلى طاولة التفاوض باتت بعيدة المنال. تشكل محور جديد مضاد لواشنطن: قد يؤدي هذا التصعيد إلى تحالف إيراني–روسي–صيني أكثر تماسكًا. الانهيار الاقتصادي الإيراني: انهيار التومان، هروب الاستثمارات، وتفاقم الأزمة المعيشية، خصوصًا في المدن الإيرانية الكبرى. لم تكن الضربة الأميركية مجرد عمل عسكري، بل إعلان غير مباشر عن مرحلة جديدة من النزاع المفتوح. ما بين طهران الغاضبة، وتل أبيب المستنفرة، وواشنطن التي تراهن على الضربة الساحقة، يبقى الخليج والمنطقة بأسرها على حافة الهاوية. السؤال الأهم اليوم ليس: هل ترد إيران؟ بل: متى، وأين، وبأيّ ثمن؟
تشهدُ منطقةُ الشّرق الأوسط، منذ الثالث عشر من حزيران/يونيو الحالي، حربًا مباشرةً غيرَ مسبوقةٍ بين إيرانَ وإسرائيل. بدأتْ بالضّرباتِ الإسرائيليّةِ على المنشآتِ النّووية والعسكرية الإيرانيّة في إطارِ عملية “الأسد الصاعد”، وردّتْ عليها طهران بعملية “الوعد الصادق 3” التي استهدفتْ مواقعَ عسكريةً واستخباراتيةً إسرائيلية. وسطَ هذا التّصعيدِ المتسارع، تتزايدُ التّساؤلاتُ حولَ إمكانيّةِ دخولِ الولاياتِ المتحدةِ الأميركيّةِ الحربَ بشكلٍ مباشرٍ إلى جانبِ إسرائيل، وما قد ينجمُ عن ذلك من تداعياتٍ جيوسياسيةٍ واقتصاديةٍ وعسكريةٍ على المنطقةِ والعالم تكتسبُ هذه التّساؤلاتُ أهميّةً خاصةً في ظلّ التّصريحاتِ الأخيرةِ للرئيسِ الأميركيّ دونالد ترامب، التي تحدّث فيها عن “استسلامٍ غيرِ مشروطٍ” من إيران، ووصفَ المرشدَ الأعلى، علي خامنئي، بأنّه “هدفٌ سهل”، مؤكّدًا أنّ “صبرَ أميركا ينفد”. هذه التّصريحات، إلى جانبِ الاستعداداتِ العسكريّة الأميركيّةِ الملحوظةِ في المنطقة، تُشيرُ إلى احتماليّةٍ حقيقيّةٍ لتدخّلٍ عسكريٍّ أميركيٍّ مباشرٍ قد يُغيّرُ مجرى الصّراعِ بشكلٍ جذريّ. طبيعةُ المواجهة تخوضُ إيرانُ وإسرائيلُ، منذ ستةِ أيام، صراعًا مسلحًا مباشرًا يُمثّلُ تطورًا نوعيًّا في طبيعةِ العداءِ بين البلدين، الذي كانَ يقتصرُ سابقًا على حربِ الوكلاءِ والعملياتِ المحدودة. بدأتْ المواجهةُ بهجومٍ إسرائيليٍّ مباغتٍ استهدفَ عشراتِ المواقعِ الإيرانيّة، بما في ذلك منشآتٌ نوويةٌ رئيسيّةٌ ومواقعُ عسكريةٌ حيويّة، بزعمِ وقفِ توسّعِ البرنامجِ النّوويّ وبرنامجِ الصّواريخِ الإيرانيَّين. ردّتْ إيرانُ بإطلاقِ دفعاتٍ من الصّواريخِ الباليستيةِ والطّائراتِ المسيّرةِ نحوَ إسرائيل، مستهدفةً مواقعَ عسكريّةً واستخباراتيةً وسكنيّة. وقد أسفرتِ المواجهةُ حتّى الآن عن خسائرَ بشريّةٍ وماديّةٍ كبيرةٍ في الجانبين، حيثُ تُشيرُ الأرقامُ الإيرانيّةُ إلى مقتلِ 224 شخصًا وإصابةِ 1481 آخرين، بينما تتحدّثُ مصادرُ حقوقيّةٌ عن 585 قتيلًا إيرانيًّا. ومن الجانبِ الإسرائيليّ، أعلنتْ تل أبيب عن مقتلِ 24 شخصًا وإصابةِ 804 آخرين. الدّعمِ غيرِ المباشرِ والتّدخّلِ المحتمل من النّاحيةِ الاستراتيجيّة، تُعدّ هذه المواجهةُ نقطةَ تحوّلٍ في الصّراعِ الإقليمي، حيثُ انتقلَ من حربِ الوكلاءِ إلى مواجهةٍ مباشرةٍ بين القوّتَين الرّئيسيتَين في المنطقة. هذا التّطوّرُ يحملُ في طيّاته مخاطرَ تصعيدٍ أكبرَ قد يجرُّ قوىً إقليميّةً ودوليّةً أخرى إلى الصّراع. شهدتِ الأيامُ الأخيرةُ تصعيدًا ملحوظًا في الخطابِ الأميركيّ تجاهَ إيران، حيثُ أصدرَ الرئيسُ ترامب تصريحاتٍ قويةً تُشيرُ إلى احتماليّةِ تدخّلٍ عسكريٍّ مباشر. في تصريحاتهِ قال ترامب: “نَعلمُ تمامًا مكانَ اختباءِ ما يُسمّى بـ’المرشدِ الأعلى’، إنّه هدفٌ سهل، ولكنّه آمنٌ هناك – لن نقضي عليه، على الأقلّ ليسَ في الوقتِ الحالي، لكنّنا لا نريدُ إطلاقَ صواريخَ على المدنيّين أو الجنودِ الأميركيين. صبرُنا ينفد”. هذه التّصريحاتُ تُمثّلُ تحوّلًا في النّبرةِ الأميركيّةِ من الحذرِ إلى التّهديدِ المباشر، وتُشيرُ إلى أنّ الإدارةَ الأميركيّةَ تدرسُ بجدّيةٍ خيارَ التّدخّلِ العسكريّ. كما أنّ وصفَ خامنئي بأنّه “هدفٌ سهل” يحملُ دلالاتٍ تهديديّةً واضحةً قد تكونُ مقدّمةً لعملٍ عسكريّ. الاستعداداتُ العسكريّةُ الأميركيّة تشيرُ التّقاريرُ إلى أنّ الولاياتِ المتحدةَ تقومُ بتحضيراتٍ عسكريّةٍ مكثّفةٍ في المنطقة، حيثُ أرسلتْ إشاراتٍ للأميركيين المقيمين في القواعدِ العسكريّةِ بالخليجِ العربيّ، مثل البحرين وغيرها، بضرورةِ المغادرة. كما أصدرتْ وزارةُ الخارجيّةِ الأميركيّة أوامرَ لأهالي العاملين في السّفارةِ العراقيّةِ والعاملين غيرِ الأساسيين فيها بمغادرةِ العراق. هذه الإجراءاتُ تُظهر أنّ الولاياتِ المتحدةَ تستعدُّ لسيناريو تصعيدٍ كبيرٍ قد يشملُ استهدافَ المصالحِ الأميركيّةِ في المنطقة. كما تمّ رصدُ حركةِ طائراتٍ عسكريّةٍ أميركيّةٍ إلى أوروبا، ممّا أثارَ تساؤلاتٍ حولَ ما إذا كانَ ذلك تمهيدًا لضربةٍ ضدّ إيران. الدّعمُ الحالي على الرغمِ من عدمِ الإعلانِ عن تدخّلٍ عسكريٍّ مباشر، تُشاركُ الولاياتُ المتحدةُ في الصّراعِ بشكلٍ غيرِ مباشرٍ من خلالِ عدّةِ قنوات. تشملُ هذه المشاركةُ تبادلَ المعلوماتِ الاستخباراتيةِ مع إسرائيل، والتّنسيقَ اللوجستي، والعملياتِ السيبرانية، والدّعمَ السريَّ للضّرباتِ الإسرائيليّة. كما تُساهمُ السّفنُ الحربيّةُ الأميركيّةُ وطائراتُها ومنصّاتُ الصواريخِ المضادّةِ للصواريخِ المنصوبةِ في إسرائيلَ ومواقعَ أخرى في الشّرقِ الأوسط، في الدفاعِ عن إسرائيل. هذا الدّعمُ غيرُ المباشرِ يضعُ الولاياتِ المتحدةَ فعلًا كطرفٍ في الصّراع، وإن لم تُعلنْ ذلك رسميًّا. وقد يكونُ هذا الدّعمُ كافيًا لتبريرِ ردٍّ إيرانيٍّ ضدّ المصالحِ الأميركيّة، ممّا قد يجرُّ واشنطن إلى مواجهةٍ مباشرة. الرّأيُ العامُّ الأميركي تشيرُ استطلاعاتُ الرأي الحديثةُ، التي أجرتها شركةُ “يو غوف”، إلى أنّ الرأيَ العامَّ الأميركيَّ لا يُؤيّدُ التّدخّلَ العسكريّ في الصّراعِ الإيرانيّ-الإسرائيلي. فقط 16٪ من الأميركيين يؤيّدونَ تدخّلَ الولاياتِ المتحدةِ في الحرب، بينما يُعارضُ 60٪ ذلك. حتّى بين الجمهوريّين، الذين ينتمي إليهم ترامب، فإنّ 23٪ فقط يؤيّدون التّدخّلَ العسكريّ، بينما يُعارضُه 51٪. هذه الأرقامُ تُشيرُ إلى أنّ أيَّ قرارٍ بالتّدخّلِ العسكريّ سيواجهُ معارضةً شعبيّةً كبيرة، ممّا قد يُؤثّرُ على الحساباتِ السّياسيّةِ للإدارةِ الأميركيّة. في المقابل، يُؤيّدُ 61٪ من الجمهوريين التّفاوضَ مع إيران حولَ برنامجها النّووي، ممّا يُشيرُ إلى تفضيلِ الحلولِ الدبلوماسيّةِ على العسكريّة. يلعبُ اللّوبي الإسرائيليّ في الولاياتِ المتحدةِ دورًا مهمًّا في الضّغطِ من أجلِ التّدخّلِ العسكريّ. أيُّ مشروعِ قانونٍ لصالحِ إسرائيل يُمرَّرُ بنسبة 99.9٪ في الكونغرس الأميركيّ، وهناك تمويلاتٌ ضخمةٌ من داعمينَ صهاينة دعمتْ حملةَ ترامب مقابلَ ضماناتٍ باستمرارِ الدّعمِ غير المشروطِ لإسرائيل التّجربةُ العراقيّة يلعبُ تاريخُ التّدخّلِ الأميركيِّ في العراق عامَ 2003 دورًا مهمًّا في تشكيلِ الرّأيِ العامِّ الأميركيِّ تجاهَ أيّ تدخّلٍ عسكريٍّ جديدٍ في المنطقة. لا يزالُ الأميركيّونَ يذكرونَ التّجربةَ السلبيّةَ للحربِ العراقيّة، وكذبَ الادّعاءاتِ حولَ أسلحةِ الدّمارِ الشّاملِ، والتّكاليفِ الباهظةِ لتلك الحرب على الصّعيدَيْن البشريّ والماليّ. هذه الذّاكرةُ التّاريخيّةُ تجعلُ الأميركيّينَ أكثرَ حذرًا من أيّ مغامرةٍ عسكريّةٍ جديدة، خاصّةً عندما تكونُ مبرّرةً بادّعاءاتٍ حولَ أسلحةِ الدّمارِ الشّامل. وقد عبّرتْ مديرةُ الاستخباراتِ الوطنيّة، تولسي غابارد، عن هذا الحذر بقولها: “تقييماتُ الاستخباراتِ تُفيدُ بأنّ طهران لا تعملُ على تطويرِ سلاحٍ نوويّ، وأنّ المرشدَ الأعلى خامنئي لم يُوافقْ على استئنافِ برنامجِ الأسلحةِ النّوويةِ الذي تمّ تعليقه منذ عام 2003”. السّيناريوهاتُ المتوقَّعة السيناريو الأول: التّدخّلُ العسكريُّ المحدود في هذا السّيناريو، تقومُ الولاياتُ المتحدةُ بتدخّلٍ عسكريٍّ محدودٍ يركّزُ على أهدافٍ محدّدةٍ دونَ الانجرارِ إلى حربٍ شاملة. قد يشملُ هذا التّدخّلُ ضرباتٍ جويّةً دقيقةً ضدّ المنشآتِ النّوويّةِ الإيرانيّة، خاصّةً منشأةَ “فوردو” العميقة، التي تحتاجُ إلى القنابلِ الأميركيّةِ الخارقةِ للتحصينات من نوع GBU-57 لتدميرِها. الخصائصُ المتوقّعة لهذا السّيناريو: ضرباتٌ جويّةٌ خاطفةٌ ومركّزةٌ وعاليةُ الدّقّة باستخدامِ أحدثِ الأسلحةِ الأميركيّة؛ استهدافُ البنيةِ التّحتيّةِ النّوويّةِ والعسكريّةِ الإيرانيّةِ الحيويّة؛ تجنّبُ الأهدافِ المدنيّةِ لتقليلِ الخسائرِ البشريّة؛ مدّةٌ زمنيّةٌ محدودةٌ للعمليّاتِ لتجنّبِ التورّطِ في حربٍ طويلة. التّداعياتُ المحتملة:ستعتبرُ إيرانُ أيَّ ضربةٍ أميركيّةٍ، مهما كانتْ محدودة، بمثابةِ إعلانِ حرب، وستقومُ بتوسيعِ نطاقِ ردّها ليشملَ المصالحَ الأميركيّةَ في المنطقة. قد تستهدفُ القواعدَ العسكريّةَ الأميركيّةَ في الخليج، والبعثاتِ الدبلوماسيّة، ومعسكراتِ القوّاتِ الخاصّةِ في العراق. كما قد تُفعّلُ شبكةَ حلفائها الإقليميّين، بما في ذلك الميليشياتُ المواليةُ لها في العراق وسوريا. السيناريو الثاني: الحربُ الشّاملة في حالِ فشلِ السّيناريو الأوّل في تحقيقِ أهدافه، أو في حالِ تصاعدِ الرّدِّ الإيراني، قد تجدُ الولاياتُ المتحدةُ نفسَها منجرّةً إلى حربٍ شاملةٍ مع إيران، وهذا يُمثّلُ أسوأَ الاحتمالاتِ وأكثرَها تدميرًا. خصائصُ الحربِ الشّاملة: استخدامٌ كاملٌ للقوّةِ العسكريّةِ الأميركيّة، بما في ذلك القوّاتُ البريّة؛