تحتارُ في محاولةِ فَهمِ كيف يمكنُ لظروفٍ وتجاربِ الحياة أن تُغيِّر البشر إلى هذا الحدّ.ينحدرُ شارل الحاج، وزيرُ الاتصالاتِ الحالي، من قرية «بتدين اللقش» في قضاء جزين. تسميةُ القرية تعني «بيت الدين» القابع بين أشجار الصنوبر والأخشاب. أي إنّه «ابنُ ضَيعة» يقومُ مجتمعُها على فلاحينَ وعمّالٍ وبُسطاء وموظفين، بعيدًا عن إقطاعٍ مُتحكِّمٍ ينمو ويتعزّز في جوارها نسيانُ الطبقةِ العاملة والدُه، جورج الحاج، امتلكَ معملاً للموبيليا في منطقة الحدث بضاحية بيروت الجنوبية، التي انتقلت إليها العائلةُ في أوائل ستينات القرن الماضي. نشأ شارل مع ثلاثةِ أشقّاء وشقيقةٍ في بيئةٍ محافظة، وتلقى تعليمه الأوّلي في مدارس «الفرير» و«مون لا سال»، في محاولةٍ من الوالد لتوفير أفضل مستوى تعليمي لأولاده، كي تزدادَ فُرصُهم في مستقبلٍ يريده الأفضل لهم كحال كلِّ الآباء. تفتحُ الحياةُ أبوابَها لأمثالِه من أبناء الطبقةِ المتوسطة لأخذِ فرصتهم وتحقيق «شيء»، ماديًّا كان أم معنويًّا. هنا يبرز السؤالُ الأكبر: كيف يمكنُ لمن صعدَ سلّمَ الحياةِ بصعوبةٍ واجتهادٍ أن يَسحقَ أكثرَ من ٣٠٠٠ موظفٍ في وزارة الاتصالات التي يترأسها، وفي هيئة «أوجيرو» من الفئات العاملة والأجراء، بـ«شطبةِ قلم» خاليةٍ من أي إحساس، ومجموعة مراسيم تحاول أن تَقضُم تعبَ وحقَّ آلاف الموظفين عبر «هيركات» مُقنَّعة، تَحذو حذو جرائم المصارف اللبنانية قاطبةً؟ في ٨ شباط/فبراير 2025، دخلَ شارل الحاج، رجل الأعمال العائد من الولايات المتحدة الأميركية، إلى مكتبِه في وزارة الاتصالات اللبنانية، مُحمّلًا بخبرة تمتدّ لعقود في عالم الهندسة والاستشارات الدولية، وسمعةٍ كرئيسٍ ناجحٍ للمؤسسة المارونية للانتشار. ومعه حمل وعودًا بإصلاح قطاعٍ حيوي يعاني من «كلفةٍ عالية وخدمةٍ ضعيفة»، وشوائب كثيرة وروائح فسادٍ كريهة. هل ينسى مَن عملَ نادلًا في المطاعم، وذاق طعمَ مرارةِ الشقاء، حقوقَ الطبقاتِ المسحوقة مِن العمّال والموظفين الذين أفنوا سنينَ حياتهم في إدارات ومؤسسات الدولة اللبنانية كهيئة «أوجيرو»؟ من المطاعم إلى المراسيم لكنّ الوزير «السيادي» سرعان ما وجدَ نفسه في قلب عواصفَ عاتيةٍ من الجدل، حيث طاردته اتهاماتٌ بتضارب المصالح بين منصبه الوزاري ومنصبه في شركاته التي تقدّم خدماتٍ ولا تزال، مُحاطًا بفريقٍ من المستشارين الأقارب الذين يصولون ويجولون في الوزارة بما يشتهون. ولتُطرَح معها أسئلةٌ معقّدة حول قدرة رجل أعمال على فصل ماضيه التجاري عن حاضرِه الوزاري. في شبابه، هاجرَ شارل الحاج إلى الولايات المتحدة لمتابعة دراستِه الجامعية، حيث التحق بجامعة جورج مايسون في فيرجينيا، وتخصّص في الهندسة الكهربائية. وخلال فترة دراسته، لم يتردّد في العمل لتغطية نفقاته، فبدأ كنادلٍ في المطاعم، ثم ترقّى ليصبح مسؤولًا في سلسلة فنادق هيلتون. وبالتوازي مع دراسته وعمله، كان الحاج ناشطًا سياسيًا، وشارك في جميع التظاهرات المناهضة للوجود السوري في لبنان آنذاك، مما يعكس توجهاته السياسية المبكرة. فهل ينسى مَن عملَ نادلًا في المطاعم، وذاق طعمَ مرارةِ الشقاء، حقوقَ الطبقاتِ المسحوقة مِن العمّال والموظفين الذين أفنوا سنينَ حياتهم في إدارات ومؤسسات الدولة اللبنانية كهيئة «أوجيرو»؟لتتحوّل مهمته إلى مجرّد شطبِ تعبٍ ومستحقّات وتعويضات أكثر من ٣٠٠٠ موظفٍ تحت شعارٍ فضفاضٍ ومبهم اسمه خصخصة القطاع. هل باتت وظيفةُ الوافدِ بأفكارِ الليبرالية المتحرّرة ووحشية اقتصاد السوق، إصدارَ مراسيمَ «تذاكيًا» على القانون، لِقذفِ أكثر من ٣٠٠٠ موظفٍ نحو المجهول، تحت مسمّى شركة لا تاريخ لها ولا هيكلية واضحة، ولا وجودَ إلّا على الورق، فحسب، اسمها «ليبان تيليكوم»، بذريعة أن الدولة اللبنانية لا تملك المال لتسديد حقوق موظفيها، علمًا أن قطاع الاتصالات من أكثر القطاعات ربحيةً في لبنان والمنطقة؟ يعيش موظفو وزارة الاتصالات وهيئة «أوجيرو» اليوم كابوسًا مكتومًا مما يخبّئه الوزير والمدير العام للهيئة، بحقّ مستقبلهم الذي يبدو — من الممارسات الماثلة أمامهم — أنّه لا يُبشّرُ بالخير. فهل نحن على أبوابِ “كرةِ ثلجٍ” تكبرُ رويدًا لِتسحق الجميعَ وتُعطّل واحدًا من أكثر القطاعات الحيوية وتماسًا مع حياةِ الملايين؟ لا ننسى أنّ اللبناني أظهرَ بأنه لن يثورَ إن قُطِع عنه الماءُ والطعام، لكن قد يملأ الشوارع والساحات إن تعطّلت خدمة واتساب على هاتفه. لم يَفت الأوانُ بعدُ لمعالجةٍ جدّيةٍ تحفظ حقوق الناس، وتُؤمّن النموّ والتطور والازدهار للقطاع الأهم في البلاد. فاتّعظوا قبل فوات الأوان.
من الواضح أن “الضجة المفتعلة” التي أثيرت منذ يومين حول ما يجري في هيئة “أوجيرو” تبدو للعالمين أنها غير بريئة وجزء من حملة منسقة في الشكل والمضمون والتوقيت، لكنها تفتقد إلى بديهيات “دس السم” الصحيح الذي يهدف للتشويه والتخريب على واحدة من أكثر الإدارات اللبنانية أهمية وحساسية والتساقا بقضايا الناس وحياتهم الخبر الذي تم تداوله على نطاق واسع عن زيارة قام بها المدير العام السابق ل”أوجيرو” عماد كريدية إلى الهيئة، ودخوله مكتبه السابق مع عدد من المدراء والفريق القديم لمسح داتا أو تبديل حقائق أو محاولة طمس أشياء من “الحقبة الماضية” عار عن الصحة جملة وتفصيلا. بل وفيه من الغباء ما يجعله بلا قيمة حقيقية. ولو أراد كريدية القيام بشيء مشابه لما قيل إنه أقدم، عليه لما اعتمد الطريقة الهوليودية التي رويت بها الأحداث. جل ما في الأمر أن كريدية زار إحدى المستشارات في المبنى لأنه صودف أنه كان بالمنطقة، وأنه التقى ببعض زملائه القدماء دون ترتيب مسبق. يكشف مطلعون أن مديرين صيداويين أساسيين قد يكونا في دائرة النار، علما أن أحدهما يحظى بغطاء الحد الأدنى المطلوب للإستمرارية، بينما قد يكون الآخر “كبش المحرقة” التي سيدفع الثمن إذا لماذا هذه “الضوضاء” الآن؟ ومن يقف ورائها ومن يستفيد منها؟ بحسب مصادر اقتصادية وسياسية مطلعة، فإن هناك حربا “لا لزوم لها” اندلعت بين المديرين السابقين لأوجيرو عبد المنعم يوسف وكريدية على خلفية كلام غير دقيق ولا مسؤول قيل في إحدى المناسبات أدت إلى تفاقم الأمور بينهما على هذا النحو. فكانت الفتيل الذي اشعل النار، ودخل على الخط الكثير من المتربصين الذين رؤوا في الأمر فرصة متاحة لضرب مركز حساس محسوب على طائفة بعينها. هذا في الظاهر، أما في بواطن الأمور فإن هناك من استغل “توقيت” اندلاع النزاع بين الغريمين لفتح ملف ممارسات كريدية خلال فترة توليه رئاسة أوجيرو والتي شابها الكثير من “التخبيصات” والمخالفات التي ستطيح بعدد من الرؤوس الحالية في الهيئة في الفترة المقبلة. وفي هذا الإطار يكشف مطلعون أن مديرين صيداويين أساسيين قد يكونا في دائرة النار، علما أن أحدهما يحظى بغطاء الحد الأدنى المطلوب للإستمرارية، بينما قد يكون الآخر “كبش المحرقة” التي سيدفع الثمن. كما يؤكد متابعون إن فتح “الصندوق الأسود” لما قام به كريدية خلال فترة توليه مهامه، سيكشف الكثير من التجاوزات التي تظهر هدراً للمال العام على شكل انفاق سياسي وإعلامي وإعلاني لعدد من الإعلاميين ووسائل إعلام وفاعليات ونشاطات كان يُراعى فيها مصالح كريدية وحساباته السياسية والشخصية. قد يبدو المدير الجديد لأوجيرو أحمد عويدات من "الجيل القديم" المتروي الذي يفضل العمل على الورقة والقلم، على الرغم من ترؤسه واحدة من أعلى وأدق الإدارات الرقمية والتكنولوجية في البلاد، لكن الرجل حتى الآن يظهر بأنه لا يقوم بأي خطوة كيدية أو انفعالية، ولا يضمر أحكاما مسبقة بحق أي من العاملين والمدراء والإدارات، لكنه سيجد نفسه حكما في القادم من الأيام أمام مجموعة من القرارات التي واجب اتخاذها لتصحيح انحرافات كثيرة وطأت أقدامها بقوة على مسار إدارة كان لها أن تكون أفضل بكثير، لو قدر لها غير ما كان في الغابر من الأيام.