لم تكن الغارة الإسرائيلية على مخيّم عين الحلوة مجرّد «حادث أمني عابر» 14 شهيدًا، وأشلاء تُنتشل من تحت السيارات المحترقة، ومستشفيات تستنفر للتبرّع بالدم. مشهد مكتمل الأركان لمجزرة، لكنّها مرّت على شاشات لبنانية كثيرة إمّا كسطر أسفل الشاشة، أو كخبر ثانوي في ذيل النشرة، أو لم تمرّ أصلًا. هذا الصمت ـ أو التخفيف ـ يطرح سؤالًا قاسيًا: هل أصبحت حياة سكان المخيّم أقلّ قيمة إعلاميًا من غيرها؟ غرفة الأخبار… حين تحكمها السياسة ليس سرًّا أن معظم القنوات اللبنانية مرتبطة بمرجعيات سياسية وحزبية ومالية. هذه المرجعيات هي التي ترسم الخطوط الحمر وغير الحمر. استهداف مخيّم فلسطيني يُتَّهم بأن فيه «وجودًا عسكريًا لفصائل معيّنة» يضع المحطة أمام معادلة محرجة: إذا ضخّمت الخبر، تُتَّهم بأنّها تغطّي «بطولة حماس» أو تعطي شرعية لسلاح خارج الدولة. وإذا همّشته، تُرضي جزءًا من جمهورها السياسي، لكن على حساب الحقيقة والضحايا، النتيجة غالبًا تغطية رمادية؛ ذكر سريع للغارة من دون صور، من دون أسئلة، ومن دون متابعة. الخوف من «الخبر المحرِج» في الساعات الأولى لأيّ استهداف، تكون المعطيات متضاربة: هل هي ضربة اغتيال؟ من المستهدف؟ هل هناك قياديّون بين القتلى؟ هل سيليها ردّ عسكري من المخيّم أو من الحدود؟ هنا يظهر عاملان: خوف من نشر معلومات خاطئة؛ فيفضّل قسم من المحطات الانتظار حتى صدور بيان رسمي. هاجس أمني واضح؛ فبعض غرف الأخبار تتلقّى رسائل مباشرة أو غير مباشرة: «خفّفوا الكلام، لا تُضخّموا الموضوع، لا تفتحوا هواءً مباشرًا من المخيم». وفي بلد هشّ أمنيًا مثل لبنان، كثيرون يختارون السلامة بدل المغامرة، حتى لو كان الثمن مجزرة مُخفاة إعلاميًا. ضحية التهميش المزمن منذ سنوات، تعامل معظم وسائل الإعلام مع المخيّمات الفلسطينية كـ«ملف أمني» لا كمساحة حياة بشرية. تظهر عين الحلوة على الشاشة عندما: تندلع اشتباكات داخلية، أو يصدُر تقرير أمني عن «مطلوبين» و«جماعات متشددة». أمّا الحياة اليومية، قصص الفقر، التعليم، المرض، النساء والأطفال… فهي نادرًا ما تجد طريقها إلى النشرات. لذلك، حين تقع مجزرة، يَميل جزء من الرأي العام ـ وربما بعض المحرّرين ـ إلى اعتبارها «استمرارًا طبيعيًا لمشهد الفوضى هناك»، لا حدثًا استثنائيًا يستحق فتح الهواء والاستقصاء. بمعنى آخر: التطبيع مع معاناة المخيّمات جعل دماء سكانها أقلّ صدمةً على الشاشة. عجز ميداني… وسهولة الاتّكال على واتساب كثير من القنوات لا تملك مراسلين ثابتين داخل عين الحلوة، بل تعتمد على: مقاطع من ناشطين صور من مجموعات واتساب أو فيديوهات تموّلها مواقع محليّة صغيرة عندما لا يكون هناك فريق محترف على الأرض يروي ما يحدث، تميل النشرات إلى التعامل مع الخبر بحذر شديد: “لدينا فيديوهات لكن لا نعرف مصدرها بدقة… نذكر الخبر من دون صور». وحين تغيب الصورة القوية، يبهت الحدث في وعي الجمهور، مهما كان عدد الشهداء كبيرًا. من يُقتل مرتين: بالاستهداف وبالتعتيم النتيجة النهائية لكل ما سبق أن أهالي عين الحلوة يُقتلون مرتين، مرّة بصاروخ يدمّر سيارة ومسجدًا وموقفًا مكتظًا، ومرّة ثانية بصمت أو برودة في التغطية، تجعل دماءهم مجرّد رقم قابل للنسيان. إعلام لا يضع كاميرته في المكان الصحيح، يترك المجال لـ«الإشاعة» و«الخبر المضلّل» على مواقع التواصل، ويُضعف الثقة به لدى جمهورٍ يشعر أنّه غير مرئي على الشاشة. الحقيقة التي تعّري مجزرة عين الحلوة ليست فقط امتحانًا للردّ العسكري أو للبيانات السياسية، بل هي بالدرجة الأولى امتحان أخلاقي للإعلام اللبناني. هل يقف إلى جانب الضحية أيًّا كان عنوانها، أم يتركها وحيدة تحت الركام، بلا صورة، بلا اسم، وبلا صدى؟ في زمن الانفجار المعلوماتي، أخطر ما يواجهه الضحايا ليس فقط الرصاص، بل النسيان. والإعلام، حين يصمت، يصبح شريكًا صامتًا في جريمة محو الذاكرة والقضية…
في عالمٍ يكتبُ فيه الذكاءُ الاصطناعيُّ الأخبارَ أسرعَ ممّا يقرأُها الصحفيّ، يتحوّلُ الإعلامُ من مرآةٍ للواقعِ إلى مختبرٍ لتوليدِ المعاني. لكن في لبنان، حيثُ لا ينقصُ الشاشاتِ سوى إعلانِ ولائها السياسي على زاويةِ الشاشة، يبدو دخولُ الخوارزميةِ إلى غرفةِ الأخبارِ حدثًا لا يخلو من المفارقة: التكنولوجيا تتقدّم، لكن الوعيَ الإعلاميَّ ما زالَ يدورُ في المكانِ ذاته من “التوريب” إلى “التوريط” الصحافةُ اللبنانيةُ، التي طالما تباهت بقدرتِها على الجمعِ بين الحريةِ والدراما، تعيشُ اليومَ صدمةَ التحوّل. فبعد أن اعتادَ الصحفيُّ اللبنانيُّ أن يُنتجَ الخبرَ كما ينسجُ الحكاية، دخلت الخوارزمياتُ لتحلَّ محلَّ “الحسِّ الصحفيّ”، محرّكةً الإيقاعَ بين العنوانِ والاتجاهِ العام للمزاجِ الشعبيّ. تُسارعُ النشراتُ الإخباريةُ في محطاتٍ كـ LBCI و MTV و “الجديد” إلى استخدامِ أدواتِ الذكاءِ الاصطناعي في المونتاج والتحليلِ البصري، لكنّ المضمونَ السياسيَّ بقي كما هو: القديمُ يُعادُ بثّه بأدواتٍ جديدة. كأنّ الذكاءَ الاصطناعي جاء ليُجمّلَ الخطابَ لا ليحرّره. هنا تكمنُ المفارقةُ اللبنانية: التكنولوجيا تدخلُ الباب، لكن الفكرَ ما زال ينتظرُ على العتبة. الذكاءُ الاصطناعيُّ في خدمةِ الزعيم في الغرب، تحوّل الذكاءُ الاصطناعيُّ إلى شريكٍ في التحرير: يكتبُ، يُحرّر، يختصر، ويُحلّل. أمّا في لبنان، فقد دخلَ الخوارزمُ إلى الاستديو كـ “خبيرِ تجميلٍ رقميّ” مهمّتُه تحسينُ الإضاءةِ وإنتاجُ التريندات، لا طرحُ الأسئلة. الآلةُ صارت تُساعدُ في كتابةِ مقدماتِ النشرات، لكنها لا تجرؤ على لمس “الخطوط الحمراء”. كلُّ قناةٍ تبقى وفيّةً لتمويلها، والخوارزميةُ تتعلّمُ الانحيازَ بالذكاءِ نفسِه الذي تُبرمجُ به. فالمشكلةُ ليست في التقنية، بل في “مَن يملكها”. عندما يكونُ المموِّلُ السياسيُّ هو ذاتهُ صاحبُ المحطة، تُصبحُ الخوارزميةُ جزءًا من المنظومة، تُعيدُ تدويرَ الخطابِ القديم بسرعةٍ أكبر وإتقانٍ أعلى. في بعض النشرات اللبنانية، قد تسمعُ المذيعَ يقرأُ تحليلًا أنيقًا عن الوضعِ الإقليمي، مكتوبًا بأدواتِ ذكاءٍ اصطناعيٍّ متقدّمة، لكنه يبقى وفيًّا لأسلوبِ “الزعيم قال”. الأدواتُ الذكيةُ تُنتجُ النصَّ، لكنّ الذهنيةَ السياسيةَ القديمة تُنتجُ المعنى. وهكذا يتحوّلُ الذكاءُ الاصطناعيُّ من وسيلةٍ لتحريرِ الصحافةِ من هيمنةِ الإنسان إلى وسيلةٍ جديدةٍ لتكريسها. الولاءُ الطائفيُّ يُعادُ تغليفُه بخوارزميةٍ ذكية، تجعلُ من التحيّزِ أكثرَ أناقةً ومن الدعايةِ أكثرَ إقناعًا. يُفترضُ بالذكاءِ الاصطناعيِّ أن يُعيد توزيعَ السلطةِ داخلَ الإعلام بين الإنسانِ والآلة. لكن في لبنان، المعادلةُ مختلفة: السلطةُ ليست في المعلومة، بل في الجهةِ التي تُمَوِّلُ بثّها. الآلةُ هنا لا تستطيعُ أن تكونَ محايدةً، لأنَّ البياناتَ نفسَها منحازة: تمويلٌ سياسي، جمهورٌ مُوجَّه، وإعلاناتٌ مشروطة. وبينما تستخدمُ القنواتُ أدواتِ تحليلِ البياناتِ لمعرفةِ “ما يريدُ الجمهورُ سماعَه”، تغيبُ عن الوعيِّ فكرةُ “ما يجبُ أن يعرِفَه”. هنا يظهرُ الفارقُ بين صحافةٍ تُسخّرُ الذكاءَ الاصطناعيَّ لتقويةِ صوتها، وصحافةٍ تُسخّرهُ لتضخيمِ صدى السلطة. أزمةُ المصداقية لا تُحلُّ بالبرمجة وميضُ المنصّاتِ الجديدة وسط هذا المشهدِ المُكرَّس، تنشأ منصّاتٌ رقمية تحاولُ كسرَ الحلقة، مثل: «درج»، «ميغافون»، و«رصيف22». تُوظّفُ هذه المنصّاتُ الذكاءَ الاصطناعيَّ لتحليل الخطابِ لا لإعادة إنتاجه. تستخدمُه كأداةِ تفكيك، لا كأداةِ تزيين. هنا يظهرُ الفارقُ بين صحافةٍ تُسخّرُ الذكاءَ الاصطناعيَّ لتقويةِ صوتها، وصحافةٍ تُسخّرهُ لتضخيمِ صدى السلطة. أزمةُ المصداقية لا تُحلُّ بالبرمجة. الذكاءُ الاصطناعيُّ يستطيعُ أن يُصحّحَ اللغة، لكن لا يستطيعُ أن يُصحّحَ الكذب. في لبنان، أزمةُ الإعلام ليست تقنيةً بل بنيوية: حين تكونُ الحقيقةُ ترفًا سياسيًّا، يُصبحُ كلُّ تطوّرٍ تقنيٍّ مجرّدَ تحسينٍ في طريقةِ الإخراج، لا في مضمونِ الرسالة. فالمشكلةُ ليست في قدرةِ الآلةِ على كتابةِ الخبر، بل في إرادةِ القناةِ أن تتركَها تكتبه كما هو، لا كما يُرادُ له أن يكون. الذكاءُ الاصطناعيُّ لا يُلغي دورَ الإنسانِ في الإعلام، لكنه يُجبره على إعادةِ اكتشافِ ذاتِه. فالآلةُ تكتبُ، تُحلّل، وتستنتج؛ لكنها لا تشكُّ. والشكُّ هو قلبُ الصحافة. الصحفيُّ اللبنانيُّ اليوم أمامَ اختبارٍ مزدوج: أن يتقنَ أدواتَ الذكاءِ الاصطناعي، وأن يتعلّمَ في الوقتِ نفسِه ألّا يُصبحَ عبدًا لها. فالمستقبلُ لن يكونَ للأقوى تقنيًّا، بل للأكثرِ وعيًا. الإعلامُ الذي ينجو ليسَ الذي يُبرمجُ الخوارزمية، بل الذي يملكُ الجرأةَ على أن يقولَ لها: «قِفي… هنا يَبدأُ دورُ الإنسان».
السرُّ ليس كلماتٍ تُقال، بل مساحةٌ مُقدَّسة بين عقلَين يتبادلان الصمتَ أكثر مما يتبادلان الكلام. كلما اتّسعت هذه المساحة، ضاق احتمالُ الخيانة، وكلما امتلأت بالضجيج، صار السرُّ مادّةً في نشرةِ المساء. لكنّ الإنسان المعاصر، في لحظةٍ من الغرور الرقمي، صار يُلقي أسرارَه كما يُلقي أحدُهم خبزاً لطيورٍ غريبة، طمعاً في تفاعلٍ أو إعجابٍ عابر. وهكذا تحوّل الاعترافُ إلى محتوى، والبوحُ إلى عرضٍ حيّ أمام جمهورٍ لا يعرف الرحمة. ليس الشخص بل الظاهرة حين نقول: لا تُسرّ لترامب، فإننا لا نُحذّر من رجلٍ بعينه، بل من ظاهرةٍ تجسّد عصراً بأكمله؛ عصراً جعل من كلِّ شيءٍ قابلاً للتسويق… حتى الأسرار.ترامب لم يعُد مجردَ سياسي؛ بل صار تجسيداً للرأسمالية المتلفزة، التي تخلط بين السلطة والمسرح، بين الحقيقة والمشهد، بين الدولة والعرض التجاري. منذ اتفاق شرم الشيخ الأخير، بدا ترامب في صورتِه الأوضح: ملكُ العالم الجديد.يقف في المنتصف كما لو أنّه يوقّع باسم الحضارات لا باسم دولة، بعينَين تتحدّثان بلغة المخرج لا الدبلوماسي، وبحضورٍ يفرض نفسه كأنّ التاريخ مجرّد ديكورٍ في برنامجه العالمي الطويل.لقد أدرك ترامب ما لم يُدركه غيره: أنّ الكاميرا أقوى من الجيوش، وأنّ المشهد أهمّ من المعنى، وأنّ العالم لا يحكمه اليوم مَن يملك الحقيقة، بل مَن يملك المنصّة. الأسرارُ عملةً في السوق في عالم ترامب، لا وجود لكلمة سرّ.كلّ ما يُقال يُختزَن في ذاكرةٍ إعلامية بانتظار اللحظة المناسبة للبيع.لا يوجد صديق، بل مشاهد محتمل.ولا يوجد وفاء، بل ترند قادم. مَن يبوح لترامب، كأنّه يوقّع عقداً غير مكتوب، يسمح بتفكيك ذاته في أوّل خلاف.هو لا يخونك لأنّه شرير، بل لأنّه نتاجُ نظامٍ لا يعرف إلا لغة الصفقة.حتى الصدق عنده يُقاس بمدى قابليته للبثّ، والموقف الأخلاقي يُحدَّد بعدد المشاهدات. في عالم ترامب، لا وجود لكلمة سرّ. كلّ ما يُقال يُختزَن في ذاكرةٍ إعلامية بانتظار اللحظة المناسبة للبيع شرم الشيخ… السلامُ مشهداً ما بدا للعالم اتفاقاً لوقف النار في غزّة، كان في عمق الصورة عرضاً جديداً لإعادة إنتاج النفوذ الأميركي بلغة المسرح لا السياسة.ترامب في الوسط، يبتسم بثقة المخرج لا الوسيط، والزعماء إلى جانبه مجرّد كومبارسٍ في مشهدٍ مُعَدٍّ مسبقاً. السلام بدا كإعلانٍ تسويقيّ بلونٍ إنجيليٍّ وابتسامةٍ جمهورية، لا كتحوّلٍ حقيقيّ في ميزان القوى.لقد أصبحنا نعيش في زمنٍ تُستبدَل فيه الثقة بالمشاهدات، والمروءة بالفرجة، والخصوصية بالتفاعل. لم تعُد الأسرار تُحفَظ، بل تُؤرشَف في ذاكرة السوق الكبرى، بانتظار أن تُستخرَج عند الحاجة.مَن يثق بترامب المعاصر — سواء كان صديقاً أو إعلاماً أو منصّة رقمية — يضع رأسه في فم السوق، ويظن أنّ الوحش سيتحوّل إلى ناصحٍ أمين.لكن الوحش لا يُروَّض… بل يُتابَع ويُصفَّق له. في عالمٍ يحكمه الضوءُ لا الضمير، أصبحت الثقة رفاهيةً أخلاقية لا يملكها إلا مَن قرّر الصمت. احكِ لنفسك، لا للعالم. فالعالمُ اليوم لا يُنصِت ليحمي ما يسمع، بل ليسوّقَه. وما لم تفهم هذه القاعدة، ستجد نفسك جزءاً من العرض… لا من الحقيقة. Click here