يُشكّل قانون الإيجارات غير السكنية الجديد الإطار التشريعي الذي ينظّم عقود إيجار الأماكن ذات الاستخدام التجاري أو المهني في لبنان، من محال ومكاتب ومؤسسات. وقد جاء هذا القانون ليضع قواعد واضحة لتحديد بدلات الإيجار ورفعها تدريجيًا، مع اعتماد آلية قضائية وخبرات تخمينية للفصل في النزاعات. يقوم القانون على مبدأ “بدل المِثل”، أي القيمة الإيجارية السنوية العادلة للعقار، والتي يحددها خبير محلّف آخذًا في الاعتبار الموقع والمساحة والحالة العامة للعقار وظروف السوق. هذا المعيار بات المرجع الأساسي لتسعير الإيجارات بعد سنوات من الجدل حول البدلات القديمة. المسار التشريعي مرّ القانون بمراحل متسارعة حتى استقر بصيغته النهائية: 12 حزيران/يونيو 2025: دخول القانون رقم 11/2025 حيّز التنفيذ بعد نشره في الجريدة الرسمية. 22 تموز/يوليو 2025: ردّ المجلس الدستوري الطعن المقدم، مكتفيًا بإبطال الفقرة “د” من المادة 10. 31 تموز/يوليو 2025: إقرار تعديلات نيابية أُعلنت رسميًا في 21 آب/أغسطس بموجب القانون رقم 24/2025. وبهذه المراحل، تكرّس الإطار التشريعي الجديد الذي ينهي تدريجيًا عقود الإيجار “القديمة” وفق قواعد ملزمة. أبرز التعديلات خفض معيار الاحتساب: حُدِّد بدل المثل بما يعادل نحو 5% من القيمة السوقية السنوية للعقار، بعدما كان أعلى في الصيغة الأولى. إلغاء التحرير السريع: أُسقط الخيار الذي يتيح للمالك تحرير المأجور فورًا مقابل تجميد البدل لعامين، واستُبدل بمسار تدريجي إلزامي. مرحلة انتقالية أطول: تمتد بين 5 و8 سنوات بحسب الفئات، مع زيادات مرحلية محددة بجدول واضح. تصنيف المستأجرين قسّم القانون المستأجرين إلى أربع فئات، تختلف مدد حمايتهم ومراحل زياداتهم: الفئة الوصف مدة التمديد مسار الزيادات (من بدل المثل)1 من دون دفع “خلو” 5 سنوات 30%، 40%، 50% ثم البدل الكامل2 دفعوا “خلو” قبل 2015 6 سنوات 30%، 40%، 50% ثم البدل الكامل3 دفعوا “خلو” بعد 2015 7 سنوات 30%، 40%، 50%، 60% ثم البدل الكامل4 إدارات عامة ومهن منظَّمة 8 سنوات 30%، 40%، 50%، 60% ثم البدل الكامل أحدث القانون انقسامًا بين المالكين والمستأجرين: المالكون اعتبروا أن القانون أنصفهم بعد عقود من بدلات زهيدة لا تغطي حتى تكاليف الصيانة والضرائب. ورأوا أن “بدل المثل” معيار عادل، والمرحلة الانتقالية ضمانة عملية للتوازن. المستأجرون أبدوا تخوفهم من أن تشكّل الزيادات عبئًا على المؤسسات الصغيرة والمتوسطة، خصوصًا في الأسواق الشعبية. وطالبوا بدعم حكومي ورسوم مخففة وتسهيلات لتجنب الإقفال. يسعى القانون إلى تحقيق توازن بين حق المالك في عائد عادل وحق المستأجر في استمرارية عمله. ويتحقق ذلك عبر: اعتماد بدل المثل وفق خبرة قضائية شفافة. احترام المهل الانتقالية (5–8 سنوات) وجدولة الزيادات دون قفزات مفاجئة. تشجيع الاتفاقات الرضائية لتجنب النزاعات القضائية. بهذا، يُفترض أن يمهّد القانون لانتقال تدريجي من بدلات تاريخية متدنية إلى أخرى أقرب إلى القيمة السوقية، بما يحفظ استمرارية المؤسسات ويعزز عدالة السوق العقارية في لبنان.
بعد سنوات من الركود والأزمات المتلاحقة، يشهد القطاع العقاري في لبنان حراكاً لافتاً في عام 2024، لكنه حراك انتقائي ومعقد يرسم ملامح سوق منقسم على نفسه. ففيما تسجل الدوائر العقارية قفزة هائلة في عدد المعاملات، مدفوعة بعودة انتظام عملها، تبقى الأسعار في معظم المناطق أدنى من مستوياتها قبل الأزمة الأخيرة، في حين تحولت عقود الإيجارات إلى “القصة الكبرى” التي تؤرق المستأجرين وتنعش جيوب المالكين تكشف الأرقام الرسمية عن مشهد متناقض. فقد قفز عدد المعاملات العقارية بنسبة 118% خلال الأشهر التسعة الأولى من عام 2024 مقارنة بالفترة نفسها من عام 2023. وبلغت القيمة الإجمالية لهذه المعاملات حوالي 3.7 مليارات دولار حتى ديسمبر 2024، مع تركز واضح في العاصمة بيروت وقضاء بعبدا. لكن هذا الانتعاش في حجم التداول لا يترجم بالضرورة إلى ارتفاع عام في الأسعار. انتعاش رقمي لا يعكس الواقع بحسب خبراء السوق، لا تزال الأسعار المقومة بالدولار الأمريكي أقل بنحو 20% في المناطق الحيوية والمدينية الممتازة، بينما يصل الهبوط إلى 35% في مناطق الأطراف، وذلك مقارنة بأسعار ما قبل خريف 2019. ويعود السبب الرئيسي في ذلك إلى الغياب شبه التام للتمويل المصرفي، مما دفع المطورين العقاريين إلى التركيز على بناء وحدات سكنية أصغر حجماً تستهدف المشترين الذين يملكون السيولة النقدية (الكاش). الخلاصة بالأرقام تشير إلى سوق “انتقائي” بامتياز، حيث يتركز الصعود السعري في “جيوب” محددة، لا سيما في أحياء بيروت الراقية، بينما لا تزال مناطق واسعة من البلاد تعاني من ركود الأسعار. “الدولرة” والنزوح يغيران قواعد اللعبة في المقابل، يشهد سوق الإيجارات قصة مختلفة تماماً. فقد أدت “الدولرة” شبه الكاملة لعقود الإيجار، سواء السكنية أو التجارية، إلى قفزات هائلة في بدلات الإيجار، التي باتت تحتسب بالدولار النقدي أو ما يعادله بالليرة اللبنانية على سعر السوق الموازية. وقد وصلت الزيادات في بعض الحالات، خاصة في الشقق المفروشة، إلى أضعاف ما كانت عليه في السابق. ويغذي هذا الارتفاع الجنوني طلب قوي على الإيجار في المناطق التي توصف بـ”الأكثر أماناً”، نتيجة موجات النزوح الداخلي من مناطق التوتر في جنوب لبنان. وقد وثقت تقارير إنسانية وصحافية حالة من الازدحام وارتفاع الأسعار في المناطق التي تستقبل النازحين، مثل الشريط الممتد من بعبدا إلى كسروان، وكذلك في مدينة صيدا ومحيطها. في تطور لافت سيؤثر على آلاف التجار والمؤسسات، ثبّت المجلس الدستوري في يونيو 2025 قانون الإيجارات غير السكنية الجديد، الذي يمهد لتحرير تدريجي لعقود الإيجار القديمة (ما قبل عام 1992) خلال فترة انتقالية تصل إلى أربع سنوات، مما سيغير بشكل جذري اقتصاديات العديد من المحال التجارية والمكاتب في البلاد. خارطة طريق للاستثمار في ظل هذا المشهد المعقد، تتغير استراتيجيات الاستثمار بحسب طبيعة المستثمر وأهدافه: قراءة جغرافية: بيروت أولاً بيروت المركزية (وسط المدينة، الأشرفية، رأس بيروت): الطلب نشط على الشقق الجاهزة عالية الجودة، مع حسومات أقل مقارنة بسنوات الأزمة الأولى. بعبدا–المتن–كسروان: طفرة إيجارات للمدد القصيرة والمتوسطة، مدفوعة بالنزوح نحو مناطق أكثر هدوءًا. الجنوب وصيدا: الضغط يتركز في الإيجارات أكثر من البيع، حيث يُسجّل طلب كبير على الشقق المفروشة والجاهزة في المناطق البعيدة عن خطوط التماس. البيع يبقى انتقائيًا ويتأثر مباشرة بالوضع الأمني. بحسب الفئة المطورون والمقاولون: استراتيجيات “البناء للاستئجار” تبدو الأنسب، مع وحدات صغيرة–متوسطة تحقق عوائد إيجارية صافية تتراوح بين 7–9%. التجّار وأصحاب المحال: القانون الجديد لغير السكني فرصة لإعادة هيكلة العقود، شرط مراعاة قدرة المستأجرين لتفادي الشغور. صيدا تحديدًا تُعد أرضية خصبة لمشاريع نقدية سريعة كالمكاتب والعيادات. المستثمر الفردي: خياراته تتنوع بين الشراء في “جيوب بيروت الممتازة” للحفاظ على رأس المال، أو اقتناء شقق مفروشة للإيجار بهدف تحقيق دخل جارٍ، أو الاستثمار طويل الأمد في أراضٍ قريبة من مراكز الخدمات، شرط الحصول على خصومات تغطي المخاطر الأمنية. سوق بوجهين يمكن القول إن السوق العقاري في لبنان يشهد ارتفاعاً، لكنه ارتفاع “انتقائي” ومتباين. فبينما تستعيد بعض المناطق الراقية عافيتها تدريجياً، لا تزال مناطق أخرى تكافح للخروج من عنق الزجاجة. ويبقى سوق الإيجارات هو الرابح الأكبر في المعادلة الحالية، مدفوعاً بالدولرة والنزوح، مما يرسم ملامح جديدة لسوق عقاري معقد ومتغير، يتطلب من المستثمرين والمطورين والمواطنين على حد سواء قراءة دقيقة للواقع والتسلح بالمرونة والحذر.