أيّتُها الأقدارُ، ما أتعسَ هذا المشهدَ!أوروبا بأسرِها تخرجُ إلى الساحات: برشلونةُ تهتفُ، روما تصرخُ، نابولي تشتعلُ، تورينو وميلانو وبولونيا وجنوة وباليرمو وفلورنسا تضجُّ بجُموعٍ غاضبة، أثينا تستعيدُ روحَ الإغريق الثائرين، بروكسل تتركُ بيروقراطيتَها الثقيلةَ وتلوِّحُ بالأعلام، باريس تُعيد صدى الثورةِ من ساحاتِ الباستيل، برلين تنفضُ غبارَ الحربِ الباردةِ لتقفَ إلى جانبِ المظلوم، حتى إسطنبولُ المتراميةُ بينَ قارّتَين، صارت جسرًا لصوتٍ لا يعرفُ الحدودَ… الكلُّ يهتفُ لفلسطين، الكلُّ يرفعُ صوتَه مع أسطولِ الصمود أين نحن؟في المخيّماتِ، في مدنِ اللجوءِ والانتظار، في العواصمِ الممزَّقةِ بالفتن، نحنُ غارقونَ في نومٍ ثقيلٍ، كأنَّ الأمرَ لا يعنينا، وكأنَّ السفنَ التي تخترقُ البحرَ ليستْ سفنَنا، والجرحَ النازفَ ليسَ جرحَنا، والقضيّةَ التي تهزُّ وجدانَ الأرضِ ليست قضيتَنا.كيف صارتْ شوارعُ أوروبا أصدقَ من شوارعِنا، وأصواتُ الغربِ أصفى من أصواتِنا، وهتافاتُ شعوبٍ بعيدةٍ أشدَّ حرارةً من أفواهِنا المكمَّمة؟أيُعقَل أنَّ شعوبًا لا تعرفُ فلسطينَ إلّا عبر نشراتِ الأخبار تبكيها في الساحات، فيما أهلُها المقهورون، جيرانُها في المنافي، وأبناؤُها في المخيّمات، يلوذونَ بالصمتِ، كأنَّهم يبرِّئون أنفسَهم من تاريخِهم وذاكرتِهم؟ انقلب المشهدُالغربُ صار يدرّسُنا معنى التضامن، ونحنُ الذين علَّمنا الدنيا معنى “الانتفاض” غدونا نتفرّجُ كالعجزة. نحنُ ورثةُ الثوراتِ، أصحابُ المقاماتِ والأنبياءِ والتضحياتِ، أصبحْنا مجرَّدَ متفرّجينَ على مسرحِ العالم، نضحكُ في سرِّنا من جرأةِ الآخرينَ ونكتفي بتعليقاتٍ ساخرةٍ على منصّاتِ التواصل، بينما الغربُ يهتفُ بملءِ رئتَيه: “فلسطينُ حيّة”.هل نسيتم أنَّ العربَ يومًا كانوا يزلزلونَ الشوارعَ لأجلِ قضايا أبعدَ من فلسطين؟ كانوا يخرجونَ لفيتنام، يهتفونَ لجنوبِ إفريقيا، يتظاهرونَ لأجلِ تشيلي وأمريكا اللاتينيّة، بينما اليومَ لا يملكونَ الجرأةَ ليهتفوا لأجلِ القدسِ وغزّةَ والضفّة؟ لقد صارتْ بياناتُنا الرسميّةُ مسرحيّةً هزليّة: “نستنكر، نشجب، ندعو المجتمعَ الدوليّ”. مجتمعٌ دوليّ؟ أيُّ مجتمعٍ هذا الذي يخرجُ في ساحاتِه الناسُ أصلًا بلا إذنٍ من حكوماتِهم، بينما حكوماتُنا تُصادرُ حتى أنفاسَنا؟أوروبا تُخرجُ ملايينَها في ليلةٍ واحدة، ونحنُ لا نجرؤُ على إخراجِ ألفٍ في مخيَّم، وكأنَّ أصواتَنا لو ارتفعتْ ستُسقطُ السماءَ على رؤوسِنا. حتى الحلمُ عندنا نام، حتى الغضبُ صار يخافُ من نفسِه. لقد صارتْ بياناتُنا الرسميّةُ مسرحيّةً هزليّة: “نستنكر، نشجب، ندعو المجتمعَ الدوليّ”. مجتمعٌ دوليّ؟ أيُّ مجتمعٍ هذا الذي يخرجُ في ساحاتِه الناسُ أصلًا بلا إذنٍ من حكوماتِهم، بينما حكوماتُنا تُصادرُ حتى أنفاسَنا؟ أوروبا تُخرجُ ملايينَها في ليلةٍ واحدة، ونحنُ لا نجرؤُ على إخراجِ ألفٍ في مخيَّم ويا للمهزلة!في حين ترفعُ برلين صورَ الشهداءِ على جدرانِها، نحنُ في مخيّماتِنا نتجادلُ: من يوزِّعُ الخبزَ؟ من يحتكرُ المازوتَ؟ من يرفعُ رايةَ هذا الفصيلِ أو ذاك؟ أصبحْنا خبراءَ في الشقاقِ والخصام، وتخصَّصْنا في إطفاءِ أيِّ بارقةِ تضامنٍ قبل أن تُولَد.فهل صار قدرُنا أن نُختزلَ في صورةٍ باهتةٍ لشعوبٍ بلا صوتٍ، بلا فعلٍ، بلا جرأة؟هل قُدِّر لفلسطين أن تجدَ أنصارَها في شوارعِ نابولي وفلورنسا، وتخسرَ أنفاسَ أبنائِها في صبرا وشاتيلا وعينِ الحلوة؟إنَّ السكونَ لم يعُدْ ضعفًا؛ السكونُ صار خيانة. والصمتُ لم يعُدْ حيادًا؛ الصمتُ صار اشتراكًا في الجريمة. والتخاذلُ لم يعُدْ عجزًا؛ بل صار شهادةَ زورٍ على التاريخ.إنها لحظةٌ مخزيةٌ في سجلِّنا: أن يكتبَ المؤرِّخُ غدًا أنَّ برشلونة وباريس وفيينا صاحتْ باسمِ فلسطين، بينما عواصمُ العربِ ومخيّماتُهم لاذتْ بالنومِ العميق. فيا شعوبَ المخيّماتِ، يا أبناءَ المدنِ المقهورةِ، استفيقوا! لا تجعلوا التاريخَ يدوّن أنَّ الأجنبيَّ كان أحرصَ على قضيّتِكم منكم، ولا تجعلوا الغريبَ يصرخُ باسمِكم وأنتم مكمَّمون. فلتعلموا أنَّ أوروبا تهتفُ اليومَ، ليسَ لأنّها فلسطينيّة، بل لأنّها إنسانيّة. فمتى تستعيدونَ أنتم إنسانيّتَكم؟ Click here