“البوست”- جنوب لبنان تُعدُّ محطات معالجة مياه الصرف الصحي من المشاريع الحيوية التي تعكس مدى التزام الدول بتحقيق التنمية المستدامة وحماية البيئة. في لبنان، تبرز قصتان متناقضتان تمامًا في هذا المجال، تجسدهما محطتا تكرير المياه في مدينتي صيدا والنبطية. ففي حين تمثل محطة النبطية نموذجًا واعدًا للمعالجة الحديثة والفعالة، تقف محطة صيدا كشاهد على الفشل الذريع والهدر المالي والبيئي. فشل مستمر منذ 2010 تم إنشاء محطة تكرير المياه في منطقة سينيق جنوب صيدا بهدف إنهاء الكارثة البيئية الناجمة عن صب مياه الصرف الصحي مباشرة في البحر. بدأ تشغيل المحطة في عام 2010 بتمويل من الحكومة اليابانية على شكل قرض بقيمة 38 مليون دولار، بالإضافة إلى منحة بقيمة 300 ألف دولار لبدء التشغيل. إلا أن المحطة لم تعمل يومًا كما هو مخطط لها. فمنذ اللحظة الأولى، اقتصر عملها على فصل الحمأة عن السائل، دون أي معالجة حقيقية للمياه التي تُضخ في البحر عبر أنبوب يمتد لمسافة 1.8 كيلومتر، لقاء مليون دولار سنويًا للشركة المتعهدة. كشفت تقارير كثيرة عن فضائح بيئية وإدارية خطيرة. فبالإضافة إلى عدم فعاليتها، تم فتح “عبّارة” جانبية لتصريف المياه الملوثة مباشرة في البحر لتوفير تكاليف المازوت، ما أدى إلى تلوث الشاطئ وانتشار الروائح الكريهة. كما أن الحمأة الناتجة عن المعالجة الأولية تُرمى في بحيرة مجاورة للمحطة، ما يزيد من حجم الكارثة البيئية. ورغم أن تكلفة التشغيل السنوية تبلغ مليون دولار، إلا أن التكلفة الحقيقية لا تتجاوز 250 ألف دولار، مما يطرح علامات استفهام كبيرة حول الهدر المالي. النبطية: نموذج للمعالجة الحديثة على النقيض تمامًا، تمثل محطة معالجة الصرف الصحي في منطقة الشرقية بالنبطية قصة نجاح. تم تنفيذ المحطة بتمويل من البروتوكول الفرنسي وبأحدث المواصفات من قبل شركة OTV Veolia الفرنسية العالمية. تخدم المحطة حوالي 17 بلدة في قضاء النبطية، وتستوعب ما يصل إلى 10,900 متر مكعب من المياه يوميًا. تتميز المحطة بتقنيات معالجة ثانوية متقدمة، تشمل نظامًا لمعالجة الحمأة بالطرد المركزي والمعالجة بالكلس، ونظام تحكّم آلي (سكادا) للمراقبة والتشغيل. ورغم أنها واجهت بعض التحديات في البداية، حيث كانت تعمل بخط واحد من أصل خطين، خضعت لاحقًا لعمليات تأهيل وصيانة شاملة بتمويل من اليونيسف والوكالة الأمريكية للتنمية الدولية (USAID). نتيجة لهذه الجهود، أصبحت المحطة تنتج مياهًا معالجة صالحة للاستخدام في الصناعة وري الأشجار غير المثمرة. كما تم تأهيل محطة ضخ النميرية التي تضخ مياه الصرف الصحي من منطقة النبطية إلى محطة الشرقية، ما يضمن استمرارية عمل المنظومة بكفاءة عالية. درس من الواقع اللبناني يمثل الفارق الشاسع بين معملي صيدا والنبطية صورة مصغرة عن واقع المشاريع العامة في لبنان. ففي حين يثبت معمل النبطية أن النجاح ممكن عند توفر الإرادة السياسية، والخبرة التقنية، والرقابة الفعّالة، يكشف معمل صيدا عن عمق الفساد وسوء الإدارة الذي ينخر مؤسسات الدولة. إن قصة هذين المعملين يجب أن تكون درسًا للمستقبل، وحافزًا لمحاسبة المسؤولين عن هدر المال العام وتلويث البيئة، وتشجيعًا لتعميم التجارب الناجحة على كافة الأراضي اللبنانية.
يبدو أنّ “مندوبًا ساميًا” يُدير الأمور في “إمارة” صيدا، ويمارس سلطته في جميع الميادين، وخصوصًا في المجالات التي تُشكِّل نهبًا للمال العام، وعلى حساب أهالي المدينة. ومن أبرز المواضيع الواضحة في هذا المجال موضوع النفايات في المدينة، وما يدور حول وضع ما يُطلق عليه اسم معمل معالجة النفايات المنزلية الصلبة، الذي نجحت إدارته في تحويله إلى مكبٍّ للنفايات، يشهد ازدهارًا يوميًّا وتطوّرًا وتزايدًا في كميات النفايات المرمية. معمل متوقف لا يختلف اثنان على أنّ المعالجة في المعمل متوقفة منذ أعوام، بحسب اعتراف إدارته، ووفق تقارير لجنة النفايات التي شكّلها الرئيس السابق للبلدية الدكتور حازم بديع. وما تقوم به الإدارة الحالية لا يتعدّى فرز النفايات للاستفادة من المواد القابلة للتدوير، كما تحوّلت ساحة المعمل إلى مكان لجمع المواد المشتراة من “النَّكّيشة”. كانت زيارة رئيس الوزراء نواف سلام إلى المعمل مناسبة ليستمع إلى آراء بعض المواطنين الذين عبّروا عن سخطهم من أداء المعمل وعدم قيامه بالمهام المطلوبة منه. كما أشار أحد النواب إلى أنّ المعمل لا يملك ترخيصًا من وزارة الصناعة، أي إنّ عمله غير قانوني.استمع الرئيس سلام إلى الجميع، وأنصت إلى ما قاله مدير المعمل من أنّه بحاجة إلى مساحة إضافية من الأراضي لفرز النفايات المتراكمة، وأنّه يحتاج إلى ثلاثة أعوام لإنجاز المهمة. وأضاف رئيس البلدية أنّ الوضع يحتاج إلى مطمر لبقايا النفايات، من دون إعطاء أيّ انطباع واضح عن الموضوع. الحاجة لأرض إضافية ترافقت زيارة سلام مع حديث متواصل لإدارة المعمل عن حاجتها إلى أرض مساحتها 23 دونمًا لفرز النفايات، وهي مساحة تُضاف إلى 10 دونمات سمح المجلس البلدي السابق باستخدامها من الأرض المردومة لوضع كسارة، ما لبثت أن تحوّلت إلى مكبٍّ للنفايات. ويبدو أنّ المحادثات “تحت الطاولة” بين إدارة المعمل ورئاسة البلدية تتابع هذا الموضوع، وبعض أعضاء المجلس البلدي يناقش كم ستتقبض البلدية بدل استخدام الأرض، وما هي المدة الزمنية لذلك. وللأسف، بدأت إدارة المعمل بتجهيز مساحة الأرض من دون الحصول على موافقة من المجلس البلدي بموجب قرار صادر عنه، ما دفع أحد الأعضاء إلى الذهاب إلى الأرض المردومة ومنع جرافة المعمل من العمل، وذلك صباح الإثنين 20 تشرين الأول 2025. وهنا يبرز سؤال: كيف يمكن لإدارة المعمل أن تُرسل فريق عمل من دون أخذ إذن من البلدية؟ وإذا كان رئيس البلدية قد وافق على ذلك، فهذا يعني أنّه يُقصي المجلس البلدي عن القيام بواجباته، وينفّذ قرارات “المندوب السامي”. ويمكن الإشارة إلى ضرورة أن يناقش أعضاء المجلس البلدي المرسوم رقم 3093 المتعلّق بالأرض المردومة، والشروط الموضوعة لاستثمارها. وهنا يبرز سؤال آخر: هل يمكن نقاش الموضوع أصلًا، أم أنّ الأرض المردومة تخضع لإرادة “المندوب السامي”؟ للتذكير فقط، أنّ المجلس البلدي الجديد لم يُشكّل لجنة لمراقبة معمل المعالجة، بسبب إصرار رئيس البلدية على أن يتولّى هو مسؤوليتها، وهذا يتعارض مع موقعه بصفته صاحب التوقيع على فواتير معالجة النفايات التي لا يعالجها المعمل وتُصرف من المال العام. وبقي الأمر معلّقًا حتى اللحظة، ويتمّ الاستعانة باللجنة السابقة. وهنا لا بد من التذكير أيضًا أنّ المجلس البلدي الجديد لم يعقد جلسة لمناقشة وضع معمل المعالجة واتخاذ القرارات المناسبة، وأنّ كل المواقف تُتّخذ بناءً على لقاءات ونقاشات جانبية. هذا السلوك يساهم في تهميش المجلس البلدي وإقصائه، ويفتح المجال أكثر أمام “المندوب السامي” والقرارات الفردية. فهل يُبادر المجلس البلدي إلى نقاش الموضوع واتخاذ القرارات المناسبة، أم أنّه مشغول بالاحتفالات والاستقبالات والمشاريع الوهمية؟