ما شهده السوق التجاري لمدينة صيدا عصر اليوم، هو مظهر من مظاهر الهيمنة والاحتلال الناعم، الذي لم يعُد ناعمًا أو مُقنِعًا، بل بات على المكشوف. فليس هناك من يُحسَب له حساب في المدينة اليوم. عشرات الأشخاص يُجاء بهم من كل حدب وصوب ليحتلّوا شوارع المدينة تحت عنوان الفن والرسم والإبداع الفكري، تحت علم فلسطين القضية إحياءً لذكرى اغتيال نصر الله وصفِيّ الدين، تحت عنوان: “إنّا على العهد”. أيُّ عهد؟ صيدا لم تُعطِ أيًّا منكما عهدًا ولا وعدًا.
إنْ كانتِ الضوضاءُ قد حصلتْ على صَخرةِ الروشة، فالحدثُ كان في صيدا. ليسَ من بابِ المصادفةِ أنْ يظهرَ “محمّد مهدي” نجلُ الأمينِ العامِّ السابقِ لـ”حزب الله” حسن نصر الله عندَ الطرفِ الجنوبيِّ للمدينة، مُحاطًا بجُمْهرةٍ من المؤيّدين والمناصرين، وهو الذي يَعتبره كثيرون شبيهَ أبيه ووَريثَه المحتمل في احتفالٍ بذكرى والده. علْمًا أنّ المسافةَ بينَ الحدثين تَبعُدُ عشراتِ الكيلومترات، ولا ترابطَ بينهما بأيٍّ من الأشكال. وفي هذا الإطار توقّفت مصادرُ سياسيةٌ صيداويةٌ متابعةٌ عند هذه المشهدية، التي بعثتْ برسائلَ في مختلفِ الاتجاهات، خاصّةً على صعيد المدينة بوابة الجنوب. أبرزُها موجَّهٌ ضدّ النائب أسامة سعد، لاسيّما بعد الإشكال الأخير الذي حصل بينه وبين ممثّلي “الحزب” في ذكرى انطلاق “حركة المقاومة الوطنية”، برسالةٍ واضحة مفادُها: “نحن على الأرض وفي الشارع”. أمّا الثاني فكان بحقّ النائب عبد الرحمن البَزري، المقرَّب حاليًّا من الجوّ السعودي، بأنّ حساباتِ المرحلة المقبلة ستكون مختلفة عمّا كانت. بالإضافة طبعًا إلى مسعى تثبيتِ وجودٍ طاغٍ للحزب يُبنى عليه في مَهدِ والمعقل الأقوى ل “الحريرية السياسية”. ماذا يعني ذلك؟ يعني أنّ صيدا في عين الحدث، ولو كان أهلُها “نائمين”، وستكون في القادم من الأيام على موعد مع محطات كثيرة مشابهة. ولا تأتي مظاهرُ الاحتفالات والمسيرات والعراضات التي تشهدها المدينةُ بشكلٍ يستفزُّ الكثيرَ من أهلها وناسها، إلا لتؤكّد أنَّ العينَ على صيدا اليومَ أكثرُ من قبل، خاصّةً بعدما أفرزتْه وقائعُ الحرب الإسرائيلية الأخيرة على جنوب لبنان تحديدًا. فَتَحَضَّروا… محمد مهدي خلال الاحتفال مع أنصار حزب الله في صيدا
تمر ذكرى رحيل الأمين العام السابق لحزب الله، حسن نصرالله، ليس كحدث عابر، بل كجرس إنذار يعلن نهاية حقبة كاملة. فالرجل الذي احتكر الصورة والكلمة والقرار لعقود، ترك خلفه جسداً تنظيمياً مترهلاً يبحث عن رأس بديل. ومع صعود نائبه، نعيم قاسم، إلى منصب الأمانة العامة، بدا المشهد أشبه بمسرحية انطفأت أضواؤها فجأة؛ فصعد الممثل الاحتياطي إلى خشبة خالية، بلا حماس من الجمهور، وبلا قدرة على إقناع نفسه بالدور الجديد. لغة الأرقام الصادمة بعيداً عن الخطابات الرنانة، تتحدث الأرقام لغة قاسية لا تعرف المجاملة، وترسم صورة قاتمة لمستقبل الحزب:تراجع شعبي حاد: هوى التأييد الشعبي في البيئة الحاضنة للحزب من ذروة بلغت 82% عام 2006 إلى ما يقارب 51% في عام 2025. هذا يعني أن نصف جمهوره تقريباً قد سحب ثقته من المشروع الذي كان يلتف حوله. أزمة مالية خانقة: تقلص التمويل الإيراني بأكثر من 40% خلال السنوات الخمس الماضية، مما أجبر قيادة الحزب على تخفيض رواتب المقاتلين بنسب تتراوح بين 20% و30%. هذه الخطوة دفعت العديد من العناصر إلى البحث عن مصادر رزق بديلة أو حتى الهجرة. جيل جديد بلا أفق: أكثر من 60% من الشباب في البيئة الشيعية لم يعودوا يرون مستقبلهم في “المقاومة”، بل بات حلمهم تذكرة سفر أو عقد عمل في الخارج.هذه الأرقام ليست مجرد إحصاءات جامدة، بل هي بمثابة إعلان إفلاس تدريجي لمنظومة كاملة بُنيت على كاريزما فرد واحد. في ذكرى غياب “السيد”، تتضح المعادلة بلا مواربة: حزب الله اليوم هو جسد ضخم بلا رأس، يقوده رجل لا يملك من القيادة سوى لقبها الرسمي مدير تنفيذي في زمن الانهيار في هذا السياق، يظهر نعيم قاسم. الرجل الذي يُقدَّم كخليفة، يبدو في الواقع أقرب إلى “موظف أرشيف” يقرأ من أوراق صفراء بالية، لا إلى زعيم ملهم. خطابه يفتقر إلى الجاذبية، وإيقاعه بطيء، وعباراته تخرج كمن يقرأ نشرة إدارية مكررة. حتى ملامحه في الصور لا تحمل سمات القائد، بل سمات موظف مرهق في نهاية يوم عمل طويل. الفارق بينه وبين سلفه شاسع. كان نصرالله يملأ الشاشة بحضوره الصوتي والجسدي، بينما يكاد قاسم يملأ القاعة بظله. لقد انتقل الدور من “القائد” إلى “المُلقِّن” الذي يقف خلف الكواليس. حتى طهران، الراعي الإقليمي، لم تعد ترى فيه سوى “مدير تنفيذي” لشركة متعثرة، مهمته إدارة الأزمة لا صنع القرار. من “هيبة السلاح” إلى “عبء الخبز” داخلياً، يعيش الحزب تناقضاً صارخاً: كيف يمكنه رفع رايات “الانتصارات الإلهية” بينما يغرق جمهوره في البحث عن حليب لأطفاله أو دواء لمرضاه؟ لقد فقدت شعارات “القداسة” قيمتها أمام فاتورة الكهرباء، وتحول السلاح الذي كان يوصف بـ”سلاح الكرامة” إلى عبء يفاقم عزلة لبنان وانهياره الاقتصادي. الحزب الذي كان يرعب خصومه، بات اليوم يخشى تململ أنصاره. الهيبة تتآكل من الداخل، لا من الخارج. إقليمياً، لم يعد حزب الله اللاعب الأبرز في “محور الممانعة”. ففي سوريا، يستمر نزيفه البشري والمادي بلا أفق. وفي العراق واليمن، تتقدم أذرع أخرى على حسابه. لقد كشف غياب نصرالله حجم الهشاشة البنيوية، وأثبت أن نعيم قاسم لا يملك القدرة على ترميم صورة أسطورية بدأت بالتلاشي. من الأسطورة إلى التخبط في ذكرى غياب “السيد”، تتضح المعادلة بلا مواربة: حزب الله اليوم هو جسد ضخم بلا رأس، يقوده رجل لا يملك من القيادة سوى لقبها الرسمي. لقد انتقل الحزب من زمن القائد الذي يصنع الأوهام، إلى زمن الموظف الذي يوقّع على أوراق الانهيار.إنه تحول مؤلم من “ذراع إيران الضاربة” إلى شركة خاسرة تبحث عمن يدير إفلاسها، ومن “قداسة المقاومة” إلى حمل ثقيل على جمهور يطالب بالخبز قبل الرصاص. إنه الانتقال الحتمي من زمن الأسطورة إلى زمن الشفقة.