تحميل

إبحث

أسرار المدينة

فلسفة سياسة التنحي

شارك

عند مدخل ممر ضيق، التقى اثنان من الفلاسفة في مشهد يعكس بساطة الحياة وتعقيداتها في آنٍ واحد. قال الأول بغرور: “تنحى، فلم أتعود أن أتنحى للسفهاء!” فما كان من الآخر إلا أن تنحى بسرعة قائلاً: “أما أنا فقد تعودت!”

هذا المشهد الرمزي يختزل في معناه الكثير من الحكم، ويعكس واقعًا نراه في أروقة السياسة اللبنانية التي تعيش حالة فراغ رئاسي مستمرة، سببها الأول هو العجز عن التفاهم بين الأطراف السياسية التي غلبت عليها النزاعات الشخصية والمحاصصات الطائفية.

في لبنان، وكما في المشهد السابق، نجد أطرافًا تتشبث بمواقفها بدعوى الكبرياء أو الدفاع عن مبادئها، بينما يغيب التوافق حول المصلحة الوطنية.

الفراغ ومعضلة التفاهم

منذ انتهاء ولاية الرئيس السابق ميشال عون، دخل لبنان في حالة من الشلل السياسي، مع عدم قدرة مجلس النواب على انتخاب رئيس جديد نتيجة الخلافات العميقة بين القوى والكتل السياسية. هذا الفراغ لا يُفسَّر فقط بانعدام التوافق الداخلي، بل يرتبط بامتدادات إقليمية ودولية تُلقي بظلالها على القرار اللبناني.

الأحزاب السياسية تبدو وكأنها في ممر ضيق، كل طرف ينتظر أن “يتنحى” الآخر، ويعتبر نفسه الأعلى مكانة أو الأحق بالمرور. هذه المعادلة السلبية لا تؤدي إلا إلى استمرار الأزمة، خاصةً مع تمسك كل طرف بمطالبه ومواقفه، دون تنازل حقيقي يفضي إلى حلول وسط.

الأجندات الخارجية

لا يمكن فصل أزمة الرئاسة اللبنانية عن الأجندات الخارجية. فلبنان، بتركيبته الطائفية والسياسية الفريدة، ظل دائمًا ساحة صراع بين قوى إقليمية ودولية تسعى لفرض نفوذها عبر حلفائها المحليين. هذه التدخلات تزيد من تعقيد الأزمة، إذ تعمل كل جهة على تحصين مكاسبها دون اكتراث بالتداعيات الخطيرة على الاستقرار الداخلي.

دعوة إلى التواضع

كما في قصة الفيلسوفين، قد يكون الحل في التواضع والاعتراف بحجم الأزمة والخروج من دائرة “الكبرياء السياسية”. التنحي هنا لا يعني التراجع عن المبادئ، بل تقديم مصلحة لبنان على أي اعتبار آخر. الفراغ الرئاسي هو أزمة وطن بأكمله، وليس مجرد نزاع بين أحزاب أو أشخاص.

إذا لم يتعلم السياسيون في لبنان فلسفة “التنحي” عن مصالحهم الضيقة، فإن الممر الضيق سيظل مغلقًا، وسيبقى المواطن اللبناني هو من يدفع الثمن في شكل أزمات اقتصادية واجتماعية متفاقمة. فهل من أفق للحل أم أن “التنحي” سيظل درسًا يتجاهله الجميع؟

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *