لطالما ظنّ الإنسانُ أنَّ الحظَّ نَفَسٌ غامضٌ تَهَبُه قوى خفيّة أو تَسحَبُه متى شاءت. لكن كلما تَوَغَّلَ العلمُ في أعماقِ الوعي، بدا أنَّ الحظَّ ليس مجرد رَميةِ نردٍ، بل إشارةٌ كونيةٌ تنتظرُ مَن يفهمُ لغتَها في مختبراتِ الفيزياء الحديثة، حين وُجِّهت أعينُ العلماءِ إلى جسيمٍ صغيرٍ يمرّ بين شقّين، غيّر مسارَه فورًا، كأنَّه خَجِلَ من أنْ يُرى. هكذا وُلد “تأثيرُ المُراقِب”، الدليلُ الأولُ على أنَّ الوعيَ ليس مُتفرِّجًا، بل مُمثِّلًا في مسرحِ الوجود. منذ تلك اللحظة، بدأ السؤالُ يتبدّل: هل نعيش في واقعٍ موضوعيٍّ صُلب؟ أم في حقلٍ من الاحتمالات يتّخذُ شكلَه وِفقَ ما نُؤمِنُ به ونَنتَبِهُ إليه؟ الإيمانُ كمعمارٍ خفي حين يقولُ أحدهم: “أنا محظوظ”، لا يتحدثُ عن معجزة، بل عن هندسة. دماغُه يُعيدُ ترتيبَ إدراكِه مثل خوارزميةٍ تبحثُ في الضجيجِ عن معنى. في مكانٍ ما خلف الجمجمة، يعمل نظامٌ عصبيٌّ دقيق، نظامُ التنشيطِ الشبكي، كعدسةٍ تختار ما يستحقُّ أن يُرى. هو لا يَخلُقُ الأحداث، لكنه يُوجِّهُ الضوءَ إليها. يشبه الإيمانُ بالحظ إعادةَ برمجةِ الوعي على تردّدٍ معيّن، كأنك تُضبِطُ موجةً إذاعيةً لا يسمعُها إلا مَن آمن بوجودِها. وفي تلك اللحظة، يُصبح العالمُ كريمًا، لا لأنه تغيّر، بل لأنك تغيّرتَ في رؤيتِه. الحظُّ ليس وعدًا من السماء، بل صدىً يصدُر عن الداخل ويعودُ في شكلِ فرصة الذكاءُ الاصطناعي… المرآةُ الجديدةُ للحظ في عوالمِ الذكاء الاصطناعي تتكرّر القصةُ نفسها. الخوارزميات لا “تعرِف” أكثر منا، لكنها تتعلم كيف ترى الأنماطَ المُخفية في العشوائية. إنّها تبحثُ عمّا يتكرّر، عمّا يَتناغم، تمامًا كما يفعل وعينا حين يُؤمن بأنَّ حدثًا ما “كان مُقدَّرًا له أن يحدث”. الذكاءُ الاصطناعي هو التجسيدُ الميكانيكيُّ لفكرةِ الحظ القديمة: مجموعةٌ من الحسابات الدقيقة التي تُحوِّل الفوضى إلى احتمالٍ مفهوم. وكما أنَّ الإنسانَ المحظوظ يرى في الصدفةِ فرصة، يرى الذكاءُ الاصطناعي في الضوضاءِ إشارة. في جامعةِ برينستون، ربط العلماءُ مُولِّداتِ أرقامٍ عشوائيةٍ بعقولِ أشخاصٍ طُلِبَ منهم التركيزُ على نِيّةٍ محددة. النتيجة: خرجت الأرقامُ عن العشوائية. مجردُ التفكير غيّر النتيجة.قد يبدو هذا ضربًا من السحر، لكنه أقربُ إلى الموسيقى: النيةُ نغمة، والمادةُ آلةٌ تستجيبُ للتردّدِ الصحيح. وحين يَتناغم الاثنان، يُولَد ما نُسميه “الحظ”. في أعماق الأمر، يبدو أنَّ الحظَّ والذكاءَ الاصطناعي يتحدثان اللغةَ نفسها: لغةَ الاختيار من بين ملايينِ الاحتمالات. لكن بينما يفعلُ الذكاءُ الاصطناعي ذلك عبر حساباتٍ ومعادلات، يفعله الوعي عبر الإيمان والنية والانتباه. الحظُّ ليس وعدًا من السماء، بل صدىً يصدُر عن الداخل ويعودُ في شكلِ فرصة. وكما تحتاجُ الخوارزميةُ إلى “بياناتٍ نظيفة” لتنتج نتائج دقيقة، يحتاجُ الوعي إلى نِيّةٍ نقيّة ليجذبَ تردُّدَه الصحيح. الحظُّ ليس عشوائية، ولا معجزة، ولا مصادفة، إنَّه لحظةُ توازنٍ بين العقلِ والكون، حيث تُصغي المادةُ إلى مَن يُؤمن أنّه قادرٌ على توجيهِها. في زمنِ الذكاء الاصطناعي، لم يَعُد الحظُّ امتيازًا روحيًا فحسب، بل فنًا إدراكيًا يمكنُ تعلُّمُه:فنّ اختيارِ الاحتمالِ الصائب وسط الضوضاء، فنّ جعلِ العالمِ يستجيب كما لو كان يُفكّر معنا. فالحظّ، في جوهره، ليس شيئًا نَملكُه، بل وعيًا نُدرّبه حتى يُصبح هو الذكاءَ الحقيقي… ذكاءً يصنعُ واقعَه كما تصنعُ الخوارزميةُ مُعجزتَها الرقمية.
في كُلِّ موسمٍ انتخابيٍّ في لُبنان، يُعادُ فَتحُ الصُّندوقِ ذاتِه: صُندوقُ المالِ السياسيِّ المُتَنَكِّرُ بوجهِ “الدَّعم”، وصُندوقُ الوِصايةِ المُتجدِّدُ بأسماءٍ جديدة.يَتبدَّلُ اللاعبونَ وتَبقى اللُّعبةُ واحدة: مَن يَملِكُ الفَرَسَ، ومَن يَملِكُ حَليبَها. تذكَّرتُ وأنا أُتابِعُ مَشاهدَ الحَراكِ الانتخابيِّ وتصريحاتِ بعضِ الرُّعاةِ الإقليميين، قِصَّةً قديمةً من التُّراثِ العربيّ، عنوانُها “العِرقُ دَسّاس”.قِصَّةُ رجلٍ لم يَكُنْ في الحقيقةِ سوى مِرآةٍ تُعكِسُ طَبائعَ السَّلاطين، وتَفضَحُ وَهمَ النَّسبِ حين يُستبدَلُ الأصلُ بالتَّربية. يُحكى أنَّ رجلًا دخلَ يومًا مملكةً، يطوفُ شوارعَها وهو يُنادِي بثقةٍ:“أنا رجلٌ سياسيٌّ، أُصلِحُ ذاتَ البَيْنِ وأَحلُّ كُلَّ خِلافٍ.”سَمِعَهُ المَلِكُ فاستدعاهُ وقالَ له: إن كُنتَ سياسيًّا فدُلَّني على حِكمتِكَ؛ لديَّ فَرَسٌ عَنيدةٌ لا يُفلِحُ أحدٌ في تَرويضِها، فَكُنْ أنتَ سائسَها. ارتبكَ الرجلُ وقالَ: يا مولاي، أنا سياسيٌّ لا سائسُ خُيولٍ.قالَ المَلِكُ: بل أنتَ سائسٌ إنْ أَمَرتُكَ، وإلَّا قَطعتُ رأسَكَ.وهكذا بدأَ الامتحانُ الأوّل. جَلَسَ الرجلُ في الإسطبلِ، وحاوَلَ التَّعامُلَ مع الفَرَسِ أيّامًا، ثُمَّ فَرَّ هاربًا.لكنَّ حَرَسَ المَلِكِ قَبَضوا عليه، وسألهُ المَلِكُ غاضبًا: لِماذا هربتَ؟ هل في فَرَسي عَيْبٌ؟قالَ الرجلُ وهو يَرتَجِفُ: أَمَنيَ على حياتي يا مولاي؟قالَ المَلِكُ: لكَ الأمان.فقالَ الرجلُ: فَرَسُكَ أصيلةٌ، لكنَّها لَمْ تَرضَعْ مِن حَليبِ أُمِّها. ثارَ المَلِكُ واتَّهَمَهُ بالكَذِبِ وسَجَنَه.لكنَّه ما لَبِثَ أنِ استدعى سائسَ الفَرَسِ القديمَ وسأله: مِن أينَ رَضَعَت فَرَسي؟فقالَ السائسُ خائفًا: يا مولاي، ماتت أُمُّها عند الولادةِ، فأرضَعْتُها بَقَرةَ القصرِ كي لا تَموت. أمَرَ المَلِكُ بإخراجِ الرجلِ مِن السِّجنِ، وسأله مَدهوشًا: كيف عَرَفتَ؟قالَ الرجلُ: الفَرَسُ الأصيلةُ تَرفَعُ رأسَها حين تَبحَثُ عن العُشبِ، أمّا التي رُضِعَتْ مِن ضَرعِ البَقَرِ فَتُطأطِئُ رأسَها. أُعجِبَ المَلِكُ بفِطنَتِه، وقرّرَ أنْ يَجعلهُ مُستشارًا للمَلِكَة.عَمِلَ الرجلُ أيّامًا في القصرِ، ثُمَّ فَرَّ مُجدّدًا. أُعيدَ مُقيَّدًا، وسألهُ المَلِكُ: ما الذي وَجَدتَهُ في زوجتِنا حتّى تَهرُبَ؟قالَ الرجلُ: أمانُكَ يا مولاي؟قالَ المَلِكُ: لكَ الأمان.قالَ الرجلُ: زوجتُكَ مَلِكَةٌ، لكنَّها ليست ابنةَ مُلوكٍ. غَضِبَ المَلِكُ، وزَجَّهُ في السِّجنِ ثانيةً، ثُمَّ شَدَّ رِحالَهُ إلى حَمَاهُ، وقالَ له والسَّيفُ على رَقبَتِه:قُلِ الحقيقةَ، ما نَسَبُ ابنتِكَ؟ ارتجَفَ الرجلُ وأجابَ: ماتتِ ابنتي الحقيقيةُ صغيرةً، فتبنَّيتُ طِفلةً مِن الغَجرِ وربَّيتُها كابنتي. عادَ المَلِكُ إلى مَملكتِه مَصدومًا، وأطلَقَ سَراحَ السجينِ وسأله: كيفَ عَرَفتَ أنَّ زوجتي مِن أصلٍ غَجَريٍّ؟قالَ الرجلُ: الغَجرُ يَغمِزونَ حينَ يَتكلّمون، ومَلِكتُكَ كثيرةُ الغَمزِ في حديثِها. أُعجِبَ المَلِكُ بحِكمتِه، وقرّرَ أنْ يَجعلهُ خادِمًا لأُمِّه. رَفَضَ الرجلُ، لكنَّ السَّيفَ أَقنَعَه. ومعَ كُلِّ وظيفةٍ جديدةٍ كانتِ المائدةُ تَتَّسِعُ: مِن وجبتينِ إلى دَجاجتينِ، ثُمَّ إلى خروفينِ في اليوم. وبَعدَ أيّامٍ، هَرَبَ الرجلُ للمَرّةِ الثالثةِ.قُبِضَ عليه وأُعيدَ إلى القصرِ، وسألهُ المَلِكُ: هذهِ المرّةَ ماذا وَجَدتَ في أُمِّنا؟قالَ الرجلُ: لَستَ ابنَ المَلِكِ. أُصيبَ المَلِكُ بالذُّهولِ، وواجَهَ أُمَّهُ فاعترَفَت: كانَ زوجي عَقيمًا، ومعَ ذلكَ كانَ يَذبَحُ زوجاتِه إنْ لَم يُنجِبنَ. كنتُ مُتزوِّجةً مِن طَبّاخِ القصرِ، وحينَ رآني المَلِكُ أَمَرَ بطلاقي وتزوَّجَني، ولم يَكُن يَعلَمُ أنَّني كنتُ حامِلًا منك.أنتَ ابنُ الطَّبّاخِ، لا ابنُ المَلِكِ. عادَ المَلِكُ إلى الرجلِ في سِجنِه وقالَ له غاضبًا: كيفَ عَرَفتَ هذا السِّرَّ العظيمَ؟فأجابَهُ بابتسامةٍ باردةٍ: لأنَّ الملوكَ لا يُكافِئونَ بالطَّعامِ، وكُلُّ مكافآتِكَ لي كانت أطباقًا مِن اللَّحمِ والدَّجاجِ والخِراف… وهذهِ عادةُ الطَّبّاخينَ لا الملوكِ. العرق دسّاس في تلكَ الحِكايةِ القديمةِ المعرُوفةِ، أكثرُ مِن حِكمةٍ سياسيّةٍ واحدةٍ. فالعِرقُ حقًّا دَسّاس، والذينَ يَرضَعونَ مِن ضَرعٍ أجنبيٍّ لا يُمكنُ أنْ يَسيروا برأسٍ مرفوعةٍ، ولا أنْ يَتصرّفوا كأبناءِ وطنٍ حُرٍّ. هكذا تَفقِدُ الفروسيّةُ معناها، حينَ يُصبِحُ السائسُ غريبًا، والمكافأةُ وجبةً، والمَلِكُ مُجرّدَ طَبّاخٍ يَظنُّ نفسَهُ سيّدًا على المائدة. في لُبنانَ اليومَ، هُناكَ مَن يَلبسُ عَباءةَ “الوِصايةِ الأُخويّةِ” ويُقدِّمُ المالَ السياسيَّ كأنَّهُ حَليبُ حياةٍ، لكنَّهُ في الحقيقةِ يُربّي أجيالًا مِن “الخُيولِ” الّتي نَسيت رائحةَ أُمِّها، تَبحَثُ عن رِزقِها في أيدي المانحينَ لا في عَرَقِها. مَن يَقبَلْ بالمالِ كَهُويّةٍ سياسيّةٍ، يَهبِطْ برأسِه كما فَعَلَت الفَرَسُ الّتي ظنَّها المَلِكُ أصيلةً. ومَن يَبيعْ قرارَهُ الانتخابيَّ مُقابلَ حُفنَةٍ مِن الدّولارات، يَنسَ أنَّهُ في جُمهوريّةٍ لا مَزرعةٍ، وأنَّ الكرامةَ ليست سِلعةً تُشترى في موسمِ صناديقِ الاقتراعِ. السّياسةُ، مِثلُ الفروسيّةِ، لا تُورَّث. إمّا أنْ تُولَدَ مِن رَحِمٍ حُرٍّ، وإمّا أنْ تَبقَى تَتصرّفُ كالبَقَرِ، تُطأطِئُ رأسَها لِمَن يُطعِمُها. فهل يَتعلَّمُ لُبنانُ، قبلَ أنْ يَفوتَهُ الحَليبُ مرّةً أُخرى، أنَّ الأصالةَ لا تُستورد؟ وأنَّ الفَرَسَ الّتي لَمْ تَرضَعْ مِن أُمِّها، قد تَركُضُ سريعًا… لكنَّها لا تَصِلُ أبدًا؟
لا يبدو أنَّ الحرائقَ التي شهدتها المناطقُ اللبنانيةُ خلال الأيام الماضية يمكن إدراجها في خانة “الظروف الطبيعيّة”. فطقسٌ غائمٌ، ودرجاتُ حرارةٍ عاديّة، ورطوبةٌ مُرتفعة نسبيًّا، تجعل من احتراق المساحاتِ الحرجية في أكثر من 25 نقطة جغرافيّة أمراً مُثيرًا للريبة أربعُ مناطقٍ “لافتة” توزّعت الحرائق على أربعِ مناطقَ حسّاسةٍ جنوبيًّا وجبليًّا وشماليًّا، ما أعطى الانطباع أنَّ ثمّة خيطًا واحدًا يربطُ بينها، وليس محضُ صدفةٍ مناخية.بقراءةٍ أولية، تُشير البياناتُ المتقاطعة من مصادر ميدانيّة إلى أنّ أهدافًا مشتركةً تجمع هذه المواقع: وعورة في المساحات الحرجية، ارتفاعات تؤمّن رؤيةً واسعة، قربٌ مفترض من مواقع حساسة أمنيًا أو عسكريًا، خط تماس مباشر أو غير مباشر مع مناطق مراقبة إسرائيلية. هذه العناصرُ تجعل من التفسير الطبيعيّ أقل منطقية. مصادر مُطّلعة تقول بوضوح إنّ “الحرائق مُفتعلة”، مستندةً إلى ثلاثة عناصر: توقيت غير اعتيادي لاندلاع حرائق في هذه الظروف المناخية. تزامنٌ نَشِط في أكثر من منطقة خلال ساعات. طبيعةُ التمدّد الأفقي للنيران، ما يوحي باستخدام مواد سريعة الاشتعال تُسهِّل الانتشار على مساحات واسعة. من المستفيد؟ هنا يصبحُ السؤالُ منطقيًا، هل يكونُ العدوُّ الإسرائيلي هو من يقف خلف هذا النمط من الحرائق؟ المصادرُ تُرجِّح هذه الفرضية، إذ تُشدّد على أنَّ الكثير من المواقع المحروقة لعبت – خلال السنوات الماضية – دورًا مهمًّا في تشكيل “شبكة غطاء أخضر” تُصعّب الرصد من الجوّ وتُساعد في إخفاء النشاطات أو التحركات في مناطق حساسة، خصوصًا في القرى الأمامية جنوبيًّا. بحسب تقديراتٍ مطّلعة، فإنّ إزالة الغطاء الحرجي يفتح أمام الطائرات المسيّرة الإسرائيلية رؤيةً أعمق، ويُسقط ميزة “التمويه الطبيعي” في أكثر من محطة. هذا النمط من افتعال الحرائق ليس بعيدًا عن أساليب خوض “الحرب الباردة” بالنيران، حيث يمكن ضرب البيئة العملياتية للخصم من دون إطلاق النار سوابق موثّقة سُجّلت خلال السنوات الماضية حالات مشابهة في مناطق تماس جنوبية. وتكرارُ النمط يُعزّز الفرضية: حرائق فجائية في مواقع محددة في توقيتٍ خالٍ من موجات الحر، تنتشر أفقياً بسرعة، تنطفئ غالبًا بالتوازي في المناطق ذاتها. هذا النمط ليس بعيدًا عن أساليب خوض “الحرب الباردة” بالنيران، حيث يمكن ضرب البيئة العملياتية للخصم من دون إطلاق النار. الغطاء الحرجي ليس مجرد جمال طبيعي؛ هو عنصر استراتيجي في الحرب الحديثة.فالأشجار الكثيفة: تُعيق رؤية الطائرات المُسيّرة، تُخفّف قدرة التصوير الحراري، تُؤمّن مساحات تحرك غير مكشوفة، وتُعقّد تقدير القوة البشرية أو عدّة الفصائل. يُعد إزالة هذا الغطاء في المنطق العسكري عملاً تمهيدياً يُسهّل: مراقبة العمق، تحديد الإحداثيات الأرضية بدقة، تحسين دقة الاستهداف الجوي. كشف خطوط تحرك الأفراد والآليات لماذا الآن؟ لا يقل التوقيت لا يقلّ أهمية عن المكان، فالتطورات السياسية والأمنية في المنطقة تشهد لحظة غليان غير مسبوقة. بين: تصاعد التوتر على الحدود، تبادل الرسائل النارية، تغيرات في قواعد الاشتباك، ضغوط دولية على ملفات المنطقة، كل ذلك يجعل من أيّ عمل استباقي في البيئة الميدانية جزءًا من مشهد أكبر يجري تحضيره. تمهيد لعملٍ ما؟ قد تكون هذه الحرائق: تحضيراً استخبارياً لمسرحٍ عملياتي، أو فتحَ خطوطِ رؤيةٍ أوسع، قياسَ ردود الفعل لدى الجهات المحلية والدفاع المدني، تشتيتاً إعلامياً قبل مرحلة تصعيد، أو ربما محاولة لجرّ المنطقة إلى استنفارٍ مبكر، بما يخلق ضغطاً نفسياً على المواطنين في القرى الحدودية. في الحسابات الباردة، لا شيء يُترك للصدفة في الشريط الحدودي. وحين تشتعل الغابات في أربعة مواقع متباعدة، وفي أكثر من 25 نقطة شديدة الحساسية، وفي طقسٍ غير قابل للاشتعال الطبيعي، يصبح السؤال منطقياً: ماذا تُحضّر إسرائيل في جنوب لبنان؟ هل نحن أمام مجرد “حرائق عابرة”، أم أنّنا أمام إعادة ترتيب ميداني هادئ لِمسار تصعيد قد لا يكون بعيداً؟