تحميل

إبحث

في الصميم

تركيا الحديثة والإرث العثماني…توظيف التاريخ في السياسة

ottoman_modern_turkey

لطالما حاولت تركيا المعاصرة، في خطابها السياسي والإعلامي، أن تُوهم العالم الإسلامي بأنها امتدادٌ طبيعيٌ للدولة العثمانية. لكنّ هذه الصورة، وإن بدت براقةً، تُخفي وراءها قطيعةً جوهريةً وتناقضاتٍ عميقةً بين المشروعين

لم تكن الدولة العثمانية مجرد كيانٍ قوميٍ تركيٍ، بل كانت خلافةً إسلاميةً جامعةً، امتدادًا شرعيًا وتاريخيًا للخلافات الراشدة والأموية والعباسية. ضمّت تحت رايتها شعوبًا متنوّعةً من العرب والبربر والأكراد والترك والألبان والبوشناق والسودانيين والصوماليين، وغيرهم من أمم دار الإسلام، ووحّدتهم عقيدةٌ واحدةٌ ورايةٌ واحدةٌ، هي راية الإسلام.

خلافةٌ عابرةٌ للقوميات

في بنيتها السياسية والعسكرية، كانت الدولة العثمانية دولةً عابرةً للقوميات بامتياز. لم تكن السلطة محصورةً في يد العرق التركي، بل كان منصب “الصدر الأعظم”، وهو أعلى منصبٍ بعد السلطان، يتولاه رجالٌ من شتى الأعراق: من صربيا، واليونان، والألبان، والشام، ومصر. لم يحكم هؤلاء باسم العِرق، بل باسم الإسلام. وقد كانت الخزينة العثمانية تُملأ من أطراف العالم الإسلامي، وجيشها كان يُشكّل من أبناء جميع الأمم التي بايعت الخلافة، لا من عنصرٍ تركيٍ واحدٍ. هذا التنوع والشمولية كانا من أبرز سمات الدولة العثمانية، مما أكسبها شرعيةً واسعةً في العالم الإسلامي.

قطيعةٌ مع الماضي

على النقيض، تُشكّل الجمهورية التركية الحديثة، التي أعلنها مصطفى كمال أتاتورك سنة 1924، قطيعةً تامةً مع الدولة العثمانية، لا من حيث الشكل فقط، بل من حيث الجوهر والمبادئ.

خلق أتاتورك هذه الدولة من العدم، من بقايا شعوبٍ متناثرةٍ: من الأتراك السلاجقة في الأناضول، ومن شتات مسلمي البلقان الذين طردتهم صربيا واليونان وبلغاريا وفروا إلى الدولة العثمانية، ومن السكان الأصليين من الروم الذين أسلموا أو تتركوا في المدن الكبرى وسواحل بحر إيجة. بل حتى أتاتورك نفسه، مؤسس هذه الدولة، لم يكن من أصولٍ تركيةٍ خالصةٍ، بل يُرجَّح أنه من أصولٍ أرناؤوطيةٍ (ألبانيةٍ) أو يهوديةٍ دنميةٍ من سالونيك، ما يزيد من رمزية انقطاعه الجذري عن التاريخ العثماني والإسلامي.

“تركيا الكمالية” كانت مشروعًا علمانيًا متطرّفًا، أُقيم على أنقاض الخلافة، وهدفه الأساسي محو الهوية الإسلامية واستبدالها بهويةٍ قوميةٍ تركيةٍ غربيةٍ. فاستُبدلت الشريعة الإسلامية بالقانون الفرنسي، وحُرّم الحجاب، وغُيّر الحرف العربي إلى الحرف اللاتيني، ونُبذت اللغة العثمانية الغنية بالمفردات العربية والفارسية لصالح لغةٍ مصطنعةٍ، أُفرغت من مفردات التراث الإسلامي. كانت هذه الإجراءات بمثابة إعلانٍ صريحٍ عن القطيعة مع الماضي الإسلامي للدولة، وتوجهٍ حاسمٍ نحو الغرب.

خلق أتاتورك هذه الدولة من العدم، من بقايا شعوبٍ متناثرةٍ: من الأتراك السلاجقة في الأناضول، ومن شتات مسلمي البلقان الذين فروّا إلى الدولة العثمانية، ومن السكان الأصليين من الروم

براغماتيةٌ سياسيةٌ لا إيمانٌ

مع تحوّلات القرن الحادي والعشرين، وظهور تياراتٍ قوميةٍ محافظةٍ في الداخل التركي، قامت الدولة التركية بإعادة توظيف الإرث العثماني — لا إيمانًا به، بل استغلالًا سياسيًا واقتصاديًا. فتحت عباءة السلطنة، تسعى تركيا اليوم لتحقيق مصالح توسّعيةٍ في آسيا والبلقان والعالم العربي، فتُروّج لصورةٍ عثمانيةٍ مزيفةٍ، لا تستند إلى المضمون الإسلامي الذي قامت عليه الخلافة، بل إلى تمجيد العِرق التركي وماضيه الإمبراطوري.

رأينا كيف يُستدعى التاريخ العثماني في الإعلام الرسمي التركي، لا لأجل بعث الخلافة، بل لإضفاء شرعيةٍ على التوسع في ليبيا وسوريا وأذربيجان. هذا التوظيف الانتقائي للتاريخ يكشف عن براغماتيةٍ سياسيةٍ تهدف إلى تحقيق مكاسب جيوسياسية، دون الالتزام بالمبادئ التي قامت عليها الدولة العثمانية.

تركيا اليوم تُسوّق نفسها كوارثةٍ للعثمانيين، بينما هي في الحقيقة دولةٌ قوميةٌ براغماتيةٌ، تستعمل الرموز الإسلامية دون أن تعود فعليًا إلى الشريعة الإسلامية. وقد تخلّت عن النموذج الكمالي المتوحّش، الذي حظر الدين تمامًا، وانتقلت إلى العلمانية الغربية الناعمة، التي لا تمنع الصلاة والصوم والحجاب كعباداتٍ، لكنها تقف موقفًا صريحًا مناهضًا لتطبيق الشريعة الإسلامية كنظام حياةٍ، كما هو الحال في إنجلترا وألمانيا وغيرها من دُول الغرب، حيث يُسمح بالدين كطقوسٍ شخصيةٍ، وتُحارَب قوانينه في الاقتصاد والسياسة والمجتمع.

كثيرًا ما يُقدَّم فتح مسجد آيا صوفيا مثالًا على عودة تركيا إلى هويتها الإسلامية، لكن هذا الفتح، رغم رمزيته، لا يعني شيئًا في ميزان الحكم الإسلامي. فالإسلام عند الدولة التركية اليوم يُسمح له أن يكون دينًا روحيًا فرديًا، له مكانه في المساجد والطقوس والعمائم — لكنّه ممنوعٌ من أن يكون مشروعًا حاكمًا، أو نظامًا شاملًا يدير شؤون الحياة. الإسلام الذي يصوغ الاقتصاد، ويضبط الإعلام، ويهندس السياسة، ويقاوم التغوّل الرأسمالي — هذا الإسلام هو العدو الذي يُحارب في نظر الدولة الحديثة، لا فرق في ذلك بين تركيا وإنجلترا وألمانيا.

لقد انتقلت تركيا من العلمانية الكمالية المتوحّشة، التي كانت ترى في الصلاة جريمةً، إلى العلمانية الغربية الناعمة، التي تتسامح مع العبادات ما دامت محصورةً في الزوايا، لكنها تحارب الإسلام إذا خرج ليحكم أو يدير شؤون المجتمع.

لم يأت الإسلام ليكون طقوسًا داخليةً، بل أنزل ليُخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده، ومن جَور القوانين إلى عدل الشريعة، ومن ضيق الدنيا إلى سَعَة الإسلام. وما تفعله تركيا اليوم، هو تقييد الإسلام في العبادات، وتدجين المسلمين عبر طقوسٍ رمزيةٍ، تُخدّر الوعي وتُسكّن المطالب الكبرى، بينما تبقى المنظومة الحاكمة علمانيةً خالصةً، لا تخضع في قوانينها وتشريعاتها واقتصادها لأي مرجعيةٍ قرآنيةٍ.

تناقضٌ مع الخطاب العثماني

في المجال العسكري والسياسي، حافظت الجمهورية التركية على انتمائها لحلف شمال الأطلسي (الناتو) منذ عام 1952، وما تزال إحدى ركائزه الكبرى. فهي الدولة الثانية بعد أمريكا في حجم قواتها العسكرية داخله، والثامنة في تمويله. وشاركت طوال السبعين عامًا الماضية في عمليات الحلف، التي استهدفت العالم الإسلامي، من أفغانستان إلى العراق. بل ويُذكر أن قاعدة إنجرليك الجوية الواقعة جنوب تركيا قد استُخدمت مرارًا لانطلاق الطائرات التي قصفت بغداد وساهمت في زعزعة أمن المشرق العربي.

وإن كانت تركيا قد أعلنت دعمها للقضية الفلسطينية إعلاميًا، إلا أن العلاقات الرسمية مع الكيان الصهيوني تسبق ذلك بكثيرٍ، فقد كانت تركبا من أوائل الدول التي اعترفت بإسرائيل عام 1949، ولم تتأخر في إبرام اتفاقياتٍ أمنيةٍ وعسكريةٍ معها خلال تسعينيات القرن العشرين. واليوم، تُعدّ من أبرز مشتري السلاح من الكيان، بل وتُجري مناوراتٍ عسكريةٍ بحريةٍ مشتركةٍ مع الأسطولين الإسرائيلي والأمريكي. هذه العلاقات العميقة مع الغرب والكيان الصهيوني تُلقي بظلالٍ من الشك على مدى صدق الخطاب التركي الذي يدّعي استعادة أمجاد الخلافة.

أتاتورك وفلسطين…حرب وخيانات

تُثير سيرة مصطفى كمال أتاتورك، مؤسس الجمهورية التركية الحديثة، جدلاً واسعاً، خاصةً فيما يتعلق بدوره في جبهة فلسطين خلال الحرب العالمية الأولى. فبعد أن أظهر شجاعةً لافتةً في معركة غاليبولي، حيث قاد القطاع الجنوبي وحقق انتصاراً كبيراً على الحلفاء، أُرسل أتاتورك لاحقاً إلى فلسطين كقائد لجيش يلدرم والجيش السابع العثماني، متمركزاً في نابلس.

تساؤلات حول سقوط القدس:

رغم سقوط القدس المدوي في يد القوات البريطانية، لم يتحرك أتاتورك لإنقاذها أو تحريرها، على الرغم من تواجده في نابلس بجيش عثماني كبير، والمسافة الفاصلة بين المدينتين لا تتجاوز 50 كيلومتراً. اللافت أن القوات البريطانية توقفت عند القدس لحوالي تسعة أشهر، وهي فترة كافية لإعداد الخطط وتجهيز الجيوش لتحرير المدينة، إلا أن ذلك لم يحدث، وبقي أتاتورك متوقفاً طوال هذه المدة.

دعوة الفلسطينيين لعدم المقاومة:

تشير بعض الروايات إلى أن أتاتورك، بصفته قائد الجيش العثماني في فلسطين، دعا الفلسطينيين إلى عدم المقاومة، وحثهم على التجمع في نابلس لترتيب الجبهة والعودة لتحرير القدس. هذه الدعوة فُسّرت لاحقاً بأنها كانت في إطار

تخدير الفلسطينيين وتثبيط عزيمتهم.

الانسحاب المفاجئ من نابلس:

في سبتمبر 1918، ومع تقدم الجيوش البريطانية نحو نابلس وبدء معركتين في نفس اليوم بنابلس ومجدو، انسحب مصطفى كمال أتاتورك بشكل مفاجئ وسريع من موقعه الحصين شرق نابلس الوعرة. تم هذا الانسحاب في نفس الليلة التي دخل فيها الجنرال أللنبي، ليلة 19 سبتمبر 1918، متجهاً من نابلس إلى شرق الأردن فدمشق فحلب فجبال طوروس. هذا الانسحاب السريع، الذي وصف بـ

سرعة البرق، أثار تساؤلات عديدة، خاصة وأن الجيش العثماني في مجدو صمد حتى 1 أكتوبر 1918، مما يشير إلى أن الانسحاب من نابلس كان قراراً فردياً ومفاجئاً.

يشير بعض المؤرخين والضباط الأتراك المشاركين في تلك الأحداث إلى أن هذا الانسحاب المفاجئ قد حرم الجيش التركي من

ذراعي الاستناد، وأدى إلى وقوع الجيش بيد الأعداء، مما تسبب في كارثة عسكرية لا تُصدق. هذه الأحداث تضع علامات استفهام كبيرة حول دور أتاتورك في جبهة فلسطين، وتُلقي بظلال من الشك على دوافع قراراته العسكرية في تلك الفترة الحرجة.

 

تركيا اليوم إذن، ليست دولةً إسلاميةً، بل دولةٌ قوميةٌ علمانيةٌ، تُجيد اللعب بورقة الدين عند الحاجة، لكنها لم تتخلّ عن تبعيّتها الغربية. ولم تكن يومًا وريثةً حقيقيةً للدولة العثمانية الإسلامية، إلا في الجغرافيا والمباني القديمة. أما في المبادئ والهوية والولاء، فقد اختارت أن تكون جزءًا من المشروع الغربي، مثلها مثل باقي دول العالم الإسلامي المقسم بين الدول القومية العلمانية العربية وغير العربية. هناك فارق جوهري بين الخطاب السياسي التركي والواقع، يُبيّن كيف يُستخدم التاريخ كأداةٍ لتحقيق أهدافٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ، بعيدًا عن جوهر الإرث العثماني الإسلامي.
al-Post
العلامات

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تفعيل التنبيهات نعم كلا