تُنتج الشركاتُ العالميةُ سنويًّا ملياراتِ القطَعِ من الملابس، أكثر بكثيرٍ ممّا يستهلكه البشرُ على هذا الكوكبِ المُثقَلِ بالأزماتِ والمشاكل. لكن، مَن منّا طرح مرّةً على نفسه هذا السؤال: ماذا يحدث عندما يُصبحُ إنتاجُ الألبسة أسرعَ من الطلبِ عليها؟ وأين تذهبُ كلُّ هذه الملابس الزائدةُ عن الحاجة؟ تُخفي صناعةُ الأزياء اليوم، خلفَ واجهاتِ المتاجرِ البرّاقةِ وعروضِ التخفيضاتِ الجذّابة، قصةً أكثرَ تعقيدًا تتسابقُ فيها الشركاتُ على إنتاجِ كميّاتٍ هائلةٍ من الملابسِ بتكلفةٍ منخفضةٍ وسرعةٍ محمومة، في ما يُعرَف بظاهرة “الموضة السريعة” Fast Fashion. وباتت الشركاتُ تطرحُ مجموعاتٍ جديدةً كلَّ بضعةِ أسابيع، بدلًا من بدايةِ كلِّ موسم، في نموذجٍ مُفرِطٍ في الاستهلاكيّة، قائمٍ على دورةٍ لا تنتهي من الإنتاجِ والشراءِ والبيعِ والإتلاف. أين تذهب كلُّ هذه الملابس؟ في الواقع، تقول الإحصاءاتُ إنَّ نحوَ ثلثِ ما يُنتَج لا يُباعُ أبدًا، وإنّ بعضَ الشركاتِ تعمدُ إلى تخزينهِ مؤقّتًا ومن ثمَّ بيعهِ إلى الأسواقِ الثانوية، فيما بعضها الآخرُ يحرقُه أو يطمُرُه لتجنّبِ بيعهِ بأسعارٍ منخفضةٍ “تُضعِف” من قيمةِ العلامةِ التجارية. ففي عام 2024، بلغت كميّاتُ النفاياتِ من الملابسِ التي يتخلّصُ منها العالم قرابة 120 مليون طنٍّ متري، ومن المتوقّع أن تتجاوزَ هذه الكمية 150 مليون طنٍّ سنويًّا خلال السنواتِ القادمة. أمّا القيمةُ الاقتصاديةُ الخامُّ للمنسوجاتِ غيرِ المسترجَعة (أي التي لا يُعاد تدويرُها) فتُقدَّر بنحو 150 مليار دولارٍ أميركيّ سنويًّا. في عام 2018، اعترفت شركةُ بوربري بحرقِ ما قيمتُه أكثرُ من 28 مليون جنيهٍ إسترليني (أي نحو 37 مليون دولار) من الملابسِ والأكسسواراتِ والعطورِ الجديدةِ غيرِ المباعة، للحفاظِ على “صورتها الفاخرة”، بحسب مقالةٍ لــ “بي بي سي نيوز”. ظهرَ هذا الاعترافُ في تقريرِ الشركةِ السنويّ، وتبيّنَ أنها ليست المرّة الأولى، وأنّ الشركةَ معتادةٌ على اتخاذِ هذا الإجراء. أثار هذا الخبر ردودَ فعلٍ غاضبةً من جماعاتِ حمايةِ البيئةِ والمساهمين والجمهور، في وقتٍ تُتَّهَمُ فيه صناعةُ الأزياء أصلًا بالتلويثِ والإفراطِ في الإنتاج. يُظهِرُ مثلُ هذا الإجراءِ استخفافًا بالاستدامة، وصَفَتْهُ منظمةُ “السلام الأخضر” ومنظماتٌ أخرى بأنّه “رمزٌ لكلّ ما هو خاطئٌ في صناعةِ الأزياء”. في سبتمبر 2018، وعقبَ موجةِ الغضب تلك، أعلنت بوربري أنّها ستتوقّفُ فورًا عن إتلافِ البضائعِ غيرِ المباعة، كما تعهّدت بإعادةِ استخدامِ أو إصلاحِ أو إعادة تدويرِ المنتجاتِ غيرِ المباعة أو التبرّعِ بها، بدلًا من حرقها. تقول الإحصاءاتُ إنَّ نحوَ ثلثِ ما يُنتَج لا يُباعُ أبدًا، وإنّ بعضَ الشركاتِ تعمدُ إلى تخزينهِ مؤقّتًا ومن ثمَّ بيعهِ إلى الأسواقِ الثانوية، فيما بعضها الآخرُ يحرقُه أو يطمُرُه لتجنّبِ بيعهِ بأسعارٍ منخفضةٍ “تُضعِف” من قيمةِ العلامةِ التجارية تحاول بعضُ الشركاتِ الكبرى اليومَ تلميعَ صورتِها من خلالِ إطلاقِ مبادراتٍ لإعادة تدويرِ الملابسِ القديمة. لكن الدراساتِ تشيرُ إلى أنّ أقلّ من 1% فقط من الألبسةِ المستعملةِ يُعادُ تدويرُها فعلًا. أمّا الباقي فيُنقَلُ بعضُهُ إلى دولٍ فقيرةٍ في إفريقيا وآسيا حيث يُباعُ كملابسَ مستعملة، أو يُرمى في مكبّاتٍ ضخمةٍ تُلوّثُ التربةَ والينابيع والأنهار والهواء. ما الحلّ؟ إنّ تغييرَ هذا الواقع يبدأُ من المستهلكِ نفسه. وحريٌّ بنا قبل شراءِ أيّ قطعةِ ملابسٍ أن نطرحَ مجموعةً من الأسئلة:هل أحتاجُها فعلًا؟هل سأحافظُ عليها؟وماذا أفعلُ بالملابسِ المُعلّقةِ في خزانتِي منذُ سنوات؟هل كانت رحلةُ هذه الملابسِ قبلَ أن تحطَّ في خزائنِنا مُنصِفةً للأيدي التي صنعتها؟ استغلال الطبقة العاملة لقد وثّقت دراساتٌ كثيرةٌ انتهاكًا واضحًا لحقوقِ العاملين في صناعةِ الألبسة، حتى تلك التي تحملُ علاماتٍ تجاريةً عالمية. ففي كمبوديا مثلًا، أشارت التقاريرُ إلى أنّ العمالَ يحصلونَ على أجورٍ ضئيلةٍ ويعملونَ ساعاتٍ طويلةً وبشروطٍ صعبة. وفي بنغلاديش وغيرها، اشتكى العمالُ من التأخيرِ في دفعِ الأجور، إن دُفِعت، ومن حرمانِهم من حقوقِهم، لأنّ شركاتِ الألبسةِ تعتمدُ على خفضِ التكلفةِ لزيادةِ أرباحِها، والحلقةُ الأضعفُ هي العمّال. وبقيّةُ القصةِ معروفة: مُورّدونَ يتنافسون لتقديمِ أرخصِ الأسعارِ باقتطاعِ ما يستطيعونَ من أجورِ اليدِ العاملة في ظروفِ عملٍ غيرِ إنسانيةٍ في أغلبِ الأحيان. أمّا الأضرارُ على البيئة، فحدِّثْ ولا حرج. مياهٌ مهدورة، ومواردُ منهوبة، وطاقةٌ مستنزفة، وانبعاثاتٌ كربونية، وبوليستر، وأليافٌ بلاستيكيةٌ ملوِّثة. إنه مشهدٌ فحسبُ في قصةِ صناعةِ الموضةِ القاتلة. أمّا عن تسليعِ الأجسادِ التي ترتديها في زمنِ الصورةِ والسوشال ميديا، فذلك حديثٌ آخر… طويلٌ وحزين.
منذ أيّام، انشغل الرأيُ العامّ الصيداوي بموضوع تعديل إيجارات المحال في “الحِسبة”. الموضوع الذي كان سببًا لنقاشٍ موتور و”هابط المستوى” داخل المجلس البلدي، انتهى إلى قراراتٍ “ضبابيّة” يُفسِّرها كلُّ طرفٍ على ليلاه في الجهة التي عارضت فكرةَ تمديد العقود لـ 20 و30 سنة، اعتبر المعنيّون في المجلس البلدي أنّ القرار لم يُقَرّ، وسيُعاد بحثه في جلسة جديدة. أمّا الطرف المتحمّس لقطف ثمار هذا الطرح، فاعتبر أنّ القرار قد اتُّخذ، وإن لم يُعلَن إقراره رسميًّا خلال الجلسة، وأنّ سريانه لا يحتاج أكثر من توقيع الرئيس، بعدما نال حقّه من تصويت الأعضاء—وهو أمر قد يحصل في أيّ وقت. “على الطريقة الصيداويّة”، خرج طرفا “مجلس الغِلمان البلدي” الحالي ليُخبرا الناس أنّه حقّق ما هو لصالح المصلحة العامّة ولتحصيل حقوق الشعب. بحسب مصادر مُطّلعة لصحيفة “البوست”، فإنّ كلَّ ما تحقّق حتى الآن لا يعدو كونه “كلامًا فارغًا” غير نهائيّ، يندرج ضمن لعبة شدّ الحبال بين طرفَي النقيض داخل البلديّة حيال هذا الملف، كما أنّه موضوع تجاذب يتمّ توظيفه لأغراض سياسيّة قبيل الانتخابات النيابيّة، والوجاهة. فكلُّ ما قيل عن التوصّل إلى قرار يقضي بتمديد عقود إيجار المحال في السوق المركزي للخضار والفاكهة—”الحُسبة”—سيصطدم بواقعٍ قانونيّ واضح: لا قرارًا بلديًّا ولا اتفاقًا محلّيًا بين “زعماء أزقّة” يمكن أن يتقدّم على قانونٍ نافذٍ أقرّه مجلس الوزراء فكلُّ ما قيل عن التوصّل إلى قرار يقضي بتمديد عقود إيجار المحال في السوق المركزي للخضار والفاكهة—”الحُسبة”—سيصطدم بواقعٍ قانونيّ واضح: لا قرارًا بلديًّا ولا اتفاقًا محلّيًا بين “زعماء أزقّة” يمكن أن يتقدّم على قانونٍ نافذٍ أقرّه مجلس النواب بخصوص قضيّة بعينها. وسيسأل المحافظُ البلديّة “على أيّ أساس قانوني استندتم في مقاربتكم وأرقامكم؟” الجواب: لا يوجد. ويبدو أنّ رئيس البلدية مصطفى حجازي على علمٍ تامٍّ بهذا الواقع، لكنه تصرّف بمنطق تقاذُف كرة النار بعيدًا عن ملعبه؛ أي إنّه أظهر عدم معارضة المجلس البلدي لتمديد العقود لفترةٍ طويلة تصل إلى 20 عامًا كما يُشاع، مع علمه “المبطّن” بأنّ الموضوع لن يمرّ حين يُحال إلى وزارة الداخليّة التي سترده بالرفض، فيتجمّد لاحقًا داخل أروقة محافظة الجنوب—من دون أن يتحمّل هو شخصيًّا أو المجلس مسؤوليّة الأمر. وبمعنى أبسط: التجّار سينامون على حرير، معتقدين أنّ الأمر قد حُلّ، بينما سينصدمون بالواقع خلال فترة قصيرة. لن يتمّ الاستثناء لأيٍّ منكم مهما كانت “الخلوات” التي دفعتموها. سقف المهلة لن يتجاوز 7 سنوات، وما يقرّه القانون الحالي سينفَّذ عليكم. أمّا أولئك اللاهثون وراء طباعة صورهم العملاقة وتعليقها على الحيطان الوسخة لـ”الحِسبة”، فتمهّلوا قليلًا. اكتفوا بما نُشر لكم من صور بوضعيات مضحكة على مواقع ومجموعات واتساب “خفيفة”، لأنّكم لن تقطفوا إلا “سوادة الوجه” وأوهامًا منفوخة. ما هكذا تُورَد الإبل يا مصطفى، ويا عامر، ويا أبو سلطان، ويا عبد الجواد، و…
في سابقةٍ من نوعها، وجّه حزبُ الله ظهر اليوم «كتابًا مفتوحًا» إلى الرؤساء الثلاثة وإلى الشعب اللبناني، في خطوةٍ أراد منها تثبيت رؤيته لـ«السيادة والأمن الوطني» في مرحلة ما بعد وقف إطلاق النار المعلَن مع إسرائيل أواخر العام الماضي. لكن يبدو أنّ الكتاب كان موجَّهًا إلى إسرائيل، وكأنّه البيان رقم (1) إذ أعلن انطلاق وجهٍ جديدٍ من أوجه الحرب في جولةٍ جديدةٍ لا يعلم أحدٌ إلى ماذا ستُفضي. ففي تطوّرٍ لافت لــ“ستاتيكو” الأحداث ويوميّاتها منذ «وقف إطلاق النار»، وجّه الجيشُ الإسرائيلي إنذارًا لعددٍ من القرى الجنوبية بوجوب مغادرتها، وقامت المقاتلاتُ الإسرائيلية بضرب عددٍ من المواقع في هذه البلدات تحت ذريعة أنّها مراكزُ لحزب الله، ما أدّى إلى حالة نزوحٍ لسكان المناطق المستهدفة باتجاه مدنٍ كصور وصيدا وبيروت. البيانُ الذي جاء بلغةٍ رسميّة هادئة، حمل في مضمونه تحذيرًا سياسيًّا عالي السقف، إذ رفض بشكلٍ قاطعٍ أيَّ مسعى داخلي أو خارجي لإعادة التفاوض مع إسرائيل، أو لبحث مسألة «حصرية السلاح بيد الدولة» خارج التوافق الوطني. إعادة تفسير القرار 1701 اللافت أنّ الحزب استند في مطالعته إلى القرار الدولي 1701، الذي طالما اعتبره مجحفًا عام 2006، ليجعله اليوم درعًا قانونيًا لشرعية المقاومة. فبحسب قراءته الجديدة، ينحصر نطاقُ القرار جنوبَ نهر الليطاني، ولا يتضمّن أيَّ نصٍّ يُلزِم بنزع سلاح «المقاومة» في باقي المناطق اللبنانية. ومن هذا الباب، حمّل الحزبُ إسرائيل مسؤولية خرق وقف النار، متهمًا إيّاها بابتزاز الدولة اللبنانية ومحاولة جرِّها إلى مفاوضات جديدة تخدم مصالحها. تحذيرٌ مبطَّن في سطورِ البيان، بدا حزبُ الله وكأنّه يوجّه توبيخًا مبطّنًا للحكومة برئاسة نواف سلام، معتبرًا أنّ حديثها عن «حصرية السلاح» شكّل «عربونَ حسنِ نيّةٍ» لإسرائيل و«خطيئةً سياسية». شدّد الحزب على أنّ أيَّ نقاشٍ في ملفّ السلاح يجب أن يتم ضمن «استراتيجية دفاع وطنية»، لا تحت ضغط خارجي أو ابتزاز سياسي، مُكرِّسًا بذلك معادلةً قديمة بثوبٍ جديد: «الجيش والشعب والمقاومة» كركائز لحماية السيادة. ورفض البيان أيَّ مفاوضات سياسية مع إسرائيل، واعتبرها «فخًّا» يقود إلى الإذعان. وفي الوقت نفسه، يسعى الحزب إلى تحويل موقعه العسكري إلى مظلةٍ وطنية جامعة، عبر التأكيد أن «العدو لا يستهدف حزب الله وحده، بل لبنان كلّه». بهذا الخطاب، يسحب الحزب النقاش من كونه ملفًّا داخليًّا إلى كونه قضية دفاعٍ عن الكيان اللبناني برمّته، محاولًا تحييد الانقسامات السياسية عبر لغة سيادية جامعة. نضجٌ تكتيكي أم تثبيتٌ للواقع؟ يرى متابعون البيانَ مناورةً سياسيةً، تهدف إلى تحصين موقع الحزب أمام حكومة تميل إلى التوجّه الغربي، وإلى قطع الطريق أمام أيّ مسعى أميركي – أممي لإعادة فتح ملفّ نزع السلاح. في المقابل، لا يخلو البيان من رسائل طمأنة للداخل والخارج، إذ يتحدّث عن الالتزام بوقف النار والحرص على الاستقرار، لكنه يربط كلّ ذلك بشرطٍ أساسي: احترام المقاومة و«حقّها المشروع في الدفاع». بين لهجة الاعتدال الدبلوماسي ومضمون التحدّي الاستراتيجي، يبدو حزبُ الله وكأنه يقول للدولة اللبنانية والعالم: «لن نبدأ حربًا، لكننا لن نتنازل عن سلاحنا». بهذا الموقف، يحاول حزبُ الله تثبيت معادلة:«الهدوء ممكن… لكن بشروط المقاومة» معادلةٌ يبدو أنّها لم تَعُد صالحةً، والتصاعد التدريجي للأعمال القتالية من العدو الإسرائيلي ستثبت ذلك.