لِعُقودٍ طويلة، رسَّختِ الكتبُ المدرسيةُ في شتّى دولِ العالم صورةَ كريستوفر كولومبوس كرحّالةٍ جريءٍ منحتهُ شجاعتُهُ شرفَ “اكتشافِ العالمِ الجديد”. وعلى هذا الأساس، احتُفِيَ به كبطلٍ قوميٍّ في الولايات المتحدة وغيرها من بلدانِ الأمريكيتين. لكنْ مَن يتعمّقْ في دراسةِ التاريخِ ووثائقهِ، سيجدْ أنَّ الحقيقةَ أكثرُ تعقيدًا وقَتامَة، وأنَّ ثمّةَ جانبًا مُظلِمًا لرحلاتِه الاستكشافيةِ التي غيَّرت وجهَ العالم فهل كان كولومبوس مُكتشِفًا شجاعًا حقًّا، أم غازيًا طمّاعًا؟ وكيف تعاملَ هذا الرحّالةُ الإيطاليُّ معَ السُّكانِ الأصليين للمناطقِ التي وَطِئتْها قدماه؟ وكيف أسهمتْ رحلاتُهُ في تشكيلِ العالمِ الحديثِ بكلِّ ما يحملُهُ من إرثٍ دمويٍّ؟ صفقةٌ مُربحةٌ بعد الرفض وُلد كريستوفر كولومبوس في مدينةِ جَنْوةَ الإيطالية عامَ 1451، ولا يُعرَف الكثيرُ عن سنواتِ حياتهِ الأولى. ما يذكرهُ المؤرخون أنّهُ عملَ بحّارًا وتاجرًا قبل أن يصبحَ مهووسًا بفكرةِ اكتشافِ طريقٍ بحريٍّ غربيٍّ يُؤدّي إلى الصين والهند وجزرِ آسيا الزاخرةِ بـ”الذهبِ والتوابل”. في ذلك الوقت، لم يكن الأوروبيون يعرفون طريقًا بحريًا مباشرًا إلى آسيا، إذ كان الطريقُ الوحيدُ يمرُّ عبر مصر والبحر الأحمر، وكان يخضعُ هو وغيره من الطرق البرّية لسيطرةِ الإمبراطوريةِ العثمانية. وعلى عكسِ ما تُروّجُ لهُ الأساطيرُ، كان غالبيةُ المتعلّمين في عصرِ كولومبوس يُدرِكون أنَّ الأرضَ كروية. لم يُرِدْ كولومبوس إثباتَ كرويةِ الأرض، بل كان يريدُ إثباتَ إمكانيةِ الإبحارِ حولها، وهي الرحلةُ التي قلّل من مسافتها الحقيقية. فقد كان يظنُّ، كغيرهِ في ذلك الزمن، أنّ حجمَ الأرضِ أصغرُ بكثيرٍ مما هو عليه في الواقع، ولم يكن على درايةٍ بوجودِ المحيطِ الهادئ. وعلى مدى قرابةِ عشرِ سنوات، حاول كولومبوس إقناعَ ملوكِ أوروبا بتمويلِ رحلتهِ المُكلفة. فقد حاول في عام 1484 الحصولَ على دعمِ ملكِ البرتغال يوحنا الثاني، لكنَّ خبراءَ الملك ارتأوا أنَّه لم يكن يُدرِك المسافةَ الهائلةَ التي سيتعيّن عليه الإبحارُ فيها. وبعد ثلاثِ سنوات، طلب مساعدةَ ملكِ إنجلترا هنري السابع وملكِ فرنسا شارل الثامن، لكن دون جدوى. كما قوبل بالرفض من قبلِ ملكِ إسبانيا فرديناند والملكة إيزابيلا عامَ 1486، ولكنهما عادا ووافقا على تمويلِ رحلتهِ الاستكشافية عامَ 1492. نصَّ الاتفاقُ الذي أبرمهُ كولومبوس مع فرديناند وإيزابيلا على منحهِ لقبي “الأدميرال البحري” و”الحاكم العام” لأي أرضٍ يكتشفها. كما نصَّ على أنَّ لهُ الاحتفاظَ بنسبةِ عشرةٍ في المئة من أيِّ ثرواتٍ يعثرُ عليها في المناطقِ الجديدة، سواء كانت ذهبًا أم فضّةً أم أحجارًا كريمةً أم لآلئ. ولعلَّهُ كانتْ لكولومبوس نوايا نبيلة تتعلّقُ باكتشافِ عالَمٍ جديد، لكنَّ الاتفاقيةَ التي أبرمها تدلِّل على أنَّه كان أيضًا رجلَ أعمالٍ هدفُهُ تحقيقُ الربحِ وجمعُ الثروات. في الثالثِ من أغسطس عامَ 1492، أبحرت بعثةُ كولومبوس التي ضمّت ثلاثَ سفنٍ صغيرة من ميناء بالوس الإسباني. وفي 12 أكتوبر، وصل إلى إحدى جزرِ البهاما، على الأرجحِ جزيرة سانْ سالفادور. وفي وقتٍ لاحقٍ من الشهر نفسه، تمكّن من رصدِ جزيرةِ كوبا التي اعتقد أنها برُّ الصين. وفي ديسمبر، وصلت بعثتهُ إلى جزيرةِ هيسبانيولا في بحر الكاريبي (هايتي وجمهورية الدومينيكان حاليًا)، التي ظنّ أنها اليابان، وأنشأ هناك مستعمرةً صغيرة مكوّنةً من 39 من رجاله. عاد الرحّالةُ إلى إسبانيا في مارس عامَ 1493، واستُقبِل استقبالَ الأبطال في البلاط الإسباني. قام كولومبوس بثلاثِ رحلاتٍ استكشافيةٍ أخرى إلى “العالمِ الجديد”، حيث بلغ العديدَ من جزرِ الكاريبي وخليج المكسيك وأمريكا الجنوبية والوسطى، لكنه لم يصل إلى أمريكا الشمالية كما يظن البعض. لم يُحقِّق كولومبوس هدفهُ الرئيس، وهو اكتشافُ طريقٍ يصلُ أوروبا بمدنِ آسيا العظيمة، وإنْ كان يُصرُّ في خطاباتهِ إلى ملكِ إسبانيا على أنه يستطيعُ الوصولَ إليها إذا واصل الإبحار عبرَ المحيطِ الأطلسي. توفي الرحّالةُ الشهيرُ عامَ 1506 في إسبانيا قبل أن يُدرِك نطاقَ ما حقّقه. فقد اكتشف عالمًا جديدًا استعمرهُ الأوروبيون واستغلّوا ثرواتِه، تلك الثروات التي ساعدتْ على جعلِ إسبانيا الدولة الأغنى والأكثر نفوذًا في العالم خلالَ القرن التالي. لكنه أيضًا فتح البابَ لقرونٍ من الاستعمار الوحشيِّ وتجارةِ العبيدِ عبر المحيط الأطلسي، فضلًا عن موتِ الملايين من سكانِ أمريكا الأصليين. تشير المراجعُ التاريخية إلى العديد من الجرائم التي ارتكبها كولومبوس ورجاله في حقِّ السكانِ الأصليين، من اغتصابِ النساء والخطفِ والاستعباد إرثٌ مُدمّر… الوجهُ المُظلِم للرحّالة خلال رحلته الأولى، أمضى كولومبوس شهورًا في البحث عن الذهب وغيره من الكنوز التي وعد بها رعاته الإسبان، لكنه لم ينجح في العثور على الكثير مما يستحقُّ الذكر. عاد إلى إسبانيا في يناير عامَ 1493، تاركًا وراءه بضعةَ عشراتٍ من رجاله في جزيرة هيسبانيولا. دوَّن كولومبوس في مذكراتهِ تفاصيلَ رحلتهِ الأولى، متحدثًا عن الكثير من الأمور، من الحيوانات والطيور إلى أنماطِ الطقس ومزاجِ رجاله. لكنَّ الصادمَ أنه سجّل انطباعاته الأولى عن السكانِ المحليين المسالمين، وأخذَ يُسوِّقُ الأسباب التي جعلتْه يرى أنه يجبُ استعبادُهم. وحين عاد كولومبوس بعد ستة أشهر إلى الأمريكيتين، وجد أنَّ مستعمرةَ هيسبانيولا قد دُمِّرت، فترك شقيقَيْهِ بارتولوميو ودييغو لإعادة بنائها إلى جانب عددٍ من طاقمِ سفنِه ومئاتٍ من السُّكانِ الأصليين الذين استعبدهم. ثم توجّه غربًا يُواصِلُ بحثهُ غير المثمر عن الذهب. وبَدَلًا من الذهبِ والثرواتِ المادية التي وعد بها حكامَ إسبانيا، أرسل حوالي 500 من الأشخاص “الهنود” الذين استعبدهم إلى الملكة إيزابيلا. غضبت الملكةُ بشدة لأنها كانتْ تعتبر هؤلاء الأشخاص رعايا للتاج الإسباني ممن يمكن إقناعهم باعتناق الديانةِ المسيحية، وعنّفت كولومبوس لتجاهلهِ أوامرها بحسن معاملتهم، وأمرت بتحرير الأسرى وإعادتهم إلى موطنهم. وفي عامَ 1498، أبحر كولومبوس غربًا عبر المحيطِ الأطلسي للمرة الثالثة. زار ترينيداد وبَرَّ أمريكا الجنوبية قبل أنْ يعود إلى مستعمرةِ جزيرة هيسبانيولا ليجد أنَّ المستوطنين الإسبان نفّذوا انقلابًا دمويًا ضدَّ سوء الإدارةِ والوحشيةِ التي اتسم بها حكمُهُ وحكمُ شقيقيه للجزيرة. بلغت الأوضاعُ درجةً شديدةً من السوء دفعت السلطاتِ الإسبانية إلى إرسال حاكمٍ جديد للمستعمرة. إبادة الشعوب كان السكانُ الأصليون من “التاينو” يُجبرون على البحثِ عن الذهب والعمل في المزارع، وفي غضونِ ستين عامًا من هبوطِ كولومبوس على الجزيرة، تعرّض شعبُ التاينو للإبادة، ولم يَتَبقَّ منه سوى بضعِ مئاتٍ بعد أنْ كان عددُهم يُقدَّر بنحو ربعِ مليون نسمة. وتشير المراجعُ التاريخية إلى العديد من الجرائم التي ارتكبها كولومبوس ورجاله في حقِّ السكانِ الأصليين، من اغتصابِ النساء والخطفِ والاستعباد، إلى قطعِ أذنِ أحدهم انتقامًا من قومه لعدمِ مساعدتهم الإسبان في عبورِ أحد المجاري المائية، وإجبارِ كلِّ من تزيدُ أعمارُهم عن أربعةَ عشرَ عامًا على جمعِ الذهب أو القطن وإلّا واجهوا القتل، ما دفع عشراتِ الآلافِ من السكانِ الأصليين إلى الانتحار. كما كان يسيءُ معاملةَ الأوروبيين الخاضعينَ لحكمه. اعتُقِل كولومبوس وأُعيدَ إلى إسبانيا مُكبَّلًا بالأغلال عامَ 1500 بعد أنْ أرسلت الملكةُ إيزابيلا مندوبًا إلى هيسبانيولا للتحقيق في اتهاماتِ الاستبداد وسوء الإدارة والتصرّفات الوحشية. وبحلول عامَ 1502، كان قد بُرِّئت ساحتهُ من غالبيةِ التهمِ الخطيرة، وإنْ كان قد جُرّد من الألقاب التي مُنحت له في السابق. تمكّن كولومبوس من إقناعِ التاجِ
صورتان طغتا بقوّة على المشهد في صيدا خلال اليومين الماضيين.الأولى للنائب غادة أيوب يرافقها رئيس بلدية صيدا وأعضاء من المجلس البلدي في مكتب وزير الأشغال فايز رسامني.أما الصورة الثانية فلرئيس الحكومة نواف سلام مع “زعماء” المدينة على “بسطة” سمك في “الميرة” (سوق السمك).صورتان شغلتا الرأي العام الصيداوي وقيل فيهما الكثير… امرأة ورجال وزفت لنبدأ ممّا انتهوا. حتماً، يحقّ لغادة أيوب كنائبٍ منتخب أن تعمل ما يحلو لها ضمن “اللعبة السياسية” اللبنانية، بحسب تركيبة البلد وتخاريقه.يحقّ لها أن تقوم بما تراه مناسباً من وجهة نظرها، انطلاقاً من حساباتها السياسية والدينية والمناطقيّة والعقديّة… وهي لا تنتظر مساءلة من أحد، خاصةً على شكل كلام في عالمٍ افتراضيّ، لا يعدو مجرّد كونه كلاماً… للمعترضين على ذلك، قوموا بما ترونه مناسباً لمنطقتكم، لمدينتكم، لأهلكم، لأولادكم، لأنفسكم… فقط قوموا بشيءٍ عدا الكلام وعَلك الكلام. كلكم تمرّون يوميّاً عشرات المرّات على البلاط المتشظّي في شوارع السوق التجاريّة الرئيسيّة للمدينة. ماذا فعلتم غير “النقّ” والانتقاد والشكاية؟ هل اعترضتم في الشارع على ألوف بل ملايين الدولارات من المال المهدور على هذا المشروع أو غيره؟ هل اعتصمتم بشكلٍ حضاريّ أمام مكتب متعهّدٍ مشبوه يمصّ دمكم منذ سنين؟ وتبتسمون له خوفاً وخنوعاً؟ الأكيد: لا. بطولات وهميّة على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي المقاهي وعلى مجموعات الواتساب. وفي المساء تنتهي الخبرية وكأنّ كلام النهار يمحوه الليل. وغداً يومٌ آخر… من المعارك الدونكشوتيّة. ليس نقيصة بحقّ رمز سياسي أن يزور وزيراً معنيّاً بشأنٍ خدميّ لتحصيل ما يعتبر حقّاً له ولمنطقته وأهله وناسه. والاعتراض على ذلك لا يخفي عجز الآخرين عن القيام بما قامت به أيوب… أو يخفيه. سيُقال إنّ الاعتراض على الشكل لا على المضمون. بمعنى: “كيف تهضم مدينة كصيدا نائباً قواتياً يسحب معه مسؤولين أساسيّين في مجلسها البلدي لطلب ما هو حقّ للمدينة كحصّة من “زفت الدولة” أو خدمات…؟ حتّى لو صحّ ذلك، فالمشكلة هنا ليست في أيوب، بل في نائبي المدينة وقواها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفاعلة الذين أتاحوا لها الفرصة لتطالب بما يُفترض أن يطالبوا به هم. شكراً غادة أيوب، لأنّكِ عرّيتِنا من ورقةِ تينٍ بالية لم تعد حتّى تستر عوراتنا. علّهم يصحون من سباتٍ طال، وبات يضرب أطنابه في سطحيّة عقولٍ لا تمتهن إلّا السفسطة والتفاهات والمناكفات والطاقة السلبيّة. المشكلة ليست في غادة أيوب، بل في نائبي المدينة وقواها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفاعلة الذين أتاحوا لها الفرصة لتطالب بما يُفترض أن يطالبوا به هم نعيش اليوم بيومه. توكّل مطلوب حكماً، لكن للعقل شغله الذي لا تراه في شوارع المدينة. حاج محمد بوجي… كم تُشبهنا أيّها العتيق نواف سلام يكتشف صيدا. لم تنجح الزميلة السابقة سحر بعاصيري (زوجته) في تعريفه بمدينتها. للبيارتة مع السمك علاقة ملتبسة، لا تشجّع على التأصيل. لنعد إلى الصورة الثانية. كم هي جميلة هذه الصورة التي التقطها مجهول، وكم هي معبّرة. فعاليّات المدينة وسياسيوها عند “بسطة سمك” في سوق سمك، لا يزال يبيع بالمزاد كما كان الحال منذ الفينيقيين حتى الإمبراطورية العثمانية.كم تختزل هذه الصورة من أصالة عابرة للتاريخ. لا يعنيني كلّ من في كادرها، أتكلم هنا عن ذلك العجوز في إحدى زواياها يظهر وكأنه يقبل صمت ملح البحر، في سُمرة جلده المصقول بحرارة شمس الخريف. عنيتُ الحاج محمد بوجي، النقيب الحالي لصيّادي الأسماك في صيدا. بحريّ عتيق، قدَم القلعة وحجارة أشمون. هو كلّ الصيداويين في رجل. لم يعرف في حياته التي تربو عن الخامسة والسبعين إلا التوكّل على رزقٍ في بطن الأزرق الكبير، وبساطة تجعله يستفيق كل صباح ليكتشف مع ساعات النهار الأولى ما قد قُسِم لك من قوت يومه. هكذا يعيش العقل الجمعي في صيدا، حتّى في لاوعينا دون أن ندرك. نعيش اليوم بيومه. توكّل مطلوب حكماً، لكن للعقل شغله الذي لا تراه في شوارع المدينة. لم يعرف الحاج بوجي في حياته خياراً آخر عدا التوكّل، والصراع اليومي مع “العملاق”. هكذا يُخلق الصيداويون ويعيشون ويشيخون. لم يعرف تنظيماً دقيقاً لمهنةٍ عمرها من عمر البحر، لكنّها في صيدا لا تزال وكأنّ الزمن متوقّف فيها عند مراكب الآشوريين الوافدين لنهل المعرفة بفنون الملاحة وصناعة المراكب. لم يتطوّر ميناء المدينة، ولا شباك الصيّادين ولا مراكبهم، ولا حتى عقولهم ومقارباتهم.بقيت الأمور على بساطتها باعتبارها الملاذ الآمن والأكثر راحة. لم يتكلف أحد من الزعماء والأثرياء والعباقرة المتعاقبين عناء تطوير الناس والمهنة وتحسين شروط حياتهم، ويومياتهم وتحصيل حقوقهم. تُركوا لمصيرهم، لتوكُلِهم…: كم تُشبهنا يا حاج بوجي، وكم لا يُشبهنا من معك في تلك الصورة، خاصّة ذلك الذي يُرخي بيده متّكئاً على كتفك. على أكتاف أمثالك يصعدون، وحين يصبحون "فوق"، تصبح زيارة بسطة السمك فلكلوراً وصورةً ومرافقين. وتُنسى أيها المسكين مع مشاكلك في عُباب بحرٍ يبتلعك كلّ يوم، كما يبتلع السياسيّون المدينة…
ومضى اليوم الثالث على رحيل الحاج عدنان علي البيومي. نعته صيدا ودفنته بين رجالها الطيبين. رحل ومعه ذكريات ثقيلة لا يعرفها إلا من فقد ابنًا ظل موته معلّقًا بين الصبر والكثير من الوجع والرجاء.رحمك الله يا حاج أبو علي. قد يتساءل البعض: لماذا أنعي هذا الرجل؟ أهو حرفي مشهور أم فنان أو سياسي معروف؟ هو أعظم من كل ذلك… هو أبٌ مفجوع لشاب مظلوم، اسمه نادر البيومي، أو كما عُرف بين رفاقه: “قمر الشهداء” نادر البيومي… ذاك الشاب الوسيم، أزرق العينين كزرقة بحر صيدا. أبيض البشرة، يعلوها أحيانًا أثر شحمٍ من عمله كميكانيكي، يجهد في إزالته ليقف بين المصلين بهندامٍ نظيف ورائحة طيبة.شابٌ قوي البنية، بشوش الوجه، حنون القلب. كنتُ في الخامسة عشرة من عمري حين عرفته، يعلّمنا مع مجموعة من الشباب، في مسجد القرآن الكريم عند محلة البوابة الفوقا، كيف نصلي ونتوضأ، وكيف نحافظ على طهارة القلب قبل طهارة الجسد. كان يمازحنا بعد الدرس، ويمنحنا وقتًا كافيًا من اللعب المباح داخل المسجد، كأنه أخٌ كبير يعرف أن الدين رحمة لا قسوة. دخل برجليه وعاد في نعشثم جاءت الأيام الصعبة… نادر لم يكن في “معركة عبرا”، ولم يُعتقل في ساحة المعركة كما زُعم، لكنه، ككثير من شباب صيدا الملتزمين بالصلاة في المساجد، أصبح اسمه ضمن لوائح الملاحقة، وخاصةً أنه كان يرتاد مسجد بلال بن رباح.والروايتان متقاربتان: واحدة تقول إنه سلّم نفسه لأحد حواجز الجيش في صيدا، ليُحال بعدها إلى الثكنة، ثم إلى التحقيق في وزارة الدفاع. وأخرى تقول إنه قصد الثكنة بنفسه طوعًا، بعد أن أخذ عهدًا بعدم التعرض له وأن التحقيق معه لن يطول كثيرًا. لكنه عاد بنعشٍ وجسدٍ مسجّى يكشف الكثير من علامات التعذيب والتنكيل. تعرّض، كما أكدت تقارير “هيومن رايتس ووتش”، لأشد أنواع التعذيب خلال التحقيق، حتى فقد حياته. وبعد أسابيع، اعترف الجيش اللبناني رسميًا بحدوث حالات تعذيب أثناء التحقيقات، دون أن يذكره بالاسم، وكأنه اعترافٌ خافت، يحمل بين سطوره شيئًا من الحقيقة وكثيرًا من الأسف. مدينة تستحق أن تكون مركزًا معرفيًا متطورًا.. تحوّلت إلى حي فقير رقميًا لم يكن نادر إرهابيًا، ولا حتى مناصرًا من “الصف الأول”. كان أبًا لابنة صغيرة، عريسًا جديدًا، يحلم ببيتٍ بسيط يملؤه الإيمان وضحك طفلته وذكريات الأسرة السعيدة. لكنّ القدر شاء أن يُطفأ نوره في بلدٍ يرفع شعار الحرية وحقوق الإنسان، بينما تُكسر تحت سقوفه أجساد المظلومين وتُطحن آمالهم وتُحارب أفكارهم… لن أخوض في تفاصيل السياسة اللبنانية، ولا في الاتهامات، ولا حتى في نقد مؤسسة عسكرية سيطر عليها في هذه المعركة “حزب الله” وكان يديرها بحذافيرها. الحقيقة يعرفها كل من عاش تلك المرحلة: في عبرا، لم يكن كل من صلى في مسجد بلال بن رباح مذنبًا، بل كان معظمهم رمزًا للنقاء والمساعدة والخوف على المدينة. ونادر كان واحدًا منهم، بل كان وجههم الأجمل. هو لم يُعذّب لأنه صلى، بل لأنه يشبه جامع بلال: بسيطًا، صادقًا، مضيئًا رغم الظلام. كان التعذيب على جسده لونًا أسود يشبه الدخان الذي صعد من مئذنة المسجد حين استُهدف بالقذائف المباشرة من التلال المجاورة، معروفة الانتماء. نادر كان يشبه معظم شباب صيدا الملتزم الرافض للغطرسة والعنجهية، المؤمن بالله. قصته تشبه قصة المسجد حين تضامن مع ثورة مباركة في الشام، وحين وقف في وجه مشروع الموت والكبتاغون والمتاجرة بفلسطين. ويبقى السؤال…اليوم، حين رحل والده الحاج عدنان، شعرت المدينة أن الجرح القديم قد فُتح من جديد. كأن الأب التحق بابنه ليكتمل المشهد، مشهد الرحيل الموجع الذي لا يعرفه إلا من فقد من يحب، ظلمًا وقهرًا.رحم الله الحاج عدنان علي البيومي، الرجل الصابر، ورحم الله ابنه نادر البيومي وتقبّله من الشهداء، ذلك الشاب الحنون البشوش الذي صار اسمه رمزًا للإنسان البريء الذي دفع ثمن الصلاة والإيمان والنقاء في زمنٍ غابت فيه العدالة. ويبقى السؤال: هل ستنتصر العدالة يومًا، كما انتصرت سوريا على أنقاض الحرب؟ لم أكن لأكتب هذا المقال، لو لم تنتصر هذه الصورة. لكنني فقط أترحم عليه وأذكّر بقصته لفضله عليّ. فهل سيُعاد الاعتبار لكل شابٍ مثل نادر، عُذّب أو سُجن أو غاب اسمه في زوايا النسيان في أقبية السجون بلا محاكمات؟ لعل رحيل الحاج عدنان يكون تذكرةً، لا نهايةً، لقصة ما زال فيها الكثير ليُقال، وتنتظر العدل والإنصاف…