صَيدا في صُورَتَين… زِفتُ السِّياسة ومِلحُ البَحرِ

صورتان طغتا بقوّة على المشهد في صيدا خلال اليومين الماضيين.
الأولى للنائب غادة أيوب يرافقها رئيس بلدية صيدا وأعضاء من المجلس البلدي في مكتب وزير الأشغال فايز رسامني.
أما الصورة الثانية فلرئيس الحكومة نواف سلام مع “زعماء” المدينة على “بسطة” سمك في “الميرة” (سوق السمك).
صورتان شغلتا الرأي العام الصيداوي وقيل فيهما الكثير…
امرأة ورجال وزفت
لنبدأ ممّا انتهوا. حتماً، يحقّ لغادة أيوب كنائبٍ منتخب أن تعمل ما يحلو لها ضمن “اللعبة السياسية” اللبنانية، بحسب تركيبة البلد وتخاريقه.
يحقّ لها أن تقوم بما تراه مناسباً من وجهة نظرها، انطلاقاً من حساباتها السياسية والدينية والمناطقيّة والعقديّة… وهي لا تنتظر مساءلة من أحد، خاصةً على شكل كلام في عالمٍ افتراضيّ، لا يعدو مجرّد كونه كلاماً…
للمعترضين على ذلك، قوموا بما ترونه مناسباً لمنطقتكم، لمدينتكم، لأهلكم، لأولادكم، لأنفسكم… فقط قوموا بشيءٍ عدا الكلام وعَلك الكلام.
كلكم تمرّون يوميّاً عشرات المرّات على البلاط المتشظّي في شوارع السوق التجاريّة الرئيسيّة للمدينة. ماذا فعلتم غير “النقّ” والانتقاد والشكاية؟ هل اعترضتم في الشارع على ألوف بل ملايين الدولارات من المال المهدور على هذا المشروع أو غيره؟ هل اعتصمتم بشكلٍ حضاريّ أمام مكتب متعهّدٍ مشبوه يمصّ دمكم منذ سنين؟ وتبتسمون له خوفاً وخنوعاً؟ الأكيد: لا.
بطولات وهميّة على مواقع التواصل الاجتماعي، وفي المقاهي وعلى مجموعات الواتساب. وفي المساء تنتهي الخبرية وكأنّ كلام النهار يمحوه الليل. وغداً يومٌ آخر… من المعارك الدونكشوتيّة.
ليس نقيصة بحقّ رمز سياسي أن يزور وزيراً معنيّاً بشأنٍ خدميّ لتحصيل ما يعتبر حقّاً له ولمنطقته وأهله وناسه. والاعتراض على ذلك لا يخفي عجز الآخرين عن القيام بما قامت به أيوب… أو يخفيه.
سيُقال إنّ الاعتراض على الشكل لا على المضمون. بمعنى: “كيف تهضم مدينة كصيدا نائباً قواتياً يسحب معه مسؤولين أساسيّين في مجلسها البلدي لطلب ما هو حقّ للمدينة كحصّة من “زفت الدولة” أو خدمات…؟
حتّى لو صحّ ذلك، فالمشكلة هنا ليست في أيوب، بل في نائبي المدينة وقواها السياسية والاقتصادية والاجتماعية الفاعلة الذين أتاحوا لها الفرصة لتطالب بما يُفترض أن يطالبوا به هم.
شكراً غادة أيوب، لأنّكِ عرّيتِنا من ورقةِ تينٍ بالية لم تعد حتّى تستر عوراتنا. علّهم يصحون من سباتٍ طال، وبات يضرب أطنابه في سطحيّة عقولٍ لا تمتهن إلّا السفسطة والتفاهات والمناكفات والطاقة السلبيّة.
حاج محمد بوجي… كم تُشبهنا أيّها العتيق
نواف سلام يكتشف صيدا. لم تنجح الزميلة السابقة سحر بعاصيري (زوجته) في تعريفه بمدينتها. للبيارتة مع السمك علاقة ملتبسة، لا تشجّع على التأصيل.
لنعد إلى الصورة الثانية. كم هي جميلة هذه الصورة التي التقطها مجهول، وكم هي معبّرة. فعاليّات المدينة وسياسيوها عند “بسطة سمك” في سوق سمك، لا يزال يبيع بالمزاد كما كان الحال منذ الفينيقيين حتى الإمبراطورية العثمانية.
كم تختزل هذه الصورة من أصالة عابرة للتاريخ.
لا يعنيني كلّ من في كادرها، أتكلم هنا عن ذلك العجوز في إحدى زواياها يظهر وكأنه يقبل صمت ملح البحر، في سُمرة جلده المصقول بحرارة شمس الخريف. عنيتُ الحاج محمد بوجي، النقيب الحالي لصيّادي الأسماك في صيدا.
بحريّ عتيق، قدَم القلعة وحجارة أشمون. هو كلّ الصيداويين في رجل. لم يعرف في حياته التي تربو عن الخامسة والسبعين إلا التوكّل على رزقٍ في بطن الأزرق الكبير، وبساطة تجعله يستفيق كل صباح ليكتشف مع ساعات النهار الأولى ما قد قُسِم لك من قوت يومه.
هكذا يعيش العقل الجمعي في صيدا، حتّى في لاوعينا دون أن ندرك. نعيش اليوم بيومه. توكّل مطلوب حكماً، لكن للعقل شغله الذي لا تراه في شوارع المدينة. لم يعرف الحاج بوجي في حياته خياراً آخر عدا التوكّل، والصراع اليومي مع “العملاق”. هكذا يُخلق الصيداويون ويعيشون ويشيخون.
لم يعرف تنظيماً دقيقاً لمهنةٍ عمرها من عمر البحر، لكنّها في صيدا لا تزال وكأنّ الزمن متوقّف فيها عند مراكب الآشوريين الوافدين لنهل المعرفة بفنون الملاحة وصناعة المراكب.
لم يتطوّر ميناء المدينة، ولا شباك الصيّادين ولا مراكبهم، ولا حتى عقولهم ومقارباتهم.
بقيت الأمور على بساطتها باعتبارها الملاذ الآمن والأكثر راحة. لم يتكلف أحد من الزعماء والأثرياء والعباقرة المتعاقبين عناء تطوير الناس والمهنة وتحسين شروط حياتهم، ويومياتهم وتحصيل حقوقهم. تُركوا لمصيرهم، لتوكُلِهم…:
