أرادَ هارونُ الرَّشيد، خامسُ الخُلفاءِ العبّاسيينَ وأشهرُهم، أن يسمعَ كتاب”الموطّأ” من الإمامِ مالكٍ مباشرة. فأرسل إليه يطلبُه للحضورِ إلى مجلسِه في دارِ الخلافة ليُعلّمه ويُحدِّثه. إلّا أنّ الإمامَ مالكً رفض الحضور، وقال لرسولِ الخليفة: “إنَّ العِلْمَ يُؤتى إليه ولا يأتي.” ولمّا وصلَ ردُّ مالكٍ إلى الرشيد، لم يَغضب، بل تفهَّم موقفَه وقرَّر أن يذهبَ بنفسه إلى بيتِ مالكٍ لطلبِ العلم. وعندما وصلَ إلى هناك، تأخَّر الإمامُ في الخروجِ إليه، ممّا أثارَ عتابَ هارونَ. فأوضح له مالكٌ سببَ تأخّرِه قائلاً: “لمّا علِمتُ أنك أتيتَ لبابي لا تريدُ إلا العِلْم، ذهبتُ فاغتسلتُ، ولبستُ ثيابي، وتهيّأتُ كي أُلقي عليك من سنّةِ رسولِ الله وأنا على أحسنِ حال.” فأُعجِبَ هارونُ الرشيد بموقفِ الإمامِ وتقديرِه للعلم، وأثنى عليه قائلاً: “عظَّمتَ العِلْمَ فعظُم عندي.” هذا ما حصل اليوم تمامًا في دارِ الإفتاءِ في مدينة صيدا، بين الشيخِ سليمِ سوسان وكلٍّ من بهيّة الحريري وعبد الرحمن البزري وأسامة سعد، وعامر معطِي، دون أن ننسى أبو جمال طبعًا… لكنّهم لم يسمحوا لعمر مرجان ومخاتير من المدينة وشخصيات أخرى دينية ومدنية بالدخول لحضور اجتماع فاعليات صيدا، ربما قبلَ دخولِهِم الإسلامَ، أو تحت عباءة الطاعة السياسية.
في لُبنان، حيثُ تتداخلُ السُّلطةُ القضائيّةُ مع السياسةِ وتتعـرّضُ للمحاسبةِ الضَّعيفةِ، لا يُعَدُّ التَّحوُّلُ الرَّقميُّ رَفاهيةً بل ضرورةً لإعادةِ بناءِ الثقةِ. يتجاوزُ الأمرُ مُجرَّدَ تطويرِ منصّةٍ إلكترونيّةٍ أو نظامِ مُرافعاتٍ عن بُعد، إنَّه مَسعى لتحويلِ القضاءِ إلى جهازٍ ذكيٍّ وشفّاف، قادرٍ على حمايةِ ذاتهِ من تَدخُّلاتِ السُّلطةِ وتحيّزِها. تراجُعٌ الأبطالِ القانونيّين من أبرزِ التَّحدّياتِ التي تُواجِهُ العدالةَ اللُّبنانيّةَ اليومَ هو شُغورُ القُضاةِ: تُقدَّرُ نسبةُ الشُّغورِ في الجِسمِ القضائيِّ بحوالي 30% بحسبِ تقاريرَ محلِّيّة، بينما حوالي 120 قاضيًا حديثَ التخرّجِ ينتظرونَ تعيينَهم.هذا النَّقصُ ليس رقمًا ثانويًّا، إنَّه يُؤثِّرُ مباشرةً على قُدرةِ المحاكمِ على البتِّ في القضايا ويُسهمُ في التأخيرِ المُزمِن. المؤشِّرُ الأهمّ: عددُ القُضاةِ النَّشِطينَ يُقدَّرُ بحوالي 570 قاضيًا فقط، كثيرٌ منهم يعملونَ كقضاةٍ مُؤقَّتين وبأعباءٍ مُتعدِّدةٍ لدى أكثرَ من محكمة.إضافةً إلى ذلك، تبرزُ أيضًا قضيّةُ الاستقالاتِ والتقاعدِ المُبكِّر، حيثُ زادت “نَزعةُ النُّزوحِ القضائيِّ” من النِّظامِ الرسميِّ بعد انهيارِ الأجورِ بالدولار. أزمة هيكلية التَّراكُمُ في القضايا ليس مشكلةً هامشيّةً، بل أزمةً هيكليّة. وفقَ تقريرِ الأداءِ القضائيِّ لعام 2023، بلغ عددُ القضايا المتأخّرة (backlog) حوالي 2,594 قضيّة على مستوى مختلفِ درجاتِ المحاكم، ما يُشكِّلُ نحو 5% من مجموعِ القضايا المفتوحة آنذاك، بعدما كان التأخّرُ 6% في 2022.هذا التحسُّنُ الطفيفُ لم يأتِ صدفةً، بل بفضلِ “برنامجِ مَسحٍ وتأجيلٍ استراتيجيّ” تضمَّنَ تعيينَ قضاةٍ جُدُد (مثل 10 قُضاة لدى محاكمِ الاستئناف، و20 قاضيًا في محاكمِ الدَّرجةِ الأولى)، مع تفعيلِ تكنولوجيا المعلوماتِ في إدارةِ القضايا، وفقَ التقرير.ومع ذلك، لا يمكنُ التغاضي عن وجودِ تقاريرَ تشيرُ إلى أنَّ بعضَ القضاةِ يُضطرّونَ للعملِ في أكثرَ من محكمةٍ بسببِ نَقصِ التعيينات، ما يُقلِّلُ من تركيزِهم ويُؤثِّرُ في جودةِ الأحكام. لكي يقودَ الذكاءُ الاصطناعيُّ هذا النوعَ من الإصلاح، لا بدّ أوّلًا من وجودِ بُنيةِ بياناتٍ قويّةٍ ومتكاملة. ما ينقصُ لبنان اليوم هو أرشيفٌ قضائيٌّ مُوحّد، منصّةٌ تجمعُ بياناتِ جميعِ المحاكم وتربطُها بخوارزميّاتِ تحليلِ الأداء الضُّغوطُ الماليّةُ وتأثيرُها لم يُعفِ الانهيارُ الاقتصاديُّ القضاءَ من تداعياتِه. بعد تراجُعِ العملةِ وتآكُلِ الأجور، واجهَ القضاةُ صعوباتٍ ماليّةً كبيرةً، ما أدّى إلى إضراباتٍ مُتكرّرة: في بعضِ الأحيانِ شاركَ نحو 80% من القضاةِ في الإضراب، ما عرقلَ نشاطَ المحاكمِ بشكلٍ كبير.في المشهدِ اليوميّ، يعرفُ القضاةُ أوقاتَ عملِهم ليس من حرارةِ الأعمالِ القانونيّة، بل من وجودِ المُولّداتِ أو مدى توافُرِ الوقود، ومن ساعاتِ توفُّرِ الكهرباءِ في قصورِ العدل.إلى ذلك، يشيرُ تقريرٌ تفصيليٌّ إلى أنَّ البُنيةَ التحتيّةَ القضائيّةَ غيرُ مُلائمةٍ في كثيرٍ من المحاكم: قاعاتٌ ضيّقة، ضعفٌ في الأرشيف، غيابُ تجهيزاتٍ أمنيّةٍ وتقنيّةٍ شِبهِ تامّ. عدالةٌ رقميّةٌ مدعومةٌ في ظلِّ هذه الضُّغوط، يصبحُ الذكاءُ الاصطناعيُّ أكثرَ من خيارٍ تكنولوجيّ: إنَّه “مراقبٌ مُحايِد” لا يخضعُ للمنطقِ السياسيّ. يمكنُ لخوارزميّاتِ الذكاءِ الاصطناعيِّ تحليلُ ملايينِ البياناتِ القضائيّة، واكتشافُ الأنماطِ غيرِ الطبيعيّةِ في تأخيرِ الأحكام، أو في توزيعِ القضايا بين القضاة، أو في معدّلاتِ الاستئناف. هذا النوعُ من المراقبةِ لا يُخضعُ القاضيَ فقط للمساءلة، بل يخلُقُ أساسًا للدقّةِ والشفافيّة التي يمكنُ للجميعِ رؤيتُها.بفضلِ تقنيّةِ التنبّؤِ القضائيّ، يمكنُ للمنصّةِ الرقميّة أن تُشيرَ إلى حالاتِ “إنذارٍ مُبكّر”: مثل القضايا التي تجاوزت متوسّطَ زمنِ البتِّ في ملفاتٍ مماثلة، أو التي تشهدُ تأخيرًا مُفرطًا مقارنةً بمحاكمَ أخرى. هذه الميزةُ لا تُقلِّلُ من دورِ القاضي البشريّ، بل تدعمُ قراراتِه وتُجهِّزُ النِّظامَ الأساسيَّ لمراجعةِ الأداء.كما أنَّ الذكاءَ الاصطناعيَّ يمكن أن يكونَ أداةً قويّةً للكشفِ عن الانحياز: تحليلُ لغةِ الأحكام، وتكرارُ بعضِ القراراتِ لدى فئاتٍ معيّنة، وربما كشفُ ميلٍ نحو التمييزِ بسببِ المحسوبيّةِ أو التوزيعِ الطائفيِّ أو السياسيّ. من التَّجزئةِ إلى الوحدة لكي يقودَ الذكاءُ الاصطناعيُّ هذا النوعَ من الإصلاح، لا بدّ أوّلًا من وجودِ بُنيةِ بياناتٍ قويّةٍ ومتكاملة. ما ينقصُ لبنان اليوم هو أرشيفٌ قضائيٌّ مُوحّد، منصّةٌ تجمعُ بياناتِ جميعِ المحاكم وتربطُها بخوارزميّاتِ تحليلِ الأداء. كما يحتاجُ النِّظامُ إلى إطارٍ قانونيٍّ صارمٍ لتنظيمِ استخدامِ الذكاءِ الاصطناعيّ، يُحدّدُ الشفافيّة، ويمنعُ الانحياز، ويضمنُ مراجعةً بشريّةً للقراراتِ التي تظهرُ عبر التحليلِ الآليّ.وبدونِ هذه البُنية، تظلُّ بعضُ المبادراتِ الرقميّةِ جزئيّةً وغيرَ فعّالة، وقد تتفاقمُ الأزماتُ بدلَ أن تُحَلّ. التقنيةُ كقوّةٍ دستوريّة أهميّةُ العدالةِ الرقميّةِ التي تدعمُها الذكاءُ الاصطناعيّ لا تقتصرُ على التشغيل؛ هي استعادةٌ لشرعيّةِ القضاء. يستطيعُ المواطنُ أن يرى مسارَ قضيتِه في الزمنِ الحقيقيّ، أن يعرفَ أين تكمنُ عقبةُ التأخير، وأن يطمئنّ إلى أنَّ النّظامَ يُراقبُ ذاتَه. هذا النوعُ من الشفافيّةِ لا يُبنى بعقودٍ سياسيّة، بل بخوارزميّاتٍ وإشعاراتٍ رقميّة.عندما تصبحُ التكنولوجيا ليست أداةً لتسريعِ العملياتِ فقط، بل أداةً لضمانِ سلامةِ الحُكمِ واستقلالِ القضاء، فإنّها تتحوّلُ إلى ضمانةٍ دستوريّةٍ بذاتِها.لبنان لا يحتاجُ فقط إلى “قضاءٍ أكثرَ ذكاءً”؛ بل إلى “نظامٍ قضائيٍّ أصدق”، نظامٍ قائمٍ على التكنولوجيا، يمكنه أن يُحاسِبَ نفسَه، يُراقبَ أداءَه، ويكشفَ التحيّزَ دون خوف. في ظلِّ أزمةِ الشُّغورِ القضائيّ، وتراكُمِ القضايا، والضُّغوطِ الماليّةِ، والتسييس، الذكاءُ الاصطناعيُّ المدعومُ بالعدالةِ الرقميّةِ ليس رَفاهيةً، بل أداةُ إصلاحٍ حيويّة. هذه هي الفُرصةُ لإعادةِ بناءِ مرفقِ العدالة على أسُسٍ لا تحتملُ التلاعب، بل تفرضُ النَّزاهةَ والشفافيّة.
قرَّر عددٌ من أثرياء وميسوري المدينة، أو حتى من ناسِها العاديّين، مع عددٍ من الأطباء والمعنيّين بالشأنِ الصحّي، أن يقولوا فعلًا لا بالقولِ فحسب: لا نريد أن تضيعَ مستشفى أُخرى من صيدا وتنفلتَ خارجًا. لنعملْ معًا كي تعودَ مستشفى الجُبَيلي إلى العمل. في كثيرٍ من المحطّات، حين يتطرّق الحديث إلى “سيرة” مستشفى حَمّود، تجدُ انزعاجًا كبيرًا عند كثيرٍ من الصيداويّين وندمًا واضحًا للحالِ التي آلت إليها هذه المستشفى العريقة، بعدما تمّ بيعُها لِغرباءَ يتحكّمون بالأمن الصحي للمدينة، وخَسِرَها الصيداويّون صَرْحًا طبيًا رائدًا. في حياة المدن، لا تُقاس بعضُ العقارات باعتبارها مجرّدَ كومةِ أحجارٍ أو مساحاتٍ من أتربة؛ لبعض العقارات أهميّاتٌ استراتيجيّة، وخصوصيّاتٌ معيّنة، تجعلها أمورًا أساسيّةً في حياة المدينة وأهلِها وتطوّرها ونموّها. مستشفى الجُبَيلي، صرحٌ طبيٌّ عريقٌ، لعب — على حجمه — دورًا وحضورًا في حياة صيدا وأهلها وسكّانها. منذ سنوات، أقفل هذا الصرح أبوابَه على أملِ القيامة، منتظرًا مَن يُعيد ضخَّ الحياةِ في شرايينه ليعودَ مجدّدًا إلى الخدمة. فلماذا استمرارُ الإقفال؟ بحسب معلوماتٍ حصلت عليها صحيفة “البوست”، فليس السببُ وراء الإقفال مادّيًا بحتًا كما يظنّ كثيرون، بدليل أن “جهةً” عرضت على مالكيه الحاليّين شراؤه منذ أقلّ من عامٍ بمبلغٍ ماليٍّ “مُعتَبَر”، إلا أنّ قرار البيع لم يتّخذه المالِك لأسبابٍ كثيرة، أبرزُها نيّته أن يُعيد افتتاحَ المستشفى من جديدٍ ويعودَ إلى العمل في منطقةٍ تفتقد في محيطها الواسع وجودَ مستشفى “فعلي”، ويَسكُنُها اليوم أكثر من 50000 صيداوي. مهما تكُن المشكلاتُ والأسباب، فهي تبقى “أصغر” من تظافرِ جهودِ غُيُورين وتوافرِ كفاءاتٍ لا تفتقدُها المدينة، للاجتماعِ بنيّةٍ طيبةٍ تحت سقفٍ واحد، للتفكيرِ بالطرُقِ الأَمثَل لإحياءِ مستشفى المدينة التي هي بحاجةٍ إليها. لماذا لا يُصار مثلًا إلى تشكيلِ شركةٍ مُساهمة، للاستحصال على رأس مالٍ تشغيليٍّ وافرٍ لهذا الصرح الطبيّ، يُشارك فيها كلّ مَن يرغبُ على شكلِ أسهُم ومساهماتٍ ولو حتى عينيّة، بإشراف لجنةٍ موثوقةٍ من خبراءَ ومهنيّين محترفين في هذا المجال، على غرارِ ما يجري في كلّ أنحاء العالم؟ لجنةٌ بتدقيقٍ ماليٍّ ومهنيٍّ شفاف، تحفظُ حقوقَ المساهمين وتدير مرفقًا بطريقٍ خدماتيّة مربحة. والأفكارُ كثيرةٌ في هذا المجال. هي صرخةٌ تطلقُها "البوست" لأجلِ صيدا وأهلها، آملين أن تُلاقِيَ آذانًا صاغيةً وعقولًا راجحةً ونيّاتٍ طيبة، لا تُضطرّنا لاحقًا إلى كشفِ الجهاتِ التي تُعرقل انطلاقَ هذا المشروع وافتتاحَه لأسبابٍ حقيرةٍ تافهةٍ سخيفة، تضرّ بصيدا وأهلِها لأهواءٍ شخصيةٍ وكسلٍ لا يُغتَفَر.