بلدية صيدا…”معركة وجود” سياسية


قبل أقل من شهر مضى، كان الحديث في صيدا يدور عن ميل، ولو لم يكن معلنًا، نحو غياب “معركة قاسية” في الانتخابات البلدية التي ستشهدها المدينة. فجأة تبدّلت الصورة بشكل درامي، وكأن الناس فاقوا من غفلتهم، لتُسجّل المدينة واحدة من أشدّ المعارك السياسية بلبوس البلدية. معركة أحجام لا مجرد أرقام. معركة “صراع بقاء” لطبقة سياسية حكمت المدينة ولا تزال، وهي في صيدا اليوم تخوض معركة وجود وبقاء…
لا تشبه صيدا أحدًا. هي مدينة لا تشبه إلا نفسها. بتناقضاتها وانسجاماتها، وغرائزها، وطبيعة تركيبة أهلها وميولهم وأموالهم وماضيهم وتطلّعاتهم. مدينة أبكت يومًا رياض الصلح على بلدية ومختار حي، وكان حينها رجل الاستقلال وقيام “لبنان الكبير”، كما أحزنت رجلًا بحجم رفيق الحريري ولم تُراعِ عالميته. إنها صيدا.
لم تُسجّل صيدا في تاريخها المعاصر عدد مرشحين للانتخابات البلدية كما سجلت اليوم، حتى باتت هناك طرفة تُقال من باب النكتة بين الناس حين سؤالهم عن بعضهم: “بعد في إنت ما ترشحت؟”
ما الذي تبدّل بين ليلة وضحاها، لنُشاهد هذه “العصفورية” الفالتة أمام أعيننا اليوم؟ “العصفورية” كلمة تتردد بكثرة هذه الأيام حين الكلام مع أي صيداوي عن الانتخابات.
شعور مُبطّن
كان الخروج من الحرب الإسرائيلية الأخيرة مُرهقًا على المدينة. لم يكن هناك من هو متفرغ كليًّا لإعطاء الاستحقاق البلدي، الذي شكّ كثيرون حتى بإمكانية إجرائه، الاهتمام اللازم. تمّ التعامل مع الموضوع وكأنه شبه منتهٍ، وأن اللاعبين الأساسيين سيتقاسمون الجبنة تباعًا فيما بينهم دون تسجيل معركة تُذكر.
بقي هذا الشعور المُبطّن حتى عودة النائبة السابقة بهية الحريري من أبو ظبي، وإعلان عزوف “تيار المستقبل” عن خوض الانتخابات البلدية، التزامًا بقرار سعد المركزي.
تلقّفت أقطاب المدينة، لا سيما النائبين أسامة سعد وعبد الرحمن البزري، هذه “اللحظة” لإعلان بدء معركة البلدية وما سيليها في السياسة. حينها بدأ المشهد يتغيّر، وبدأت ترتسم التحالفات وتترشّح الأسماء والتكتلات، فكان ما قبل “بلاغ” بهية ليس كما بعده.
حسابات جديدة
تخوض القوى السياسية في صيدا اليوم معركة وجودية، يتحدّد فيها الكثير من ملامح المعركة النيابية المقبلة.
وجد سعد أن الفرصة مؤاتية له لتعزيز حضوره السياسي في المدينة بعد قرار الحريرية بالانكفاء، فتعامل مع التجديد لرئيس البلدية الحالي وكأنه ليس من المُسلّمات المفروضة.
من منظوره، يرى عبد الرحمن البزري أن نجاحه في إيصال مرشّح، كان ترشّحه الأولي مثار تنكيت بين الصيداويين، بالنسبة إليه معبرٌ مهمّ لتقديم أوراق اعتماده لدى السفارة السعودية في بيروت. فإن نجح، حينها يؤكّد للبخاري أن له حيثيّته في المدينة، ما يفتح له الباب بالتالي ليحلم باحتمالية طرحه مرشّحًا لرئاسة الحكومة. فالطموح أمر مشروع للجميع على اختلاف إمكانياتهم، لكنه يبقى شعورًا بشريًّا فطريًّا موجودًا.
الحريري التي استشعرت مع تطوّر الأحداث المتسارعة بخطر “إقفال البيت” في مجدليون، قرّرت القفز فوق القرار الذي اتّخذته سابقًا، أقله من تحت الطاولة، لذا جاءت “المصالحة” بعد سنوات القطيعة بين “الست” ويوسف النقيب، كي يدخل بكل إمكانياته الشخصية وفريق عمله دعمًا للائحة مصطفى حجازي.
الجماعة الإسلامية التي بدأت مفاوضاتها الانتخابية بأسقف عالية، ثم رضيت حتى بالمتواضع، وجُوبهت بالرفض، شعرت أن “الحُرْم” الدولي والعربي على حركة “الإخوان المسلمين” قد عبر بالفعل نهر الأولي، وبالتالي بات عليها أن تخوض معركة جدية لتثبت “نحن هنا”.
أمّ المعارك
هكذا تحوّلت صيدا بسرعة إلى “أمّ المعارك”. أعادت القوى السياسية حساباتها وتموضعها، واستشعرت أن تطورات المعركة البلدية ما هي إلا بروفة تحضيرية ومؤشّر لمعركة مقبلة أكبر وأعقد، هي النيابية.
لذا، سيكشف الجميع يوم السبت كل أوراقهم وأحجامهم. فخسارة الحريرية السياسية في صيدا تعني مزيدًا من التآكل لما تبقى من حيثيّة سياسية واجتماعية ورمزية لإرث يعاني أصلًا، وما كان ليبقى في المدينة لولا استثنائية المرأة. أمر لن يكون من السهل التسليم به، وهو ما تجلّى بأن مجدليون ماضية بالمعركة إلى الآخر، بغضّ النظر عن قرارات عواصم الخليج.
أما خسارة سعد، فستعني أن موقعه الذي تحقّق في الانتخابات النيابية الأخيرة لحسابات شخصية قلبت النتائج بعد أن كانت التحضيرات قائمة للاحتفال بفوز غريمه، لن تتكرر، وسيكون مهددًا. فـ”التنظيم الشعبي الناصري” ليس “التيار الوطني الحر”، ما يعني أن خسارته في صيدا، هي البداية والنهاية له في آن، لأنها المعقل والامتداد على السواء، ولا مساحة سياسية خارجها ليشغلها.
أما البزري، فسيستفيق على واقع مستجدّ مختلف عن مجريات الدورة النيابية الماضية، ويواجه تموضعًا جديدًا اختاره لنفسه على اعتبار أنه الحصان الفائز هذا الزمن. عسى ألا تخذله فيه حكمته كما خانته حين قام بتسمية ميقاتي بدلًا من سلام، ليجد وقتها أنه ارتكب خطيئة قد لا يمكن تصحيحها أو الالتفاف عليها هذه المرة.

مهما تكن النتائج التي ستفرزها الصناديق بعد أيام، أمام هكذا مشهد، صيدا هي الخاسر الأكبر مما يجري على أرضها. معارك ضيقة تُخاض بين أهل المدينة، بينما المعركة الوجودية الحقيقية تُخاض ضد أهلها… لكنها في مكان آخر.