الأموال التي تناثرت…رماداً


أو لإطلاقِ مبادرةٍ خضراءَ تُعيدُ للمدينةِ بعضَ أنفاسِها؟ أو لتأسيسِ صندوقِ دعمٍ اجتماعيٍّ يُسنِدُ ظَهرَ مُحتاجٍ، أو يؤمّنُ دواءً لمريضٍ أنهكَهُ الألمُ، أو يُدفِئُ قلبَ عجوزٍ كسيرٍ أنهكَتْهُ السنونُ؟
إنها ليستْ مجردَ أرقامٍ عابرةٍ تلك التي كشفَ عنها مركزُ زيتونةَ للدراساتِ: ففي عامٍ واحدٍ فقط، ابتلعتْ رمالُ الهدرِ العربيِّ ما يُقاربُ 59.7 مليونَ طُنٍّ من الطعامِ، بقيمةٍ فلكيةٍ تجاوزتْ 150 مليارَ دولارٍ. هذا الرقمُ، الذي يُعادلُ 150 ضعفَ ميزانيةِ الصمودِ والمقاومةِ في غزةَ المنكوبةِ، ليسَ خطأً مطبعيًا عابرًا، بل هو وصمةُ عارٍ، فضيحةٌ أخلاقية وإنسانية مدوّية، موثّقة بلغةِ الأرقام الصادمةِ في حجمِها، المُهينةِ في دلالاتِها العميقةِ.
لا، هذه ليستْ ميزانيةَ قارةٍ بأكملِها كالاتحادِ الأوروبيِّ، بل هي فاتورةُ إهدارِ أُمّةٍ لا تزالُ تتغنّى بالقضيةِ الفلسطينيةِ في خطاباتِها الرنّانةِ – إنْ كانَ قدْ بقيَ من تلك الخطاباتِ شيءٌ يُذكرُ أصلاً – بينما هي ذاتُها تطعنُ القضيةَ كلَّ يومٍ بخنجرِ الفوضى والاستهلاكِ المَرَضيِّ واللامبالاةِ القاتلةِ في صميمِ ممارساتِها اليوميةِ.
نيرانٌ تُحرِقُ المالَ…والقيمَ
وإذا كانتْ موائدُ رمضانَ في بعضِ العواصمِ العربيةِ قدْ تحوّلتْ، ويا للأسفِ، إلى مهرجاناتٍ للتبذيرِ تُلقى فيها النِّعمُ في القمامةِ بدلًا من أنْ تكونَ جسورًا للرحمةِ والتكافلِ، فإنَّ شوارعَ مدينةِ صيدا لم تكنْ أقلَّ بشاعةً في الآونةِ الأخيرةِ. لقدْ كانتْ مشاهدُ الاحتفالاتِ الصاخبةِ بما سُمّيَ “انتصارًا” في المعركةِ البلديةِ الأخيرةِ، بعدَ إعلانِ نتائجِها الأوليةِ (في انتظارِ ما ستؤولُ إليهِ الطعونُ المقدّمةُ)، استعراضًا فجًّا ومؤلمًا لِما يمكنُ تسميتُهُ بـ”ثقافةِ الانتصارِ الرخيصِ”.
عشراتُ الآلافِ من الدولاراتِ تحوّلتْ إلى دخانٍ ونارٍ في سَمَاءِ المدينةِ، ألعابٌ ناريةٌ صاخبةٌ، طلقاتُ رصاصٍ طائشةٌ، مسيراتٌ صاخبةٌ بالدراجاتِ والسياراتِ تجوبُ الطرقاتِ، ومآدبُ طعامٍ باذخةٌ لا تقلُّ ترفًا وبذخًا عن موائدِ السلاطينِ. لماذا كلُّ هذا الهدرِ؟ ألم يكنْ بالإمكانِ بهذا المالِ ترميمُ مدرسةٍ، أو تمكينُ شابٍّ، أو إطلاقُ مبادرةٍ نافعةٍ، أو تدفئةُ بيتٍ فقيرٍ في البلدةِ القديمةِ أو في مخيماتِ الجوارِ البائسةِ؟
لكنَّ منطقَ “الأنا” الانتخابيةِ المتضخمةِ كانَ لهُ الكلمةُ العليا. يبدو أنَّ “الفرحةَ الديمقراطيةَ” المزعومةَ في صيدا كانتْ، في نظرِ البعضِ، أثمنَ وأهمَّ من دُمُوعِ غزةَ المُحاصرةِ، ومن حُرقةِ قلوبِ أطفالِها الجائعين.
نصرٌ على مَن؟
لنسألْ بصدقٍ: هلْ كانَ ذلكَ “الانتصارُ” المزعومُ في “المعركةِ” الانتخابيةِ، كما يحلو لهم تسميتُها، انتصارًا حقيقيًا؟
هلْ كانَ انتصارًا على الفقرِ الذي ينهشُ أجسادَ الكثيرين في المدينة؟ هل كانَ خطوةً لتحسينِ أوضاعِ المدينةِ وسكانِها وأهلِها؟ هلْ قضى على الفسادِ المستشري؟ أم كانَ مجردَ انتصارٍ على شُرفاءَ نزيهين لا يملكون الآلاتِ الإعلاميةَ الضخمةَ، ولا الإمكاناتِ الماديةَ المطلوبةَ للترشحِ، ولا شبكاتِ المتعهدينَ والمحاسيبِ؟
ثمَّ، بأيِّ منطقٍ أخلاقيٍّ أو إنسانيٍّ يمكنُ أنْ نفرحَ ونهللَ لعددِ أصواتٍ انتخابيةٍ، بينما جارُنا القريبُ، أخونا في الإنسانيةِ، يحترقُ بنيرانِ الحصارِ والجوعِ، ولا يجدُ ما يسدُّ بهِ رمقَهُ إلا الفُتاتَ؟ وكيفَ يمكنُ لمرشحٍ لمنصبٍ بلديٍّ، يُفترضُ بهِ أنْ يحملَ همومَ الناسِ والبيئةِ، ولا يمتلكُ حتى برنامجًا واضحًا لمعالجةِ التلوثِ أو لإنقاذِ المدينةِ من مشاكلِها المتراكمةِ، أنْ يملأَ سماءَها بصواريخِ الألعابِ الناريةِ، وكأنّهُ قدْ حرّرها للتوِّ من احتلالٍ غاشمٍ؟
ثقافةُ الاستعراضِ…الوجهُ الآخرُ للهدرِ
الحقيقةُ المُرّةُ هي أنَّ ثقافةَ الاستعراضِ البلديِّ هذهِ لا تقلُّ خطورةً وتأثيرًا مدمرًا عن ثقافةِ الهدرِ الغذائيِّ. كلاهما وجهانِ لعملةٍ واحدةٍ زائفةٍ، وكلاهما جزءٌ من منظومةٍ ثقافيةٍ واجتماعيةٍ أوسعَ وأعمقَ: منظومةٌ تُقدّسُ التنميقَ السطحيَّ بدلًا من التنميةِ الحقيقيةِ، وتُفضّلُ الإبهارَ الخادعَ بدلًا من الإعمارِ الجادِّ، وتعتبرُ الفوزَ الانتخابيَّ غايةً تُبرّرُ سحقَ القيمِ والمبادئِ.
وفي ظلِّ هذا المشهدِ العبثيِّ، تجدُ غزةُ نفسَها ضحيةً مزدوجةً: تُعاني مرةً من قسوةِ الاحتلالِ وجرائمِهِ، وتُعاني مرةً أخرى، ولعلّها الأشدُّ إيلامًا، من لا مبالاةِ أُمّةٍ يبدو أنها أتقنتْ فنَّ الإنفاقِ والبذخِ، لكنّها نسيتْ أو تناستْ لماذا يجبُ أنْ تُنفِقَ ولمَنْ. أُمّةٌ تعرفُ جيدًا كيفَ “تحتفلُ” وتُقيمُ الأفراحَ، لكنّ ذاكرتَها تخونُها عندما يتعلقُ الأمرُ بتذكُّرِ لماذا “يجبُ أنْ تحزنَ” وتتألّمَ وتتعاطفَ.
من موائدِ التبذيرِ الفاحشِ إلى مفرقعاتِ صيدا الصاخبةِ، يمتدُّ خيطٌ رفيعٌ لكنّهُ قاتمٌ يربطُ بينَ المشهدينِ: إنّهُ خيطُ اللامبالاةِ وغيابُ الإحساسِ بالمسؤوليةِ. وكمْ صدقَ القائلُ: إنَّ المأساةَ ليستْ في نقصِ المواردِ، بلْ في وفرةِ القسوةِ، وفي غيابِ الضميرِ الحيِّ.
ألمْ يكنْ منَ الأولى والأجدرِ أنْ تكونَ احتفالاتُنا بنجاحِ خطةٍ بيئيةٍ حقيقيةٍ تُنقذُ صيدا من براثنِ التلوثِ الذي يخنقُها؟ أو بإنجازِ خطةِ إسكانٍ كريمةٍ للطبقاتِ الشعبيةِ المسحوقةِ؟ أو بإطلاقِ مشروعِ دعمٍ مستدامٍ لأهالي البلدةِ القديمةِ الصابرينَ؟ أليسَ منَ الأجدرِ بكمْ – يا مَنْ تُشعِلونَ النيرانَ في أموالِكمْ هباءً – أنْ تشتعلَ وجوهُكمْ حياءً وخجلًا من مشهدِ طفلٍ بريءٍ في غزةَ يبحثُ بينَ الركامِ عن كسرةِ خبزٍ يابسةٍ، أو من صورةِ طفلةٍ أخرى احترقتْ أطرافُها وهي تبحثُ عن أمِّها المفقودةِ تحتَ الأنقاضِ؟

لقدْ فازَ المرشحونَ في صناديقِ الاقتراعِ، لكنَّ الأخلاقَ هي التي خسرتْ. ارتفعتْ زغاريدُ الفرحِ الزائفِ، وانخفضَ منسوبُ الوعيِ والحسِّ الإنسانيِّ. فهلْ بقيَ في هذهِ المدينةِ، أو في هذهِ الأُمّةِ، مَنْ يمتلكُ الشجاعةَ ليصرخَ في وجهِ هذا العبثِ قائلًا: كَفَى؟