تحميل

إبحث

في الصميم

صيفٌ هانئ…عن “الكنايات” واليوم الذي تُدكُّ فيه جدرانُ الإسمنتِ القبيحة!

saida river 2

إلى حبيب دبس
قبل 10 شباط 2023 بأيام، كان مهندسٌ معماريٌّ لبناني، من خلف قناع أوكسيجين مثبّتٍ على وجهه، ماضيًا بحماسةٍ لا تتفق مع جسدهِ الوَهنِ بفعلِ المرض، يشرح أهميةَ المساحات التشاركية العامة في المدن، ودور الرئات الخضراء ضمن هذه المساحات. بدا المشهد، فيما المهندس مستمرٌّ بالشرح، لمن خلف شاشة الكومبيوتر، من حاضري “اجتماع الأونلاين”، أشبه بمشهدٍ مستعادٍ من الأفلام أو الروايات التي يكون بطلُها رجلًا نبيلًا يحاول المساهمة بتغيير واقع الناس المرير، حتى آخر رمق، وحتى لو السياق دونكيشوتيًّا، يُطحَنُ فيه الهواءُ الأحلامَ والأماني.
لكن حبيب دبس، المهندس المعماري العالمي، الذي استمرّ يُحارِب الطواحين، حتى وهو على فراش “العناية المركّزة”، غادر الحياة قبل 15 شهرًا، وترك وراءه إنجازاتٍ ومشاريعَ كثيرة، بعضها، إن كان مشعًّا بضوء الإبداع والإنسانية، إلّا أنّه لم يرَ النور.
أحد هذه المشاريع هو “الحديقة العامة على ضفاف نهر الأولي”.

من الإله لرجل الأعمال

في دفاتر يومياته، إن وُجدت، نتخيّل أن يكون دبس، قد خطّ بضعَ كلمات، عن جمال تلك البقعة التي تحدّ مدينة صيدا من الشمال، والتي ربطها قَدَرُ موقعها الجغرافي، بأحداثٍ وتحوّلات تمسّ الإنسانَ وحضارته، وتَحضُّره، كما شراسته وطمعه وجشعه، عبر قصة تبدأ من إله الصحة الفينيقي أشمون، ولا تنتهي عند مقدرة رجال الأعمال على توظيف أموالهم وسَطوتهم من أجل الاستيلاء على كلّ شيء: التاريخ، الأملاك التي كان من المفترض أن تكون في الأساس مشاعاتٍ عامة، حق أهل المدينة الذين دفعوا ضرائب مشاريع الضم والفرز أن يحصلوا بالمقابل على إرثٍ يخصّ كل مجموعاتهم وعائلاتهم، باسمٍ جمعيٍّ واحد هو “صيدا”، بدل أن تصبح ضفة أشمون، المذكورة في كتب الحضارات قبل 6 آلاف سنة، عنوانًا مضافًا لأملاك أصحاب المزارع التي كان اسمها في السابق… أوطانًا.

وعد أحد رؤساء البلدية السابقين، قبل أكثر من عقد، وهو ثريٌّ آخر، يعمل في خدمة الأثرياء والمتسلّطين الذين أهدَروا كل فرص التنمية في المدينة، مقابل توزيع “الكيكة” فيما بينهم، بأن تكون الضفة ضمن “رُبعٍ مجاني”، يظهر بعد عمليات الضم والفرز، التي إن كان لها إنجازٌ وحيد، فهي أنها، وعلى الطريقة الترامبية اليوم، زادت من ثراء الأثرياء، وسلخت عن الفقراء وأصحاب العقارات الصغيرة، فرص التربّح.
كانت تلك خدعةً من الرئيس الأسبق، استخدمها لامتصاص غضب بعض أهالي المدينة، وبعض أصحاب الأعمال البسيطة مثل المقاهي المتنقلة، وبياعي البضائع، الذين كانوا يتكسبون من أعمالهم على ضفة النهر، وأيضًا بعض الأصوات التي ارتفعت من أوساط جمعيات المجتمع المدني المستقلة، لتدلل على الوجهة الأكثر صوابية لهذا المكان الذي ارتبط أيضًا بذكريات أهل المدينة في الزمن المعاصر.

في بازار الماديات

لم تأخذ البلدية زمام المبادرة لكي تستعيد سلطتها الطبيعية والمنطقية على ضفة النهر، التي غرقت بدءًا من منتصف ثمانينات القرن الماضي في كهوف الملكيات الخاصة، وبعضها إن لم نقل مشبوهًا، فعلى الأقل، محاطٌ بالكثير من علامات الاستفهام.
بيع أشمون، وابتهالات الصحة، وقصص جدّاتِنا، وأحلام المهندس دبس، والعدالة والمنطق، في مزاد رجال الأعمال، والساسة الجشعين، كما كلّ شيءٍ في هذا الوطن… بأبخس الأثمان.

واحدةٌ من تلك الجدات هي جدّتي، ثُريا، عاشقة النهر، وأيضًا الفن والسينما والحرية والعدالة.
كانت نموذجًا من النساء، معاكسًا تمامًا، لما تمثّله مشاعر البخل والجشع والتسلّط الذي يمثله كُثُرٌ من أصحاب القرار في صيدا، ومن بينهنّ، نساء.
كانت جدّتي ملكةً غير متوَّجة، على ضفة النهر.

في دفتر يوميّاتي، أُخطّ منذ فترة، نصوصًا، حملت اسمًا مستعارًا من رواية عالمية، “الصبي والنهر”، لهنري بوسكو، واستلهامات من رواية ثانية هي “تحت العجلة” لهيرمان هِسّه، عن علاقة جدّتي بنهر “الكنايات”، ومن بعدها سُلالتها، وصولًا إلى تلك المرارة التي أشعر بها كلما سِرتُ بمحاذاة ذلك الجدار الإسمنتي القبيح الذي فصل هناء المشي عن رذاذ الماء البارد ورائحة ورق الكينا التي تُنعِش الروح.

وعد أحد رؤساء البلدية السابقين، وهو ثريٌّ آخر، يعمل في خدمة الأثرياء والمتسلّطين الذين أهدَروا كل فرص التنمية في المدينة، مقابل توزيع "الكيكة" فيما بينهم، بأن تكون الضفة ضمن "رُبعٍ مجاني"، يظهر بعد عمليات الضم والفرز
saida river 3
يبكي "محمود" وتسيل دموع "أحمد". ابنا الصِّهر يُفطِران قلبي، وها هُما يُهيلان التراب على جثّة الوالد المُكفَّن

في اليوميات أكتب:
“مالَتْ إحداهنَّ على خدّها وقبّلتها. وضحكت النسوةُ بشيءٍ من الدلال، وصاحت إحداهنّ: “قبلة العريس يا مضروبة، الآن ابتدأ شهر العسل”. وتعالت الزغاريد. وسمع صوتُ جوقة عصافير مكنونة في قلب شجرة الكينا صدحت خصيصًا للمناسبة.
ووضعت الخيّاطة التي تمضي أيامها على الميناء في رتق الشباك الممزّقة الخاصة بالبحارة، تاجًا من العيدان ولحاء الكينا وورقه، على رأس صاحبتها العروس.
كما لصقت بصمغٍ مسلوخ برأس حجر عن الخشب، شارِبًا من ورقٍ تحت أنف المرأة التي كانت تلعب دور العريس.
ثم تقدّمت امرأة “رَتَى”، تلثغ بنصف الحروف، ووقفت فوق صخرة كلسيّة، ونادت: “باسم الدَّشِي (تقصد البشر) والسَّجِي (تقصد الشجر)”،
ثم قاطعتها ثالثة علامةً على نفاد صبرها من لغة التشفير: “أربط بينكما، وبعطر زهر الليمون الفوّاح من البستان ورائي، أَدثِرْكما… إلى الأبد”.
ثم تعالت الزغاريد مرةً جديدة، وهذه المرّة علّقت “الرَتَى” عقدًا من زهر الليمون حول عنق العروس.
كان الصبيّ، ابن العروس، الذي في السادسة من عمره، متمسّكًا برِجلها طوال الوقت. ولا يفهم شيئًا. لماذا أمّه عروس؟ ولماذا صاحباتها يتجاهلنه ولا يُدلّعنَه ويلاعبنه كما جرت العادة؟
ولماذا خلعت أمّه جلبابها الأسود وغطاء رأسها، وبيّنت عنقها وكتفها الأبيض الغضّ أمام العصافير والنهر والنساء؟
وكيف تكون “الحدباء ديبة”، التي شغلتها أن تقرع بالجرس على باب السينما، هي، فجأةً “عريس ماما”؟
“هل ستترك أمي بيتنا، وأبي، وتبقى هنا، مع عريسها الجديد، تحت الكينا، على ضفة النهر؟”
فكّر الصبيّ، وبكى بحرقةٍ فزعًا من فكرته”.

لم يَعِ الطفلُ أن عشّاق السينما يذهبون في العادة إلى شواطئ البحر وضفاف الأنهر، لكي يعيدوا ارتجالَ المشاهد من الأفلام التي سوف يستسلم هو لغوايتها طوال ثمانية عقود سيعيشها، ويتردد خلالها باستمرار على ضفة النهر، حتى قبل وفاته بأيام قليلة.

على ورقةٍ أخرى من كراسة “الصبي والنهر” كتبتُ:
“في اللحظةِ التي فقدَ الصبيُّ فيها ذاكرته، اكتسبَ مقدرةً فريدة على فهمِ لغةِ النهر، ونقلِ حكاياته إلى الناس. لا يحصل هذا طوال الوقت، وإنّما في يوم الإله أشمون، إله الصحة الفينيقي، الذي يتعبدُ الصيادون والمزارعون في محرابه، قربَ النهر.
بدأت الحكاية، حين انتشرت الملاريا في كل مكان. أتت بها سفينة بحارة من أرضٍ صفراء، خاف أهل صيدون على حياتهم، هرعوا إلى النهر.
كان الصبي يتمتم جزلاً في أذني النهر بالهدية التي يطلبها منه، حين غطّى غبارٌ الأفق، وتناثرت حباته على طرف أنف الصبي ورموشه، فلم يعُد يرى شيئًا، بل يسمع فقط جلبةً وصخبًا.
ثم انقشع الغبار، ورأى رجالًا وفتيانًا يركضون من ناحية معبد أشمون…
كانوا يحملون أطفالًا ونساءً، على أكتافهم وظهورهم. خاف وهرب واختبأ وراء جذع شجرة كينا. ثم تلصّص وراقبهم:
توزّعوا في فرقٍ غير منظمة، التفّوا حول جذوع الكينا، أخرجوا سكاكين وسيوفًا وأحجارًا مسنّنة، وشرعوا يقشطون اللحاء عن الشجر، ومنهم من يلعقه على الفور، ومنهم من يودعه في أكياسٍ من الكتان الخيشي.”

وفي موضع ثالث:
“شيخُ الطريقة لم تطأ قدماه أرض الزقاق، منذ العام الذي ابتُلِيَتْ فيه المدينةُ بهجوم الجراد الأسود.
قرّر الاعتكاف في زاويته، التي تعبق برائحة الخبز المُحمّص الآتية من الفرن المجاور.
فيما الرائحة تُسيّل ريقهم، أخبرهم أنه يتوجب عليهم، لكي يُفكَّ السحرُ عن الطفلة، أن يذيبوا جبلةَ سُكّرٍ وطحينٍ وجوز هندٍ ويقطينٍ حلوٍ وناضج، مع ريقها،
ثم يُنقَّط على المزيج من حبرٍ أسود أوتي به من ذيلِ هُدهُدٍ أرمل.
ثم يُترك ليجفّ في زاويةٍ رطبةٍ لم تمسّها الشمسُ، في المكانِ الذي تغفو فيه الطفلةُ الحزينة.
وفي الليلة التي تهجرُ فيها النوارسُ الميناء، مرتحلةً في طريق هجرتها إلى الشمال، وقبل أن يبزغ الفجر، تقف الطفلة الممسوسة تحت الجسر، عند التقاء بحر صيدا بطرف نهرها،
تغسل وجهها سبعَ مرات، مردّدةً هذه التمائم (ومدّ يده باتجاه الأب ثم رمى بقوة شيئًا مُكَوَّرًا على صدره، تحت ناظر الطفلة التي بدت على وجهها علامات التيه والخوف)،
ثم تُعطى قطعةَ الحلوى، لكي ترميها في النقطةِ ذاتها التي اغترفت منها الماء”.

وضعتُ جانبًا الكراسة، وفكّرتُ مجدّدًا في المقاطع الثلاثة، التي تبدو في ظاهرها مشرذمة، وإنْ هي في طيّاتها، انعكاسٌ لما هو مبطَّن في اللاوعي.
حاولتُ الغوصَ في الاستبطان، لأصلَ إلى خلاصةٍ واحدة:
إنني، كما الكثير من أهالي المدينة، نعيش في لاوعينا بأننا مُنتهَكون طوال الوقت.
حكاياتنا، أحلامنا، أفكارنا، محبتنا لصيدا، كلّها تئنّ وتنسحق تحت عجلة جشعين بُخلاء (بُخلُ الروح أعظم وأكثرُ اعتلالًا لصاحبه من قبض الكفّ)، كما حصل مع هانز جيبينرات، بطل رواية هِسّه:
“كان يشعر وكأنّ روحه تُسحق تحت عجلةٍ لا ترحم”.

هل تُنقذنا الأفلام والروايات حين يُصبح واقعُ الشر مستعصيًا على الهضم؟ في بعض المرات، قد تفعل، وفي سياقاتٍ أخرى، لا ينقصها تَقمّصُ الراديكالية الثورية، قد تكون مُلهِمة، كما حصل ذات يوم، مع مجموعة من الشبّان المقنّعين، المُولَعين بأحداث المسلسل الإسباني "كازا دي لَبابِل"، الذين غضبوا بشدّة من آليات التحكّم التي يفرضها الرأسمال الخاص على مشاعات المدينة، ليستفيق المارّة بموازاة الضفة ذات صباح، على مشاهدَ بياناتٍ تهديدية مُلصقة على ذلك الجدار الرمادي، جاء فيها: "أيتها السلطة الفاسدة، اسمعي واعلمي جيدًا أن منتزه الكنايات، ذاكرة ومتنفّس الصيداويين. لذلك شرعنا أبوابه ليلًا ونهارًا ليدخلوها هانئين سائحين. وإن أُقفلت مجددًا، خذوا ما يدهشكم". كما أشار البيان إلى الأملاك النهرية التي "سرقها تجّار السلطة من خلال وضع اليد عليها أو تزييف عقودٍ من خلال التلاعب على القانون لاستملاكها". أما التوقيع فكان: "الجناح الثوري لصيدا تنتفض".
al-Post
مدونة في سلسلة (5)
عن صيدا وأشياء أخرى...
العلامات

يعجبك ايضاً

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تفعيل التنبيهات نعم كلا