تحميل

إبحث

في الصميم

“سُنّة لبنان”… بين بقاعصفرين ومعراب

lebanon_sunni_fragmentation

في أقلّ من عام، تغيّر المشهد جذريًّا: دوليًّا، إقليميًّا وداخليًّا.
عاد دونالد ترامب إلى البيت الأبيض بنسخةٍ منقّحة، أكثر رومانسيّة لكن أكثر حسمًا لقضايا بلا نهايات مفتوحة.
خسر حزبُ الله آخرَ حروبه. ضعف المشروع، وخبا وهجُ السلاح و”الهوبرة” في مفاصل الدولة كما في نفوس الناس وأفكارهم.
ضُرِبت إيران في عقرِ فارس، وتلاشى الحلمُ النووي في سراديب فوردو.
سقط الأسدُ وزبانيته، فترنّح الهلالُ الشيعي من أصفهان حتى الضاحية الجنوبيّة.

في المنطق، كلّها معطيات تُؤشّر لضعف “الزمن الشيعي” الذي من المفروض أن يقابله “صعودٌ سُنّي” في منطقة قائمة على كتلتين. لكن الحقيقة في لبنان كانت غير ذلك، أقَلّه حتى الآن.

separator

على عكس المتوقع، بعد العدوان الإسرائيلي الأخير على لبنان، وبعد وصول أحمد الشرع إلى جوار قاسيون، خرج السُنّة في لبنان أضعفَ وأكثرَ تشرذمًا ممّا قبل.
أسباب عديدة رسمت أجزاء هذه الفسيفساء الحزينة.

بإبعاد “الحريريّة السياسيّة” عن المشهد العام، وما استتبع ذلك من انقلاباتٍ علنيّة كانت أم مكتومة من داخل البيت أو خارجه، باتت الأكثريّة السُنّية بلا رأس، بغضّ النظر عن ثقله أو خفّته.
تعدّدت الرؤوس الحامية الطامحة إلى الوراثة، وغابت المرجعيّة الموحّدة. فبات الصغار من أمثال: محمّد شقير، نهاد المشنوق، وضّاح الصادق، نبيل بدر، وجيه البعريني، عبد الرحمن البزري، حسن مراد… على سبيل المثال لا الحصر، يتناتشون بقايا زعامةٍ هي في طور الاحتضار، إن لم تنتفض عاجلًا غير آجل على واقعها الحالي.

في السياسة، انكشف السُنّة في لبنان أكثر ممّا كانوا عليه، وتدحرجت حجارةُ الدومينو لتصيب الطائفة الأكبر في المواقع ومراكز القوّة والقرار، في الأمن والقضاء والاقتصاد…
لم ينجح أحدٌ في سدّ الفراغ. لم تنفع مليارات نجيب ميقاتي، وكلّ الوقت الذي أخذه في الموقع، بأن تكرّسه أكثر من “زعيم محلة”. كما لم تنفع دموع السنيورة وبلاغة بيانه في إقناع تجمّع عائلاتٍ بمرشّحٍ لرئاسة جمعية، تمامًا كما لم تشفع بشاشةُ وجه فؤاد مخزومي وترابط علاقاته وأنابيبه من الدمّام حتى واشنطن.

تبيّن أن السُنّة عصيّون على الترويض. كما بسطها يومًا الصديق العزيز فيصل سلمان: “من الصعب أن تعمل مع أحد إن اشتغلتَ يومًا مع رفيق الحريري”. لكن الفراغ لا يحتمل الاستدامة.

separator

لم تنجح المؤسّسة الدينيّة السُنّية في تخطّي دورها التقليدي الوظيفي كملحقٍ للدائرة السياسيّة التي تأتي بها. حافظت دارُ الفتوى بعيدًا عن “الكاريزما” المطلوبة، على الحدّ الأدنى للدار والدور في زمن غياب الكرسي الثالث.
وفي ظلّ غياب الدين والتديّن، تصبح المصالح الضيّقة وتناثر القوى كغُثاء السيل، أسهل على الهضم لدى الجائعين المتربّصين.

كلّ هذا يحصل على مرأى ومسمعٍ من وليد البخاري، المتربّع في ديوانيّة القهوة العربيّة في اليرزة. يبتسم بخبثٍ وهو يختتم إعداد تقريره ليزيد بن فرحان.
ما لن يُقال جهرًا، ولن يُعجب الأقربين قبل الأبعدين، وإن تلفّظته الأفئدة قبل الأفواه، أنّ مشكلة السُنّة في لبنان اليوم هي مع السعوديّة بقدرٍ يكاد يُماثل مشكلتهم العقائديّة الوجوديّة مع إيران نفسها.

ما تنتهجه السعوديّة في تعاطيها مع سُنّة لبنان اليوم سيؤذي الطائفة أكثر ممّا يُفيدها على المدى البعيد. فبلدٌ كلبنان لا يُدار بمنهجيّة “رؤية ٢٠٣٠”، التي كانت أبرز نجاحاتها لجنة الترفيه التابعة لتركي آل الشيخ.
إن كان لمحمد بن سلمان من مشكلة ماليّة أو شخصيّة أو حتى نفسيّة مع سعد الحريري، فهذا لا يعطيه أيّ حقّ في نقلها إلى أكثر من مليونٍ ونصف مليون لبناني، وإجبارهم عبر وسائط متعدّدة، بالإكراه والترغيب والترهيب، لكي يتحمّلوا تبعاتها.

وإن كانت عبقرية المدن الذكيّة في “نيوم” قد تفتّقت إلى أن كسر حصرية التمثيل السُنّي في لبنان، وتوزيعه بين القبائل، والمسافة الواحدة بين الجميع، وصولًا لتوكيلهم لأحمد الشرع على مبدأ أن لبنان لا يُحكَم إلا من سوريا، فهي سياسة محكومة بالفشل عمليًّا كما دلّت التجارب، لا نظريًّا كما يُخال بعضهم.

separator

مع مغيب كلّ شمس، يقف سُنّة لبنان بين مشهديّاتٍ أربع متباعدة، لكنّها تُشكّل تفاصيل مكنوناتهم اليوميّة:

مسيرات درّاجاتٍ ناريّة تنطلق من الضاحية الجنوبيّة، لتهدّدهم بقمصانٍ سود وحربٍ أهليّة وحقدٍ تاريخي دفين.

ومسيراتٌ إسرائيليّة تحمل الموتَ البغيض الأزلي بحقّهم منذ ما قبل غزوة بني قينقاع.

وبين سوريا متعبة مترنّحة، تبتعد عنهم أكثر فأكثر كلّ يوم، مع خطاباتٍ تستفيض في الحديث عن علاقاتٍ ندّيّة بين بلدين وعدم التدخّل في شؤون الآخر، وتركهم لقاتليهم.

وسط هذه المشهديّات القاتمة، يبرز لقاءان يُضافان إليها:
الأوّل بعنوانٍ سُنّي واضح الراية، تقليدي نمطي ممجوج، لم يُقدّم نفعًا ككثيرٍ مثله، ينتهي بلائحة مطالب لضابطٍ أو قائمقامٍ أو مأمور نفوس، لشراء ذمم الناس.
والثاني خطابٌ تأسيسي واضح المعالم والأهداف، تهواه قلوبُ أكثريّة السُنّة وتنضح به في مجالسهم وبين جنباتهم، لكن مشكلته أن قائله ساكنٌ في معراب. فيكون الخوف من “مواجهة ما ألفينا عليه آباءنا”. وهذا يتطلّب جرأةً تتولّد.

كما قالها الشاعر الأعظم المتنبي:

وإنَّما النّاسُ بالمُلوكِ وما   تُفلِحُ عُرْبٌ ملوكُها عَجَمُ
لا أدبٌ عندَهم ولا حَسَبٌ    ولا عُهودٌ لهم ولا ذِمَمُ

فلنتبحّر في أصلهم جميعًا… قد لا أحد ليكون أهلًا للمُلك…علينا

العلامات

يعجبك ايضاً

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تفعيل التنبيهات نعم كلا