لم تَعُدِ الطاولةُ اللبنانيّةُ تعرفُ الوسط. من “صحنِ الفتّوش” الذي تحوّلَ إلى رفاهية، إلى “المَنقوشة” التي بلغت أسعارُها حدوداً خياليّة، ها هي “البيضُ والبطاطا” – تلك الوجبةُ الشعبيّةُ البسيطة التي لطالما اعتُبِرَتْ ملاذَ العائلاتِ في الأيّامِ العصيبة – تدخلُ بورصةَ الترفِ وتتحوّلُ إلى “ترِند” على موائدِ الأغنياء.
القصةُ بدأت مع “أم شريف”، صاحبةِ المطعمِ البيروتيِّ المعروف، التي أدرجت في قائمتها ساندويش بندورة جبليّة بسعر 10 دولارات، فلاقى استحساناً عادياً. غيرَ أنّ المفاجأة جاءت مع إطلاق ساندويش “بيض وبطاطا” بـ17 دولاراً، حيث تفاعل معها روّادُ المطاعم و”الفود بلوغرز” وكأنّها وصفةٌ سحريّة مكتشفةٌ للتوّ. المشهدُ لم يخلُ من الطرافة: وصفةٌ تصنعها معظمُ الأمهاتِ يومَ الأحد “عن قلّة خَلق” أصبحت فجأةً طبقاً يتباهى به الأثرياءُ على “إنستغرام”.
في البيوتِ اللبنانيّة، تُسلق كرتونةُ البيضِ مع كرتونةِ بطاطا لتسدَّ جوعَ العائلةِ أسبوعاً كاملاً، وربّما تُغلى معاً في طنجرةٍ واحدةٍ توفيراً للغازِ والجلي. أمّا على طاولةِ الأثرياء، فالمعادلةُ مقلوبة: بيضةٌ واحدةٌ وبضعُ أصابعَ بطاطا تتحوّل إلى “إبداعٍ طهويّ” يُوازي عشرين دولاراً.
المفارقةُ لافتة: ما يُعَدّ طعاماً للفقراء بات اليومَ موضةً للأغنياء. وما كان يُستهلك بلا صورٍ ولا “لايكات”، أصبح مادّةً لتوثيقٍ بصريٍّ متواصل، تتراكضُ حولها عدساتُ المدوّنين، وكأنّها ابتكارٌ لم تعرفه الحضارةُ من قبل.
لكن خلف الطرافةِ يطلّ السؤالُ الجدّي: أيُّ بلدٍ هذا الذي يبيعُ فيه البعضُ “البيضَ والبطاطا” بأسعارِ مطاعمَ فاخرة، فيما يقف آخرون عاجزين عن شراء “كيس بطاطا” من السوق؟
لعلّ “أم شريف” أثبتت ذكاءَها التجاريّ، لكن ربّما الأجدرُ بالحكومة، وسط عجزِها المزمن، أن تُعيّنها وزيرةً للاقتصادِ والتجارة. فامرأةٌ قادرةٌ على تحويلِ بيضةٍ وحبّةِ بطاطا إلى استثمارٍ ذهبيّ، قد تملكُ فعلاً وصفةً لإنقاذِ بلدٍ يفتّش عن المعجزاتِ في قدرٍ فارغ.