تحميل

إبحث

في الصميم

ذاكرةٌ تشبهنا… تهرب من زمنٍ لا يُشبهنا

memory_option

يَعُجُّ فَضاؤُنا الرَّقميُّ بحساباتٍ وقنواتٍ ومواقعَ ومجموعاتٍ تَستَرجِعُ الماضي وحكاياتِه، مُستَحضِرَةً صُوَرَهُ وأشياءَهُ وأغانيَهُ ومُطرِبيهِ وأفلامَهُ ونُجومَهُ، بوصفِها كَنزًا ثمينًا نُخبِّئُهُ بحِرصٍ في متاحفِ أرواحِنا.

يَنبُشُ جيلُنا في الذّاكرةِ بَحثًا عن مَعنىً مفقودٍ، وفِرارًا من حاضرٍ مُتَهافِتٍ وقاسٍ.

يُفسِّرُ البعضُ هذا الحنينَ على أنّه “ميكانيزمٌ دِفاعيٌّ” في وجهِ عالَمٍ سَقَطَت فيه الأقنِعةُ الّتي كانت يومًا ما تَستُرُ بعضَ عَوراتِه، وبوصفِه استِرجاعًا لعالَمٍ لم يَعُد موجودًا، آمَنَت فيه أجيالٌ مُتلاحِقةٌ بالعدالةِ فاتَّخَذَتها قضيّةً لها، وتَغَنَّت فيه بالحبِّ والوفاءِ والخيرِ.

نَستَعيدُ في الأشياءِ القديمةِ نُسَخًا من أنفُسِنا أكثرَ رِقّةً ورأفةً وبَساطةً (وسذاجةً) وتوازنًا وانضباطًا. وبهذا المَعنى، يُصبِحُ الهُروبُ إلى الماضي وتنقيتُهُ — عَمدًا أو سَهوًا — من شوائبِه، مُحاوَلةً مُستميتةً لاستِرجاعِ إحساسٍ مُتَلاشٍ بالأمانِ.

في خِضَمِّ تَحوُّلاتٍ كُبرى لم يَشهَدِ التاريخُ مِثلَها، وَجَدَت أجيالُ ما قبلَ الألفيّةِ الثالثةِ نَفسَها تُسلَخُ من حياةٍ مُتوقَّعةٍ نوعًا ما، لِيُلقى بها وَسَطَ واقعٍ تَجاوَزَت تيّاراتُهُ وتناقُضاتُهُ أقصى إرهاصاتِ أفلامِ الخيالِ العلميِّ، وتَخطَّت قُدرةَ هذه الأجيالِ على الفَهمِ والاستيعابِ.
في وَسطِ هذا التيهِ، صارَتِ الذّاكرةُ ومَخزونُها شكلًا من أشكالِ المُقاوَمةِ الاجتماعيّةِ والثقافيّةِ، دِفاعًا عن هُويّةٍ مُشتَهاةٍ.

وكعادةِ هذا العَصرِ في تَسليعِ اللاّ شيءِ وكُلِّ شيءٍ، حَوَّلَ الإعلامُ الحَنينَ إلى بضاعةٍ تُباعُ وتُشرى تحت مُسمّى “الزّمنِ الجميلِ”، بهدفِ استِدراجِ جمهورٍ واسعٍ لا تُغريهِ ما تَعرضُهُ أسواقُ النّخاسةِ العَصريّةِ البَرّاقةِ.

لا بأسَ في ذلك، طالَما أنّه يُسهِمُ — ولو عن غيرِ قصدٍ — في حِفظِ إرثٍ وِجدانيٍّ وهُويّةٍ فيها من الأصالةِ والمَعنى ما يُعزّي أرواحَنا التّائهةَ القَلِقةَ الباحثةَ عن السّكينةِ.

العلامات

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تفعيل التنبيهات نعم كلا