كنتُ أشاهد أحد البرامج المشهورة على وسائل التواصل، من النوع الذي يقدّم محتوى علميًّا في قضايا الدين والتراث والفلسفة وعلم الاجتماع. المقدم معروف بحواراته الجريئة وضيوفه من أصحاب الأفكار المختلفة، وهذا في حد ذاته أمرٌ محمود.
لكن في إحدى الحلقات، استضافَ شخصًا قدّمه بعبارةٍ لافتة «يبدو أنك مُتَّهَمٌ بتهمةِ التنوير». ابتسمَ الضيف، وقال: «نعم، فقد أصبح التنويرُ تهمةً هذه الأيام».
توقّفتُ عند عبارة «هذه الأيام»؛ فهي تحمل في طيّاتها مفارقةً لاذعة، إذ عندما نقول «هذه الأيام» فإننا نعني عادةً أن أيامنا صارت أسوأ مما كانت عليه في الماضي. فهل كان التنوير في الماضي مقبولًا أكثر مما هو اليوم؟ وإذا كان كذلك، فهل يبقى اسمه تنويرًا؟
زلزلة المسلّمات
أليس من طبيعةِ التنوير أن يصطدمَ بالراهن، ويهزَّ المسلّماتِ، ويزعجَ المألوف؟ أليس من الطبيعي أن يكون التنويريُّ في مجتمعه موضعَ اتّهامٍ ومقاومة، لأنه يقدّم أفكارًا تتجاوز سكونَ الواقع؟
إذن، إن لم يكنِ التنويرُ اليومَ تهمةً، فهو إمّا فقدَ معناهُ أو صار مُجرّدَ شعار. وإذا صار مقبولًا تمامًا من الجميع، فربما دخلنا مرحلة “ما بعد التنوير” دون أن نشعر.
غير أنّ مشكلتَنا مع مَن يُسمَّون اليوم «تنويريين» لا تكمن في جرأتهم، بل في سطحيّة تلك الجرأة. فالكثيرُ منهم لا يرى في التنوير إلّا الاعتراضَ الدائمَ والنسخَ الأعمى لإنجازاتِ غيره. يتوهّمون أنهم إن اقتبسوا بعضَ الشعارات الغربية وكرّروها في سياقنا العربيّ صاروا بذلك روّادًا للفكر الحديث.
قربان للتجربة
حتى لو سلّمنا ـ جدلًا ـ بأن الحضارةَ الغربية تمثّل ذروةَ التطور الإنساني اليوم، فهل يكون الطريقُ إليها بنسخِ النتائجِ لا ببناءِ الأسباب؟ أليس الأجدرُ بالتنويري أن يقدّم نفسَه قربانًا للتجربة قبل أن يرفعَ شعارَ التحرر؟ أم أنّه يريد أن يقطف الثمار بينما يجلس في مقهى فرنسيٍّ أنيق، يدخّن السيجار، ويكتب منشوراتٍ تُمجّد الغربَ وتزدري بيئته وتاريخه؟
لقد كان للتنوير الأوروبيّ جذورٌ متينة في العلوم والفنون والاكتشافات. لم تُخلّد الإنسانيةُ أسماءَ نيوتن وغاليليو ودا فنشي ولوك ومونتسكيو لأنهم كتبوا على «فايسبوك» منشوراتٍ تسخر من جهل مجتمعاتهم، بل لأنهم أنجزوا شيئًا حقيقيًا نقل الفكر الإنسانيّ خطوةً إلى الأمام.
ماذا قدّمتم أنتم؟
فماذا قدّم لنا «تنويريو» اليوم؟ زار بعضُهم الغربَ ثم عادوا إلينا ببوستات «فايسبوكيّة» تحاربُ الحجابَ وتحلّلُ الخمر، بعد أن انبهروا ببريق الحياة هناك.
فهل المطلوبُ أن ننبهرَ بهم نحن الذين لم نسافر إلى الغرب لأن هذا الغرب ذاته، بما فيه من «قيم الحرية»، ما زال يُغلِق في وجوهنا التأشيرات وينظر إلينا نظرةً عنصرية؟!
علّمونا إذن مما علّمكم الغربُ، لا ما التقطتموه في الحاناتِ والمقاهي!
يُخاطِبون الناسَ من علٍ، كأنهم «كَهَنةُ الحداثة»، ينظرون إلى مجتمعهم بوصفه «مجموعةً من الجهلة والبسطاء»، متأثّرين بمقولةٍ سخيفة عن «القطيع» وتميّزِ النخبة، فيشعرون بأنهم نخبيّون لأنهم حققوا بعض النجاح الماديّ وأصبح لديهم وقت فراغ يقضونه على وسائل التواصل الاجتماعي.
فهل يتوقّعون حقًا أن نتأثر ونتبعهم؟ وإن تبعناهم، ما هي الأفكار التي سيقدّمونها لنا؟ هل درسوا التاريخ العربيَّ وسياقاته الفكريةَ وصولًا إلى يومنا هذا؟ دعْنا من التاريخ العربيّ، هل قرأوا حتى التاريخ الغربيَّ وسياقاته؟ هل اطّلعوا على العلاقاتِ الشائكة بين الشرق والغرب، أو بين الشمال والجنوب ـ بلغةِ هذه الأيام؟
ليس هناك شكٌّ في أن الغرب يمتلك ثقافةً متقدّمة، وهو الذي يقود حضارةَ العالم اليوم، ولا بدّ أن نتعلّم منه الكثير، لكن برويّةٍ ووعيٍ لا بتقليدٍ أعمى.
مشكلتَنا مع مَن يُسمَّون اليوم «تنويريين» لا تكمن في جرأتهم، بل في سطحيّة تلك الجرأة،
فالكثيرُ منهم لا يرى في التنوير إلّا الاعتراضَ الدائمَ والنسخَ الأعمى لإنجازاتِ غيره.
مراهقة وبلادة
علينا أن نتعلّم أولًا، لا أن نبنيَ مواقفَ هزيلةً قائمةً على ردود أفعالٍ شخصية؛ فهذه حركاتٌ صبيانية تشبه سلوكَ المراهق الذي يثور على أهله طلبًا للحرية، ثم لا يلبث أن يدرك أن الحريةَ مسؤولية، وأن والده قد تعب وضحّى وعانى حتى وصل هو إلى ما وصل إليه.
ذلك المراهق، حين يقلّد أولادَ الجيرانِ الأغنياء دون وعيٍ بالماضي والحاضر والمستقبل، يدفع الثمن وحده. وكذلك حالُنا اليوم. إنّ «المتنورين»، أبناءَ هذه العائلةِ الكبيرة، كسالى لا يريدون العملَ ولا التضحيةَ ولا حتى التعلّم، لكنهم يريدون نتائجَ سريعةً تشبهُ وجباتِ «ماكدونالدز» أو «اللايك» الذي يحصل عليه منشورُهم من متنورٍ آخر.
التنويرُ لا يكون بالاستعراض، بل بالإنجاز.
لا بالصراخ في وجه المجتمع، بل بإشعالِ شمعةٍ في عتمته.
أرونا إنجازاتِكم، أبهرونا بعلمِكم، بفنّكم، بفكرِكم الفلسفيّ والاجتماعيّ...
وصدقوني، عندها سنتبعكم، لا لأنكم تصرخون، بل لأنكم تُضيئون...