من يمتلكُ الزمن؟
في أحد أهمّ أفلام الممثل الأمريكي ويل سميث “Concussion” أو “ارتجاجُ المُخّ”، حيث يلعب سميث دورَ طبيبٍ إفريقيٍّ متفوّق، هاجر إلى الولايات المتحدة ليبدأ حياةً علميةً أكاديمية هناك، ليكتشف بالمصادفة أنَّ كرةَ القدم الأمريكية تُسبِّبُ الجنونَ ثم الموتَ لِلاعبيها بعد تقاعدهم، فقرَّر أن يتصادم مع مسؤولي هذه اللعبة الشهيرة التي تُعَدّ من الأركان الأساسية للثقافة الأمريكية.
في أحد الحوارات بين الطبيب ومديره في العمل، ذلك المدير الأمريكي الأصيل الذي يعرف الثقافة الأمريكية أكثر مما يعرفها الطبيب الإفريقي المهاجر، وبينما يُعرِبُ الأخير عن نيته البطولية في مواجهة اتحاد كرة القدم الأمريكية، يُحذِّره المدير من تلك المواجهة فيقول له جملةً عابرةً ولكنها قد تكون واحدةً من أقوى الجمل الثقافية في تاريخ السينما، إذ إنّها — رغم قِصَرها — تختصر انقلابًا ثقافيًا عميقًا أو تغيّرًا حضاريًا جذريًا:
“إنهم يمتلكون يومًا من أيام الأسبوع! اليوم الذي كانت تمتلكه الكنيسة… صار لهم.”
من القداسة إلى الترفيه
أن تمتلكَ يومًا من أيام الأسبوع يعني أن تمتلكَ الزمنَ، فالجزءُ يرمز إلى الكل. وأن تمتلكَ الزمن يعني أن تمتلكَ إيقاعَ الناس الاجتماعي، برنامجهم اليومي أو الأسبوعي، لحظات سكونهم وانفعالهم، وما يجتمعون من أجله.
في الغرب، كان الأحد يومَ الكنيسة، يومَ الربّ، يومَ العائلة والسكينة. لكن عندما تبدّلت السلطةُ الثقافية، ولم تَعُد الكنيسةُ تمتلك سلطةَ إنتاج الحياة، حلّ التلفزيون محلّ الأجراس، والمعلِّق الرياضي محلّ القسّ، تحوَّل الملعب إلى المعبد الجديد، وانتقل المركز من القداسة إلى التسلية، ومن الجماعة إلى الفُرقة.
هكذا يحتلُّ المُدنَّسُ مكانَ المُقدَّس. والمُدنَّس هنا لا يعني بالضرورة النجسَ أو الملوَّث، إنما هو الدنيويُّ العاديّ بحسب تعريف عالم الأديان الشهير ميرسيا إلياده. ولكن في الحقيقة، ما تغيّر ليس المضمون (اللعب بدل الصلاة)، بل الفضاء نفسه؛ اليوم، والوقت، والمكان، والوسيلة.
الوسيط لا المحتوى
هذا هو جوهر مقولة مارشال ماكلوهان الشهيرة:
“The medium is the message”.
فالوسيط — لا المحتوى — هو الذي يحدد شكلَ التفكير وذهنيةَ الإنسان، وبالتالي يشكّل الوعيَ الجمعيَّ والحياةَ العامة.
مثال بسيط على مقولة ماكلوهان: التلفزيون وتأثيره على الحياة، لا من ناحية المحتوى الذي يقدّمه، بل من ناحية كونه الوسيط والوسيلة.
فبعد دخول التلفزيون إلى المنزل تغيّر شكلُ العلاقات العائلية، وأصبح الاجتماعُ العائلي الأهم هو ذلك الذي يكون حول الشاشة التي تحدّد شكلَ غرفة الجلوس الجديدة!
قبل التلفزيون كانت الحياة اليومية تعتمد على الزمن الطبيعي، حركة الشمس وبرامج العمل والطعام. ومع التلفزيون دخل زمنٌ جديد يتحدد بحسب البرامج التي يتناوب أفرادُ العائلة على حضورها.
أذكر جيّدًا أن وقت نومنا أنا وأختي الصغرى كان عندما تبدأ نشرةُ الأخبار تمامًا، فهذا يؤذن بانتهاء وقت برامجنا وبدء برامج الكبار.
كلُّ هذا لا علاقة له بالمحتوى، بل بالوسيلة نفسها التي أحدثت هذه التغييرات، أو ربما استحدثت عاداتٍ أو إيقاعات جديدة تمامًا.
وأهمُّ ما في هذا الأمر مسألةُ السلطة التي أصبح التلفزيون يتمتع بها وتُنتَج على أساسها الحياة.
وإنتاج الحياة يكون وفق آليات سلطوية عديدة، منها الآليات التي تتحكم بالوقت وتنظيم إيقاع الحياة الذي من شأنه تحديدُ المعنى الجمعي للوجود.
الإسلام… سلطةُ إنتاجِ الحياة
لقد أدرك التقويمُ الإسلامي منذ بداياته أنَّ الزمنَ بُنيةٌ حضارية تُنظّم الجماعة التي تُنتج وقتها الخاص، عبر طقوسها وأعيادها وإيقاعِ العمل والراحة فيها. وعندما تقوم بذلك فهي لا تنظّم الوقت فحسب، بل تحتفظ بسلطة إنتاج الحياة؛ فما تُقدِّسه الجماعة يُقفل الباب في وجه أي سلطة أو مؤسسة خارجية تسعى لامتلاك الوقت والزمن.
فللناس خمسُ صلواتٍ في اليوم، وجُمعةٌ في الأسبوع، ورمضان في كل عام، وعِيدان بينهما موسمُ الحج السنوي.
هذا التكرارُ الطقسيُّ في ظاهره يحمل في باطنه نظامًا زمنيًا عامًا متكاملًا ينتج ما يُسمّى “الإيقاع الجمعي“ ويخلق تزامنًا مشتركًا بين ملايين الأفراد في أمكنة مختلفة.
فالصلواتُ الخمس، المنتشرةُ في اليوم كله، هي ما يمنح المدينةَ الإسلامية هويتَها المكانية والزمنية. إنّها خريطةُ الحياة اليومية. والجمعة ليست مجرد صلاة، بل إعادةُ ضبطٍ أسبوعية للإيقاع، وهكذا…
ورمضان، في الحقيقة، قد يكون النموذج الأوضح للزمن الاجتماعي في الإسلام.
فالشهر لا يُعرَّف بالعبادة فقط، بل بتحوّل الإيقاع الجمعي للمجتمع ككل؛ أوقات العمل، السوق، الإعلام، اللقاءات والتجمعات، وحتى المزاج العام يصبح رمضانيَّ النكهة!
وهذه السيادة الرمضانية على الزمن لا تتجلّى في التراويح وقيام الليل فقط؛ فالعبادة هنا هي المحتوى، أمّا الوسيط فهو الزمن الرمضاني نفسه.
فحتى إذا تغيّر المحتوى ليكون سهراتٍ اجتماعيةً تُقدَّم فيها بعضُ محتويات التسلية — التي قد تكون منافية لروح الشهر أحيانًا — إلا أنّ الفضاء العام ما زال ملكَ رمضان، مهما تغيّر المحتوى أو تبدّل.
وسيلةٌ للوجود
إنَّ هذا التنظيمَ الزمنيّ هو ما يحفظ وحدة المجتمع عبر التاريخ؛ إذ يُبقي الناسَ في حالة تزامن رمزيٍّ مستمرّ، ويمنحهم شعورًا بالانتماء يتجاوز السلطةَ والحدود، ويخلق فضاءً للحوار الجماعي وشعورًا بوحدة الزمن والمصير.
الزمن هنا ليس ملكًا لمؤسسة، بل للمجتمع. ليس مجرد وسيلة للتنظيم، بل وسيلة للوجود. لذلك، فالمسألة ليست في ما نفعله في هذه الأوقات، بل في مَن الذي يملكها.
حين تقرر المراجعُ الرسمية الالتحاقَ بجدول السوق العالمية لتغيير شكل يوم الجمعة، نفقد شيئًا أعمق من الطقس نفسه.
إذ إن هذا التغيير لا يمسُّ الشريعة — التي قد تدعم البرنامج الجديد طالما أن هناك فسحةً لأداء الصلاة والعودة للعمل — ولكننا في الحقيقة نفقد الإيقاعَ الذي تمتلكه الجماعة.
وحين يُفقد الإيقاع، تتحول الجماعة من مالكةٍ للزمن إلى متلقّيةٍ له؛ فالسوق هي التي تحدد متى يصمت الناس ومتى يتحدثون، وهذا ما يسميه عالم الاجتماع الفرنسي بورديو بـ”العنف الرمزي”، حين تفرض السلطةُ إيقاعَها بحيث يبدو طبيعيًا وغير قابل للنقاش.
فعندما يُرفع الأذان، أو تتوقف المدينة كلها قبيل الإفطار في رمضان، أو يجتمع الناس في المسجد يوم الجمعة، فإن ما يحدث ليس فقط فعلَ عبادة، بل توليدٌ لحيّز اجتماعي مشترك.
هي آلياتُ ضبطٍ اجتماعيٍّ تنظم المجال العام دون سلطة قسرية، بل سلطةٌ ناعمةٌ يُنتجها تفاعلُ الجماعة مع المقدّس دون تدخل السلطات القمعية.
وهنا يمكن القول إن الإسلام، من خلال هندسته للزمن، خلق فضاءً عامًا متجدّدًا يضمن استمرارية الجماعة حتى في غياب الدولة أو المؤسسة.
فكل هذه الطقوس المرتبطة بالوقت بشكل دقيق ليست طقوسَ عبادة فحسب، بل مواسم اجتماعية تحتل الحيّز العام كل عام، ومساحةً زمنيةً تتسع للجماعة كلها.
حتى في البيئات التي ضعُف فيها المضمونُ الديني، يبقى الإيقاعُ واحدًا، لأنه يملك الفضاءَ العام ويعيد تشكيل الحياة على أساسه.



