لم يكن توقيفُ تاجرِ المخدّراتِ والمطلوبِ للعدالةِ نوحِ زعيتر حدثاً مفاجئاً بحدّ ذاتِه. الرّجلُ الذي ملأ الشاشاتِ ضجيجاً، وتجوّل لسنواتٍ بين الحدودِ والبلداتِ اللبنانيّةِ كأنّه فوقَ القانون، عاش طويلاً تحت مظلّةٍ سياسيّة–أمنيّة غيرِ مُعلَنَةٍ مكّنته من التحرّكِ بحريّةٍ شبهِ مطلقة. لكنّ ما يلفتُ اليوم ليس العمليّةَ الأمنيّةَ في حدّ ذاتِها، بل السياقَ السياسيَّ الذي سمح بحدوثِها.
زعيتر لم يكن مجرّدَ مطلوبٍ فارٍّ من العدالة، بل نموذجاً مُكثَّفاً لِنَمَطٍ من «الاقتصادِ الموازي» الذي نشأ في السنواتِ الماضية في البيئةِ الحاضنةِ لحزبِ الله. اقتصادٌ قائمٌ على التهريب، السلاحِ المنفلت، وشبكاتِ النفوذِ المحليّ التي تتعايشُ مع الدولةِ أو تتخطّاها، وقد شكّل حضورُه الإعلاميُّ العلنيُّ تحدّياً مباشراً لهيبةِ الدولة، لكنّه كان أيضاً مؤشّراً إلى جرأةٍ محميّةٍ أكثرَ منه استعراضاً فرديّاً.
السؤالُ الفعليُّ اليوم، والذي يطرحه اللبنانيّون بوضوحٍ غيرِ مسبوق: هل تخلّى حزبُ الله عن مظلّةِ الحمايةِ التي كان يوفّرها لزعيتر وأمثالِه؟ أم أنّ نفوذَ الحزبِ نفسَه بدأ يتراجعُ إلى الحدّ الذي لم يَعُد معه قادراً على حمايةِ مَن ارتبطوا به؟
تضحيةٌ محسوبةٌ وتراجعٌ لا إرادي
تحليلُ المشهدِ يفتحُ احتمالينِ متناقضينِ يبدوانِ معاً قابلينِ للتصديق. الأوّل: تضحيةٌ محسوبة. فمنذ سنوات، يواجهُ حزبُ الله ضغوطاً متزايدة: عقوباتٍ ماليّة، تضييقاً سياسيّاً، انتقاداتٍ داخليّة من بيئتِه نفسِها، وانكشافاً غيرَ مسبوق بعد تورّطه في محاورَ إقليميّةٍ مُكلفة. في مثل هذا المناخ، قد يرى الحزبُ أنّ «تسليم» بعضِ الأسماءِ التي لطالما شكّلت عبئاً على صورتِه هو ثمنٌ قليلٌ لتحسين موقعِه التفاوضي داخليّاً وخارجيّاً، أو لإعادةِ ضبطِ المشهدِ الأمنيّ في مناطقه، أو لتوجيهِ رسالةٍ مفادُها أنّه لا يُغطّي الفسادَ والمخالفاتِ بلا ضوابط.
الفرضيةُ الثانية تقول إنّ الحزبَ لم يَعُد يمتلكُ القدرةَ نفسَها على حمايةِ شبكةِ المصالحِ التي نشأت تحت جناحِه، ليس فقط بسبب الضغطِ الدوليّ بل أيضاً بسبب تغيّرِ البيئةِ المحليّة. فالتراجعُ الاقتصاديّ، والانقسامُ الاجتماعيّ، وضغطُ المؤسّساتِ الأمنيّةِ الرسميّةِ لاستعادةِ جزءٍ من دورِها، كلّها عواملُ قد تكون أضعفت قدرةَ الحزب على الاستمرارِ في توفيرِ تلك «المظلّة» التي صنعت نماذجَ كزعيتر. بمعنى آخر، قد لا يكون اعتقالُه قراراً بقدرِ ما هو نتيجةُ عجزٍ جديدٍ يَتكشّف تدريجياً.
يبقى السؤالُ مفتوحاً: هل سيبني حزبُ الله استراتيجيّةً جديدةً تقوم على إعادةِ تطبيعِ علاقتِه مع الدولة، وتخفيفِ العبء الأمنيّ عن مناطقه؟ أم أنّ ما نشهده ليس قراراً بل تراجعاً قسريّاً ستظهر ملامحُه بشكلٍ أوضح في الأشهرِ المقبلة؟
دلالاتٌ تتجاوزُ الشخص
الأمرُ المؤكّدُ أنّ توقيفَ زعيتر لا يُقرأ بوصفِه حدثاً جنائيّاً معزولاً، بل مؤشّراً على تحوّلٍ في التوازنِ بين الدولةِ وشبكاتِ النفوذِ غيرِ الرسميّة. فالدولةُ اللبنانيّة، رغم هشاشتِها، تُظهِر في بعضِ اللحظات قدرةً على إعادةِ فرضِ حضورِها، مستفيدةً من لحظاتِ الفراغِ أو الارتباكِ داخل القوى غيرِ الرسميّة. وفي المقابل، تبدو «البيئةُ الرماديّة» التي استفادت من حمايةٍ سياسيّة–أمنيّةٍ سابقة أقلّ تماسكاً ممّا كانت عليه.
كما أنّ الرسالةَ وصلت إلى جمهورِ الحزبِ نفسِه: لم يَعُد بالإمكان ضمانُ الحمايةِ المطلقة. وهذا التحوّلُ وحده كفيلٌ بإعادةِ رسمِ خريطةِ السلوكياتِ داخل المناطقِ المرتبطةِ بالحزب، سواء في الاقتصادِ الموازي أو في إدارةِ النفوذِ المحليّ.
ماذا بعد؟
يبقى السؤالُ مفتوحاً: هل سيبني حزبُ الله استراتيجيّةً جديدةً تقوم على إعادةِ تطبيعِ علاقتِه مع الدولة، وتخفيفِ العبء الأمنيّ عن مناطقه؟ أم أنّ ما نشهده ليس قراراً بل تراجعاً قسريّاً ستظهر ملامحُه بشكلٍ أوضح في الأشهرِ المقبلة؟
في الحالتين، يشير اعتقالُ نوحِ زعيتر إلى مناخٍ لبنانيٍّ جديد. مناخٍ تختبرُ فيه القوى التقليديّة حدودَ قوّتِها، فيما تحاول الدولةُ استعادةَ أجزاءٍ من سلطتِها المفقودة. وفي هذا المشهدِ الضبابيّ، قد لا يكون زعيتر سوى علامةٍ صغيرةٍ على تحوّلٍ أكبر بكثير، يتصل مباشرةً بسؤالٍ جوهريّ: مَن يحكم لبنان فعليّاً؟ ومن يملك حقَّ احتكارِ القوّة؟
حتى تتّضحَ الإجابة، سيظلُّ اعتقالُه ورقةَ اختبارٍ حقيقيّةً لمدى صمودِ الحزب أمام المتغيّرات، ولقدرةِ الدولة على تحويلِ فرصةٍ موضعيّةٍ إلى مسارٍ طويلِ الأمد.