تحميل

إبحث

في الصميم

شهية ترامب الجليدية…أغنى جزيرة في العالم

trump_greenland

في عالَمِ السياسةِ الدوليةِ الذي لا يتوقفُ عن مفاجآتِه، عادتْ فكرةٌ قديمةٌ لتطفوَ على السطحِ بقوة، مثيرةً عاصفةً من الجدلِ والاستغراب: رغبةُ الرئيسِ الأمريكيِّ دونالد ترامب في شراءِ غرينلاند، أكبرِ جزيرةٍ في العالم.
لم تكنْ مجرَّدَ مزحةٍ عابرةٍ أو بالونِ اختبار، بل كشفتْ عن طموحٍ استراتيجيٍّ عميقِ الجذور، يمزجُ بين منطقِ صفقاتِ العقارات، وضروراتِ الأمنِ القومي، وبريقِ الثرواتِ الطبيعيةِ الهائلة.

فما الذي يجعلُ هذه الجزيرةَ الجليديةَ الشاسعة، التي يسكُنُها أقلُّ من 60 ألفَ نسمة، هدفًا ثمينًا في عيونِ رجلِ أعمالٍ تحوَّلَ إلى رئيس؟ وهل يمكنُ لصفقةٍ بدتْ وكأنها من زمنٍ آخرَ أن تتحققَ في القرنِ الحادي والعشرين؟
ما وراءَ الرغبة؟
عندما سُئلَ ترامب عن اهتمامِه بغرينلاند، أجابَ ببساطتِه المعهودة: “إنها صفقةٌ عقاريةٌ كبيرة”. لكنْ خلفَ هذه العبارة، تكمنُ شبكةٌ معقدةٌ من الدوافعِ التي تتجاوزُ مجرَّدَ إضافةِ قطعةِ أرضٍ جديدةٍ إلى الخريطةِ الأمريكية.
تُعتبرُ غرينلاند “حاملةَ طائراتٍ ثابتة” في قلبِ القطبِ الشمالي. موقعُها الجغرافيُّ الفريدُ بين أمريكا الشماليةِ وأوروبا يجعلُها نقطةَ مراقبةٍ مثاليةً للأنشطةِ العسكريةِ الروسيةِ والصينية. بالفعل، تستضيفُ الجزيرةُ قاعدةَ “بيتوفيك” الفضائية (المعروفةَ سابقًا بقاعدةِ ثول الجوية)، وهي دُرَّةُ تاجِ نظامِ الإنذارِ المبكرِ الأمريكي، حيثُ ترصُدُ الصواريخَ الباليستيةَ العابرةَ للقارات. السيطرةُ الكاملةُ على الجزيرةِ تعني تأمينَ هذا الوجودِ العسكريِّ الحيويِّ إلى الأبد، وتحويلَها إلى حِصنٍ أمريكيٍّ متقدمٍ في مواجهةِ أيِّ طموحاتٍ معاديةٍ في المنطقةِ القطبيةِ التي تزدادُ سخونةً، ليس فقط مناخيًّا بل وجيوسياسيًّا.

يرى ترامب في نفسِهِ القدرةَ على إنجازِ ما فشلَ فيه الآخرون، وتحقيقِ "صفقةِ القرن" التي تخلِّدُ اسمَهُ في التاريخ

ثرواتٌ باطنية

تحتَ طبقةِ الجليدِ التي تغطي 80% من مساحتِها، تُخفي غرينلاند كنزًا من المواردِ الطبيعية. هي ليستْ مجرَّدَ جليدٍ وصخور، بل مخزونٌ هائلٌ من المعادنِ الأرضيةِ النادرة (مثل النيوديميوم والتيربيوم)، التي تُعتبرُ عصَبَ الصناعاتِ التكنولوجيةِ المتقدمة، من الهواتفِ الذكيةِ إلى أنظمةِ الأسلحةِ المتطورة.
اليوم، تسيطرُ الصينُ على جزءٍ كبيرٍ من سوقِ هذه المعادن، وضمُّ غرينلاند سيمثِّلُ ضربةً استراتيجيةً لواشنطن، تحرِّرُها من هذا الاعتمادِ الخطير. بالإضافةِ إلى ذلك، تشيرُ التقديراتُ إلى وجودِ احتياطياتٍ ضخمةٍ من النفطِ والغازِ واليورانيوم، والتي أصبحَ الوصولُ إليها ممكنًا مع تسارُعِ وتيرةِ ذوبانِ الجليد.
بالنسبةِ لترامب، فإنَّ إتمامَ صفقةٍ بهذا الحجمِ سيضعُهُ في مصافِّ الرؤساءِ الذين وسَّعوا حدودَ الولاياتِ المتحدة. فالتاريخُ الأمريكيُّ مليءٌ بمثلِ هذه الصفقات: شراءُ لويزيانا من فرنسا عامَ 1803، وألاسكا من روسيا عامَ 1867، وحتى جُزُرِ فيرجن من الدنمارك نفسِها عامَ 1917.
في عام 1946، عرضَ الرئيسُ هاري ترومان 100 مليونِ دولارٍ ذهبًا لشراءِ غرينلاند، لكنَّ طلبَهُ قوبلَ بالرفض. يرى ترامب في نفسِهِ القدرةَ على إنجازِ ما فشلَ فيه الآخرون، وتحقيقِ “صفقةِ القرن” التي تخلِّدُ اسمَهُ في التاريخ.
 

“ليستْ للبيع”

على الجانبِ الآخرِ من الأطلسي، قوبلتْ فكرةُ ترامب بردِّ فعلٍ يمزجُ بين الصدمةِ والسخريةِ والرفضِ القاطع. رئيسةُ وزراءِ الدنمارك، ميتي فريدريكسن، وصفتِ النقاشَ بأنه “سخيف”، مؤكدةً بحزم: “غرينلاند ليستْ للبيع. غرينلاند ليستْ دنماركية. غرينلاند تنتمي إلى غرينلاند”.
هذا الموقفُ ليس مجرَّدَ كبرياءٍ وطني، بل يستندُ إلى واقعٍ قانونيٍّ وسياسي. فبموجبِ “قانونِ الحكمِ الذاتي” لعام 2009، تتمتعُ غرينلاند بسلطاتٍ واسعةٍ لإدارةِ شؤونِها الداخليةِ ومواردِها الطبيعية. ورغمَ أنَّ السياسةَ الخارجيةَ والدفاعيةَ لا تزالُ بيدِ كوبنهاغن، فإنَّ أيَّ قرارٍ يتعلقُ بمستقبلِ الجزيرةِ يجبُ أن ينبعَ من شعبِها. سكّانُ غرينلاند، الذين يفتخرونَ بهويتِهم وثقافتِهم من شعبِ “الإنويت”، يرَوْنَ في أرضِهم وطنًا لا سلعة.
 

سيناريوهاتٌ على الطاولة

 
رغمَ الرفضِ القاطع، فإنَّ التاريخَ يعلِّمُنا أنَّ “المستحيلَ” كلمةٌ مرنةٌ في عالَمِ السياسة. فكيف يمكنُ لواشنطن، نظريًّا، تحقيقُ هذا الهدف؟
  • سيناريو الشراءِ المباشر: هو الخيارُ المفضَّلُ لترامب، لكنه الأكثرُ استحالةً حاليًّا، فهو يتطلبُ تغييرًا جذريًّا في مواقفِ الدنماركِ وغرينلاند، وهو أمرٌ غيرُ مرجَّح.
  • سيناريو الضغطِ الاقتصادي: يمكنُ لواشنطن استخدامُ نفوذِها الاقتصاديِّ للضغطِ على الدنمارك، لكنَّ مثلَ هذه الخطوةِ ضدَّ حليفٍ في الناتو ستكونُ لها تداعياتٌ كارثيةٌ على العلاقاتِ عبرَ الأطلسي.
  • سيناريو دعمِ الاستقلال: قد يكونُ المسارُ الأكثرَ دهاءً هو تشجيعُ ودعمُ استقلالِ غرينلاند الكاملِ عن الدنمارك. وبمجرَّدِ أن تصبحَ دولةً مستقلة، يمكنُ للولاياتِ المتحدةِ أن تعرضَ عليها “اتفاقيةَ ارتباطٍ حرٍّ” (على غِرارِ علاقتِها مع بالاو أو جُزُرِ مارشال) أو حتى الانضمامَ الطوعيَّ إلى الاتحادِ الأمريكي. هذا السيناريو طويلُ الأمدِ ومحفوفٌ بالمخاطر، لكنه يظلُّ احتمالًا قائمًا.

إعادةُ رسمِ خريطةِ القوى العالمية

لو نجحتِ الولاياتُ المتحدةُ بطريقةٍ أو بأخرى في ضمِّ غرينلاند، فإنَّ تداعياتِ ذلك ستكونُ هائلة: استراتيجيًّا: ستتحولُ موازينُ القوى في القطبِ الشماليِّ بشكلٍ حاسمٍ لصالحِ الولاياتِ المتحدة، مما يمنحُها سيطرةً شبهَ كاملةٍ على الممراتِ الملاحيةِ الشماليةِ وموقعًا لا مثيلَ له لمواجهةِ روسيا والصين. اقتصاديًّا: ستحصلُ الصناعاتُ الأمريكيةُ على وصولٍ مباشرٍ وغيرِ محدودٍ إلى مواردَ طبيعيةٍ حيوية، مما يعزِّزُ أمنَها الاقتصاديَّ ويقلِّلُ من اعتمادِها على المنافسين. سياسيًّا: ستكونُ رسالةً قويةً للعالَمِ بأنَّ الولاياتِ المتحدةَ لا تزالُ قادرةً على إعادةِ تشكيلِ الجغرافيا السياسيةِ وفقًا لمصالحِها، حتى لو كان ذلك يعني استخدامَ أساليبَ تعودُ إلى القرنِ التاسعَ عشر. في النهاية، تظلُّ قضيةُ غرينلاند أكثرَ من مجرَّدِ صفقةٍ عقارية. إنها مرآةٌ تعكسُ التوتراتِ الجيوسياسيةَ المتصاعدةَ في عالَمٍ متغيِّر، حيثُ يذوبُ الجليدُ كاشفًا عن خطوطِ صدعٍ جديدةٍ في الصراعِ على النفوذِ والثروةِ والمستقبل.

العلامات

يعجبك ايضاً

أترك تعليقاً

Your email address will not be published. Required fields are marked *

تفعيل التنبيهات نعم كلا