شهية ترامب الجليدية…أغنى جزيرة في العالم
في عالَمِ السياسةِ الدوليةِ الذي لا يتوقفُ عن مفاجآتِه، عادتْ فكرةٌ قديمةٌ لتطفوَ على السطحِ بقوة، مثيرةً عاصفةً من الجدلِ والاستغراب: رغبةُ الرئيسِ الأمريكيِّ دونالد ترامب في شراءِ غرينلاند، أكبرِ جزيرةٍ في العالم.
لم تكنْ مجرَّدَ مزحةٍ عابرةٍ أو بالونِ اختبار، بل كشفتْ عن طموحٍ استراتيجيٍّ عميقِ الجذور، يمزجُ بين منطقِ صفقاتِ العقارات، وضروراتِ الأمنِ القومي، وبريقِ الثرواتِ الطبيعيةِ الهائلة.
فما الذي يجعلُ هذه الجزيرةَ الجليديةَ الشاسعة، التي يسكُنُها أقلُّ من 60 ألفَ نسمة، هدفًا ثمينًا في عيونِ رجلِ أعمالٍ تحوَّلَ إلى رئيس؟ وهل يمكنُ لصفقةٍ بدتْ وكأنها من زمنٍ آخرَ أن تتحققَ في القرنِ الحادي والعشرين؟
ما وراءَ الرغبة؟
عندما سُئلَ ترامب عن اهتمامِه بغرينلاند، أجابَ ببساطتِه المعهودة: “إنها صفقةٌ عقاريةٌ كبيرة”. لكنْ خلفَ هذه العبارة، تكمنُ شبكةٌ معقدةٌ من الدوافعِ التي تتجاوزُ مجرَّدَ إضافةِ قطعةِ أرضٍ جديدةٍ إلى الخريطةِ الأمريكية.
تُعتبرُ غرينلاند “حاملةَ طائراتٍ ثابتة” في قلبِ القطبِ الشمالي. موقعُها الجغرافيُّ الفريدُ بين أمريكا الشماليةِ وأوروبا يجعلُها نقطةَ مراقبةٍ مثاليةً للأنشطةِ العسكريةِ الروسيةِ والصينية. بالفعل، تستضيفُ الجزيرةُ قاعدةَ “بيتوفيك” الفضائية (المعروفةَ سابقًا بقاعدةِ ثول الجوية)، وهي دُرَّةُ تاجِ نظامِ الإنذارِ المبكرِ الأمريكي، حيثُ ترصُدُ الصواريخَ الباليستيةَ العابرةَ للقارات. السيطرةُ الكاملةُ على الجزيرةِ تعني تأمينَ هذا الوجودِ العسكريِّ الحيويِّ إلى الأبد، وتحويلَها إلى حِصنٍ أمريكيٍّ متقدمٍ في مواجهةِ أيِّ طموحاتٍ معاديةٍ في المنطقةِ القطبيةِ التي تزدادُ سخونةً، ليس فقط مناخيًّا بل وجيوسياسيًّا.
ثرواتٌ باطنية
“ليستْ للبيع”
سيناريوهاتٌ على الطاولة
- سيناريو الشراءِ المباشر: هو الخيارُ المفضَّلُ لترامب، لكنه الأكثرُ استحالةً حاليًّا، فهو يتطلبُ تغييرًا جذريًّا في مواقفِ الدنماركِ وغرينلاند، وهو أمرٌ غيرُ مرجَّح.
- سيناريو الضغطِ الاقتصادي: يمكنُ لواشنطن استخدامُ نفوذِها الاقتصاديِّ للضغطِ على الدنمارك، لكنَّ مثلَ هذه الخطوةِ ضدَّ حليفٍ في الناتو ستكونُ لها تداعياتٌ كارثيةٌ على العلاقاتِ عبرَ الأطلسي.
- سيناريو دعمِ الاستقلال: قد يكونُ المسارُ الأكثرَ دهاءً هو تشجيعُ ودعمُ استقلالِ غرينلاند الكاملِ عن الدنمارك. وبمجرَّدِ أن تصبحَ دولةً مستقلة، يمكنُ للولاياتِ المتحدةِ أن تعرضَ عليها “اتفاقيةَ ارتباطٍ حرٍّ” (على غِرارِ علاقتِها مع بالاو أو جُزُرِ مارشال) أو حتى الانضمامَ الطوعيَّ إلى الاتحادِ الأمريكي. هذا السيناريو طويلُ الأمدِ ومحفوفٌ بالمخاطر، لكنه يظلُّ احتمالًا قائمًا.
إعادةُ رسمِ خريطةِ القوى العالمية
لو نجحتِ الولاياتُ المتحدةُ بطريقةٍ أو بأخرى في ضمِّ غرينلاند، فإنَّ تداعياتِ ذلك ستكونُ هائلة: استراتيجيًّا: ستتحولُ موازينُ القوى في القطبِ الشماليِّ بشكلٍ حاسمٍ لصالحِ الولاياتِ المتحدة، مما يمنحُها سيطرةً شبهَ كاملةٍ على الممراتِ الملاحيةِ الشماليةِ وموقعًا لا مثيلَ له لمواجهةِ روسيا والصين. اقتصاديًّا: ستحصلُ الصناعاتُ الأمريكيةُ على وصولٍ مباشرٍ وغيرِ محدودٍ إلى مواردَ طبيعيةٍ حيوية، مما يعزِّزُ أمنَها الاقتصاديَّ ويقلِّلُ من اعتمادِها على المنافسين. سياسيًّا: ستكونُ رسالةً قويةً للعالَمِ بأنَّ الولاياتِ المتحدةَ لا تزالُ قادرةً على إعادةِ تشكيلِ الجغرافيا السياسيةِ وفقًا لمصالحِها، حتى لو كان ذلك يعني استخدامَ أساليبَ تعودُ إلى القرنِ التاسعَ عشر. في النهاية، تظلُّ قضيةُ غرينلاند أكثرَ من مجرَّدِ صفقةٍ عقارية. إنها مرآةٌ تعكسُ التوتراتِ الجيوسياسيةَ المتصاعدةَ في عالَمٍ متغيِّر، حيثُ يذوبُ الجليدُ كاشفًا عن خطوطِ صدعٍ جديدةٍ في الصراعِ على النفوذِ والثروةِ والمستقبل.



