الخليج يتقاتل فوق أنقاض اليمن
في تطوّرٍ يعكسُ تحوّلًا جذريًّا في طبيعةِ العلاقاتِ الخليجيّة، أقدمتِ القوّاتُ الجويّةُ السعوديّة، التي تقودُ تحالفَ دعمِ الشرعيّة، على قصفِ شحناتِ أسلحةٍ إماراتيّةٍ في ميناءِ المكلا بمحافظةِ حضرموت
هذا التصعيدُ العسكريُّ المباشرُ بينَ الحليفينِ السابقينَ يكشفُ عن عمقِ الخلافاتِ الاستراتيجيّةِ التي كانت تتفاعلُ تحتَ السطحِ لسنوات، ويُنذرُ بمرحلةٍ جديدةٍ من الصراعِ على النفوذِ في جنوبِ اليمن، قد تُعيدُ رسمَ خريطةِ المنطقةِ الجيوسياسيّةِ بأكملها.
كانتِ الأسلحةُ، التي شملت طائراتٍ مُسيَّرةً ومركباتٍ قتاليّةً متطوّرة، قادمةً من ميناءِ الفجيرةِ الإماراتيّ ومتّجهةً إلى المجلسِ الانتقاليّ الجنوبيّ، وهو فصيلٌ انفصاليّ تدعمه أبوظبي ويسعى لإحياءِ دولةِ جنوبِ اليمنِ المستقلّة، التي انفصلت عن الشمالِ عام 1990.
جاء الردُّ السعوديُّ حاسمًا وغيرَ مسبوق، حيث وصفت وزارةُ الخارجيّةِ السعوديّةِ الدعمَ الإماراتيَّ للانتقاليّ بأنّه «بالغُ الخطورة»، مؤكّدةً أنّ المساسَ بأمنِ المملكةِ في اليمن «خطٌّ أحمر» لا يمكنُ تجاوزه.
من التحالف إلى التنافس
لم تبدأِ القصّةُ بالصراع، بل بالتحالف. عندما أطاح الحوثيّون بالحكومةِ اليمنيّةِ في سبتمبر 2014، بدا أنّ السعوديّةَ والإماراتِ ستسيران معًا نحو هدفٍ موحّد. في 25 مارس 2015، أطلقت الدولتانِ عمليّةَ «عاصفةِ الحزم»، وهي حملةٌ عسكريّةٌ جويّةٌ ضخمةٌ بهدفِ استعادةِ الحكومةِ الشرعيّةِ ومنعِ تمدّدِ النفوذِ الإيرانيّ في المنطقة.
قادت القوّاتُ الإماراتيّةُ العمليّاتِ البرّيّةَ بكفاءةٍ عسكريّةٍ عالية، بينما سيطرت القوّاتُ الجويّةُ السعوديّةُ على العمليّاتِ في الجوّ.
في تلك الفترة، بدت المصالحُ متطابقة؛ كانتِ السعوديّةُ قلقةً من الحوثيّينَ على حدودِها الجنوبيّة، والإماراتُ تسعى لتعزيزِ دورِها العسكريّ الإقليميّ. بدا التحالفُ قويًّا، خاصّةً عندما وقفت الدولتانِ معًا في يونيو 2017 لقيادةِ مقاطعةِ قطر، ما عزّز التوافقَ بينَ وليّ العهدِ السعوديّ محمد بن سلمان ورئيسِ الإماراتِ محمد بن زايد.
إلّا أنّ الخلافاتِ بدأت تظهرُ مبكّرًا. ففي عام 2016، بدأتِ الإماراتُ تشكّلُ تحدّيًا للنفوذِ السعوديّ حين اضطلعت بأدوارِ مكافحةِ الإرهابِ وإرساءِ الأمنِ والاستقرارِ في المكلا. وفي غضونِ عام، سيطرت قوّاتُها على عدن، أهمّ مدينةٍ في الجنوب، ما أعطاها موطئَ قدمٍ استراتيجيًّا في المنطقة.
لم تكن هذه مجرّدَ عمليّةٍ عسكريّة، بل بدايةَ استراتيجيّةٍ طويلةِ الأمد لتعزيزِ النفوذِ الإماراتيّ في جنوبِ اليمن.
وبينما كانتِ السعوديّةُ تركّزُ على محاربةِ الحوثيّينَ في الشمال، كانتِ الإماراتُ تبني علاقاتٍ عميقةً مع المجلسِ الانتقاليّ الجنوبيّ، الذي يمثّلُ الحركةَ الانفصاليّة.
وفي عام 2019، اتّخذتِ الإماراتُ قرارًا استراتيجيًّا مهمًّا: سحبت قوّاتِها الرسميّةَ من اليمن، لكنّها ظلّت تحتفظُ بنفوذِها الكامل عبرَ المجلسِ الانتقاليّ، تاركةً للسعوديّةِ مسؤوليّةَ الحربِ ضدّ الحوثيّين. كانت هذه خطوةً ذكيّة: تخفيفُ الضغطِ الدوليّ على أبوظبي، مع الحفاظِ على نفوذِها الفعليّ على الأرض.
التنافس الاقتصاديّ والسياسيّ
لم يقتصرِ الخلافُ على اليمن. ففي فبراير 2021، تحدّتِ الرياضُ هيمنةَ دبي التجاريّة، وطلبت من الشركاتِ الأجنبيّةِ نقلَ مقارّها الإقليميّةِ إلى المملكةِ بحلولِ عام 2024، أو خسارةِ عقودٍ مع الدولة.
وفي يوليو 2021، تصاعد التنافسُ الاقتصاديّ بشكلٍ أكبر عندما ألغتِ الرياضُ الامتيازاتِ الجمركيّةَ التفضيليّةَ للسلعِ القادمةِ من المناطقِ الحرّةِ الإماراتيّة، ما قوّض النموذجَ التجاريَّ الإماراتيّ.
في الوقت نفسه، عرقلتِ الإماراتُ اتّفاقًا تقوده السعوديّةُ في منظّمةِ البلدانِ المصدّرةِ للبترول (أوبك)، وطالبت برفعِ مستوى الأساسِ لإنتاجِ النفطِ الخام.
كما اختلفت الدولتانِ في السياسةِ الخارجيّة. ففي سبتمبر 2020، طبّعتِ الإماراتُ العلاقاتِ مع إسرائيلَ بموجبِ «اتّفاقيّاتِ إبراهيم»، بينما أحجمتِ السعوديّةُ عن السيرِ على خطى الإمارات، متمسّكةً بإقامةِ دولةٍ فلسطينيّةٍ أوّلًا.
أعطى هذا أبوظبي قناةً دبلوماسيّةً فريدةً مع الولايات المتّحدة، ما زاد من شعورِ الرياضِ بالقلقِ من تنامي النفوذِ الإماراتيّ.
الصراع على الموارد الاستراتيجيّة
يكمنُ في قلبِ الصراعِ السعوديّ الإماراتيّ التنافسُ على المواردِ الاستراتيجيّةِ في جنوبِ اليمن. تتمتّع محافظتا حضرموت والمهرة بمواردَ نفطيّةٍ وغازيّةٍ ضخمة، إضافةً إلى موانئَ استراتيجيّةٍ تُطلّ على مضيقِ بابِ المندب، أحدِ أهمّ الممرّاتِ البحريّةِ العالميّة.
تسيطرُ الإماراتُ على هذه المواردِ من خلال دعمِها للمجلسِ الانتقاليّ، ما يهدّد المصالحَ السعوديّةَ الاقتصاديّةَ والأمنيّة.
تخشى السعوديّةُ من أن يؤدّي الدعمُ الإماراتيُّ للانتقاليّ إلى انقسامٍ دائمٍ في اليمن، يهدّد وحدةَ البلاد ويُنشئ دولةً منفصلةً على حدودِها الجنوبيّة، ما قد يضعفُ موقفَ الحكومةِ الشرعيّةِ ويجعلُ اليمنَ أكثرَ عرضةً للنفوذِ الإيرانيّ والحوثيّ.
الطموحات الإقليميّة المتنافسة
تسعى الإماراتُ إلى لعبِ دورٍ إقليميٍّ أكبر، يتجاوزُ دورَها التقليديّ كدولةٍ خليجيّةٍ صغيرة. دعمُها للمجلسِ الانتقاليّ، وتطبيعُها مع إسرائيل، وتدخّلُها في السودان، يعكسُ طموحاتٍ إقليميّةً أوسع.
في المقابل، ترى السعوديّةُ نفسها قوّةً إقليميّةً كبرى يجب أن تحافظَ على هيمنتِها، وتنظرُ بقلقٍ إلى محاولاتِ الإماراتِ تحدّي هذه الهيمنة.
تختلف الدولتانِ جذريًّا في رؤيتِهما لحلّ الأزمةِ اليمنيّة؛ فالسعوديّةُ تركّزُ على محاربةِ الحوثيّينَ والحفاظِ على وحدةِ البلاد، بينما تركّزُ الإماراتُ على بناءِ نفوذٍ محلّيّ عبرَ قوّاتٍ بديلة.
نقطة الانقلاب
صباحَ اليوم، شنّت مقاتلاتٌ سعوديّةٌ ضربةً جويّةً على ميناءِ المكلا في حضرموت، استهدفت شحناتِ أسلحةٍ كانت تُفرَّغُ من سفينتين قادمتينِ من ميناءِ الفجيرةِ الإماراتيّ.
ووفقًا لوكالةِ الأنباءِ السعوديّة «واس»، قام طاقما السفينتين بتعطيلِ أنظمةِ التتبّع الخاصّة بهما، وتفريغِ كمّيّةٍ كبيرةٍ من الأسلحةِ والمركباتِ القتاليّةِ لدعمِ قوّاتِ المجلسِ الانتقاليّ الجنوبيّ.
تضمّنت الشحناتُ طائراتٍ مُسيَّرةً متطوّرة، إلى جانبِ عتادٍ عسكريٍّ متقدّمٍ وآليّاتٍ قتاليّة. وصفتِ السعوديّةُ العمليّةَ بأنّها «محدودة»، وتمّت وفقًا للقانونِ الدوليّ الإنسانيّ، ولم تُسفر عن أضرارٍ جانبيّة. لكنّ الرسالةَ كانت واضحة: لن تسمحَ السعوديّةُ بنقلِ أسلحةٍ متطوّرةٍ إلى قوّاتٍ تدعمها الإمارات.



