من الفردوس المالي إلى الهامش المنسي لم يكن لقبُ “سويسرا الشرق” مجاملةً شاعريّةً وحسب، بل وصفًا دقيقًا لحقبةٍ عاشها لبنان في الخمسينات والستينات من القرن الماضي، حين كان يختصرُ الشرقَ الأوسطَ في نسخةٍ مُصغَّرةٍ من أوروبا الليبراليّة.بلدٌ صغيرُ المساحة، كبيرُ الحضور، جمع بين السريّة المصرفيّة والحرّيّة الصحافيّة والتنوّع الثقافيِّ المُترف. كانت بيروت آنذاك أشبهَ بـ“مقهى الشرق”، تجتمع فيها رؤوسُ الأموال من الخليج، والأفكارُ من القاهرة، والمثقفون من دمشق، والسيّاح من باريس.لكنّ هذا المشهد الذي صوّر لبنان كمرفأٍ مفتوحٍ على العالم، بدأ يتداعى حين قرّر الشرقُ أن يُدخِل لبنان في صراعاته، وقرّر لبنان أن يكون مسرحًا لها. بيروت تُنافِسُ جنيف في عام 1956، أقرّ البرلمان اللبنانيُّ قانونَ السريّة المصرفيّة الذي جعل بيروت ملاذًا آمنًا للأموال العربيّة، في زمنٍ كانت فيه الأنظمة القوميّة تُؤمِّم وتُصادِر. ومع انفتاحها الاقتصادي وحيادها النسبي، أصبحت بيروت مركزًا ماليًا وإعلاميًا، ومقرًّا للبعثات الدبلوماسيّة والشركات الدوليّة. الطبيعةُ الجبليّةُ الخلّابة، الحريّاتُ الاجتماعيّة، وتعايشُ الطوائف، جعلت منها سويسرا مُصغّرة على ضفاف المتوسّط.لكن ما لم يُدرِكه اللبنانيّون آنذاك، أنّ سويسرا لم تُبنَ على الجمال ولا على التنوّع، بل على نظامٍ دقيقٍ من الحيادِ والصرامةِ والانضباط. وهي صفاتٌ لم تعرف طريقها إلى لبنان إلّا في المناسبات الخطابيّة. حين نقول اليوم إنّ “لبنان كِذبةُ سويسرا الشرق”، فالمقصود ليس التاريخ بل العِناد في تكرار الوهم. الكِذبة ليست في الماضي، بل في رفض الاعتراف بأنّ الماضي انتهى من المرفأ إلى المتاهة في سبعينات القرن الماضي، كان مرفأُ بيروت بوّابةَ الشرق الأوسط. منه تمرّ التجارة بين أوروبا والعالم العربي، وعبر مطارها الدولي كانت المنطقة تتواصل مع الغرب.ثم جاءت الحربُ الأهليّة عام 1975 لتُغلِق هذه البوّابة، وتحوّل لبنان من ممرٍّ اقتصاديٍّ إلى ميدانِ صراعٍ إقليميٍّ ودوليّ. منذ ذلك التاريخ، فقد لبنان وظيفتَه الجغرافيّة والاقتصاديّة. تحوّل من مركزٍ ماليٍّ إلى ساحةِ نفوذ. صارت أرضُه تُستَخدَم لتصفيةِ الحسابات لا لإبرامها، ومؤسساته رهينةً لمعادلاتٍ تتجاوز حدوده. اتّخذه الفلسطينيّون ساحةَ مواجهة، وجعلهُ السوريّون منطقةَ نفوذ، وأرسى الإيرانيّون فيه مشروعهم العقائدي، أمّا الخليجيّون فغادروه على وقع الدمار والفساد.وبذلك، تراجعت فكرةُ “لبنان المرفأ” لتحلّ محلّها “لبنان المتاهة”. دولةٌ بلا بوصلة في عالمٍ لا يَعترف إلّا بالقوّة والاقتصاد والمعرفة، خسر لبنان موقعه الثلاثي: لا قوّة يمتلكها، بعد تَفكُّك مؤسّسات الجيش والدولة بين المحاور. ولا اقتصادًا مُنتِجًا، بعد انهيار القطاع المصرفي الذي كان يومًا فخرَ الشرق. ولا مشروعًا فكريًّا أو ثقافيًّا جامعًا، بعدما تحوّلت نخبته إلى طوائف فكريّة وسياسيّة متناحرة. الدورُ الإقليميُّ يحتاج إلى قرارٍ سياديٍّ موحّد، وإلى اقتصادٍ مستقلٍّ قادرٍ على التبادل، وإلى رؤيةٍ سياسيّة تُقنِعُ الخارج والداخل معًا. ولبنان اليوم لا يملك أيًّا منها. بنت دولُ المنطقة أدوارَها على ركائز واضحة: تركيا على الصناعة، والإمارات العربيّة المتّحدة على المال، وقطر على الإعلام والغاز، وإيران على قوّة النفوذ، بينما بَنى لبنان مجدَه على الانطباع؛ على الصورةِ الجميلة لا على البنيةِ الصُلبة. تكرارُ الوهم حين نقول اليوم إنّ “لبنان كِذبةُ سويسرا الشرق”، فالمقصود ليس التاريخ بل العِناد في تكرار الوهم.الكِذبة ليست في الماضي، بل في رفض الاعتراف بأنّ الماضي انتهى.لبنان كان يومًا سويسرا الشرق حين كان الشرق بحاجةٍ إلى نموذجٍ مدنيٍّ مُنفتح، لكنه اليوم يحتاج إلى نموذجٍ ناجٍ من الانهيار.البلدُ الذي صدّر الفكرَ والفنَّ والإعلامَ صار يستورد المساعدات والوساطات.والدولةُ التي علّمت جيرانها المصارفَ، لا تمتلك اليوم نظامًا مصرفيًّا.والمجتمعُ الذي قدّم نفسَهُ جسرًا بين الشرق والغرب، أصبح هوّةً في فراغٍ بينهما. مختبرُ الشرق لعلّه آن الأوان أن يتحرّر لبنان من إرثه الرومانسيّ وأن يبحث عن هويّةٍ واقعيّةٍ جديدة.ليس كنسخةٍ شرقيّةٍ من أوروبا، بل كـمختبرٍ عربيٍّ للتجربة الإنسانيّة والفكريّة.فهو البلدُ الذي تُختبَر فيه الديمقراطيّة كما تُختبر الطائفيّة،تُولَدُ فيه الأفكارُ كما تنهار،ويتقاطع فيه الشرقُ والغرب في لحظةٍ واحدة.الدورُ الجديد لا يُبنى على الذهب ولا على السريّة المصرفيّة، بل على الثقافة، والتعليم، والإبداع.فلبنان، حتى في انهياره، ما زال يُنتِجُ فنًّا وأدبًا ومبادراتٍ إنسانيّةً تفوق حجمَه الجغرافيّ والسياسيّ.إنه بلدٌ ينهار واقفًا، لكن ما زال قادرًا على إنتاجِ المعنى في زمنِ اللامعنى. قد يكون “سويسرا الشرق” لقبًا جميلًا، لكنه اليوم يشبه بطاقةَ تعريفٍ قديمة فقدت صلاحيّتها. ومع ذلك، يبقى في لبنان ما يتجاوز الكذبة: روحٌ لا تنكسر بسهولة، ومجتمعٌ يرفضُ الاستسلام مهما كان الخراب. ربما لم يعُد لبنان مرفأ الشرق، لكنه ما زال مرآتَه؛ مرآةَ حضارةٍ تبحث عن ذاتها في زمنِ العواصف.
عَلِمَتْ صحيفةُ “البوست” من مصادرَ سياسيّةٍ مُطَّلِعة، أنّ حزبَ الله تقدَّم، منذ فترة، بعدّة طَلَباتٍ بشكلٍ مباشرٍ وغير مباشر، عبر شخصيّاتٍ صديقة، لطلبِ تحديدِ لقاءٍ بين وفدٍ من الحزب والنائب أُسامة سعد. إلّا أنّ الجواب كان يأتي على الشكلِ الآتي: “الحكيم مَشغول هالفترة”؛ وذلك بعدَ احتدامِ الخلافِ بين الطرفين، عقبَ انسحابِ وفدٍ من الحزب من فعاليّةٍ سياسيّةٍ في صيدا، تناولَ فيها سعدٌ موضوعَ انتقالِ المقاومة “مِن حَوْلِ المقاومةِ إلى فِعلٍ مَذهبيٍّ ضيّق”. وبحسبِ مُتابعين، تأتي هذه المحاولاتُ من قِبَلِ الحزب لإعادةِ الوَصلِ مع نائبِ صيدا في توقيتٍ دقيق، على أعتابِ ترقّبِ تصعيدٍ في العدوانِ الإسرائيلي، من المتوقَّعِ أن يُنتِجَ حالةَ نُزوحٍ “جنوبيّ” باتجاهِ عاصمةِ الجنوب. كما لا يمكنُ قراءةُ الأمرِ إلّا باعتباره مؤشِّرًا دالًّا على مَعالِمِ التحالفاتِ التي منَ المُحتَمَل أن “تِركَب” على خارطةِ المتنافسين في الانتخاباتِ النيابية المقبلة. فهل يُعيدُ سعدٌ تبييضَ صفحةِ الحزب في المدينة بعد كلّ ما جرى؟ في السياسةِ لا شيء ثابت… ولا حتّى مُتحرّك….هي لعبةُ المصالح على حسابِ “القطيع”.
تُنتج الشركاتُ العالميةُ سنويًّا ملياراتِ القطَعِ من الملابس، أكثر بكثيرٍ ممّا يستهلكه البشرُ على هذا الكوكبِ المُثقَلِ بالأزماتِ والمشاكل. لكن، مَن منّا طرح مرّةً على نفسه هذا السؤال: ماذا يحدث عندما يُصبحُ إنتاجُ الألبسة أسرعَ من الطلبِ عليها؟ وأين تذهبُ كلُّ هذه الملابس الزائدةُ عن الحاجة؟ تُخفي صناعةُ الأزياء اليوم، خلفَ واجهاتِ المتاجرِ البرّاقةِ وعروضِ التخفيضاتِ الجذّابة، قصةً أكثرَ تعقيدًا تتسابقُ فيها الشركاتُ على إنتاجِ كميّاتٍ هائلةٍ من الملابسِ بتكلفةٍ منخفضةٍ وسرعةٍ محمومة، في ما يُعرَف بظاهرة “الموضة السريعة” Fast Fashion. وباتت الشركاتُ تطرحُ مجموعاتٍ جديدةً كلَّ بضعةِ أسابيع، بدلًا من بدايةِ كلِّ موسم، في نموذجٍ مُفرِطٍ في الاستهلاكيّة، قائمٍ على دورةٍ لا تنتهي من الإنتاجِ والشراءِ والبيعِ والإتلاف. أين تذهب كلُّ هذه الملابس؟ في الواقع، تقول الإحصاءاتُ إنَّ نحوَ ثلثِ ما يُنتَج لا يُباعُ أبدًا، وإنّ بعضَ الشركاتِ تعمدُ إلى تخزينهِ مؤقّتًا ومن ثمَّ بيعهِ إلى الأسواقِ الثانوية، فيما بعضها الآخرُ يحرقُه أو يطمُرُه لتجنّبِ بيعهِ بأسعارٍ منخفضةٍ “تُضعِف” من قيمةِ العلامةِ التجارية. ففي عام 2024، بلغت كميّاتُ النفاياتِ من الملابسِ التي يتخلّصُ منها العالم قرابة 120 مليون طنٍّ متري، ومن المتوقّع أن تتجاوزَ هذه الكمية 150 مليون طنٍّ سنويًّا خلال السنواتِ القادمة. أمّا القيمةُ الاقتصاديةُ الخامُّ للمنسوجاتِ غيرِ المسترجَعة (أي التي لا يُعاد تدويرُها) فتُقدَّر بنحو 150 مليار دولارٍ أميركيّ سنويًّا. في عام 2018، اعترفت شركةُ بوربري بحرقِ ما قيمتُه أكثرُ من 28 مليون جنيهٍ إسترليني (أي نحو 37 مليون دولار) من الملابسِ والأكسسواراتِ والعطورِ الجديدةِ غيرِ المباعة، للحفاظِ على “صورتها الفاخرة”، بحسب مقالةٍ لــ “بي بي سي نيوز”. ظهرَ هذا الاعترافُ في تقريرِ الشركةِ السنويّ، وتبيّنَ أنها ليست المرّة الأولى، وأنّ الشركةَ معتادةٌ على اتخاذِ هذا الإجراء. أثار هذا الخبر ردودَ فعلٍ غاضبةً من جماعاتِ حمايةِ البيئةِ والمساهمين والجمهور، في وقتٍ تُتَّهَمُ فيه صناعةُ الأزياء أصلًا بالتلويثِ والإفراطِ في الإنتاج. يُظهِرُ مثلُ هذا الإجراءِ استخفافًا بالاستدامة، وصَفَتْهُ منظمةُ “السلام الأخضر” ومنظماتٌ أخرى بأنّه “رمزٌ لكلّ ما هو خاطئٌ في صناعةِ الأزياء”. في سبتمبر 2018، وعقبَ موجةِ الغضب تلك، أعلنت بوربري أنّها ستتوقّفُ فورًا عن إتلافِ البضائعِ غيرِ المباعة، كما تعهّدت بإعادةِ استخدامِ أو إصلاحِ أو إعادة تدويرِ المنتجاتِ غيرِ المباعة أو التبرّعِ بها، بدلًا من حرقها. تقول الإحصاءاتُ إنَّ نحوَ ثلثِ ما يُنتَج لا يُباعُ أبدًا، وإنّ بعضَ الشركاتِ تعمدُ إلى تخزينهِ مؤقّتًا ومن ثمَّ بيعهِ إلى الأسواقِ الثانوية، فيما بعضها الآخرُ يحرقُه أو يطمُرُه لتجنّبِ بيعهِ بأسعارٍ منخفضةٍ “تُضعِف” من قيمةِ العلامةِ التجارية تحاول بعضُ الشركاتِ الكبرى اليومَ تلميعَ صورتِها من خلالِ إطلاقِ مبادراتٍ لإعادة تدويرِ الملابسِ القديمة. لكن الدراساتِ تشيرُ إلى أنّ أقلّ من 1% فقط من الألبسةِ المستعملةِ يُعادُ تدويرُها فعلًا. أمّا الباقي فيُنقَلُ بعضُهُ إلى دولٍ فقيرةٍ في إفريقيا وآسيا حيث يُباعُ كملابسَ مستعملة، أو يُرمى في مكبّاتٍ ضخمةٍ تُلوّثُ التربةَ والينابيع والأنهار والهواء. ما الحلّ؟ إنّ تغييرَ هذا الواقع يبدأُ من المستهلكِ نفسه. وحريٌّ بنا قبل شراءِ أيّ قطعةِ ملابسٍ أن نطرحَ مجموعةً من الأسئلة:هل أحتاجُها فعلًا؟هل سأحافظُ عليها؟وماذا أفعلُ بالملابسِ المُعلّقةِ في خزانتِي منذُ سنوات؟هل كانت رحلةُ هذه الملابسِ قبلَ أن تحطَّ في خزائنِنا مُنصِفةً للأيدي التي صنعتها؟ استغلال الطبقة العاملة لقد وثّقت دراساتٌ كثيرةٌ انتهاكًا واضحًا لحقوقِ العاملين في صناعةِ الألبسة، حتى تلك التي تحملُ علاماتٍ تجاريةً عالمية. ففي كمبوديا مثلًا، أشارت التقاريرُ إلى أنّ العمالَ يحصلونَ على أجورٍ ضئيلةٍ ويعملونَ ساعاتٍ طويلةً وبشروطٍ صعبة. وفي بنغلاديش وغيرها، اشتكى العمالُ من التأخيرِ في دفعِ الأجور، إن دُفِعت، ومن حرمانِهم من حقوقِهم، لأنّ شركاتِ الألبسةِ تعتمدُ على خفضِ التكلفةِ لزيادةِ أرباحِها، والحلقةُ الأضعفُ هي العمّال. وبقيّةُ القصةِ معروفة: مُورّدونَ يتنافسون لتقديمِ أرخصِ الأسعارِ باقتطاعِ ما يستطيعونَ من أجورِ اليدِ العاملة في ظروفِ عملٍ غيرِ إنسانيةٍ في أغلبِ الأحيان. أمّا الأضرارُ على البيئة، فحدِّثْ ولا حرج. مياهٌ مهدورة، ومواردُ منهوبة، وطاقةٌ مستنزفة، وانبعاثاتٌ كربونية، وبوليستر، وأليافٌ بلاستيكيةٌ ملوِّثة. إنه مشهدٌ فحسبُ في قصةِ صناعةِ الموضةِ القاتلة. أمّا عن تسليعِ الأجسادِ التي ترتديها في زمنِ الصورةِ والسوشال ميديا، فذلك حديثٌ آخر… طويلٌ وحزين.