بينما يستعدُّ لبنانُ لموسمٍ صيفيٍّ جديد، وسطَ التوتراتِ الإقليميةِ وتداعياتِها، مع أملهِ باستقطابِ السُّيّاحِ أو عودةِ المغتربين اللبنانيين لقضاءِ إجازاتِهم، تبرزُ تحدّياتٌ تتعلّق بالتفلّتِ الأمني في كثيرٍ من مناطقه، ومن بينها مدنُ الجنوبِ اللبنانيّ مثل مدينةِ صيدا العريقة في أقلّ من أسبوع، شهدت صيدا، ذات الموقعِ الجيوسياسيّ الحسّاس، جملةً من الحوادثِ وُصفت من قِبَلِ جهاتٍ مستقلّةٍ في المدينة بأنها تشهدُ على “الانفلاتِ الحاصلِ على مختلفِ الأصعدة وغيابِ المعالجةِ والمحاسبة”. مسلسلُ العنفِ والتفلّتِ سجّل تعرُّض أحد الصحافيين الذين يتناولون تحدّياتِ الإهمالِ والفسادِ في المدينة، ويكتبُ مقالاتٍ ذات طابعٍ استقصائيٍّ عن تردّي القطاعاتِ الصحيةِ والمجتمعيةِ فيها وتأثيرِ ذلك على السكان، لاعتداءٍ بالضربِ المُبرِح من قِبَلِ شبّانٍ وصفتهم البياناتُ الاستنكارية لاحقًا بـ”البلطجية”. وفي حيثياتِ ما بات يُعرفُ بقضية #بلطجية_شاطئ_صيدا، أنَّ المعتدين تربّصوا بالصحافي إبراهيم توتونجي، أثناء قيامِه بممارسةِ رياضتِه على الشاطئ، وانهالوا عليهِ بالضربِ والترهيب، ما سبّب له إصاباتٍ جسديةً ونفسيةً بارزة. وخلال اليوم ذاته، أدّى إطلاقُ نارٍ من أحدِ المسلحين على مواطنين يعملون في مجالِ توليدِ الكهرباءِ البديلةِ في الأحياءِ إلى إصابات، وتمّ تداولُ فيديو لهذه الواقعة، يُظهر اقتحامَ المسلّحِ لأحدِ السياراتِ وفتحَهُ أبوابَها بالقوّة، وإطلاقَ الرصاصِ على من فيها، من رشاشٍ حربيّ. وأظهرَ فيديو آخر قيامَ أحدِ الأشخاصِ بالاعتداءِ الجسديّ على سيّدةٍ في مكانٍ عامٍّ لممارسةِ رياضةِ لعبة “البادل”، وظهرت السيدةُ في الفيديو المُتداول وهي تتعرّضُ لصفعاتٍ متتاليةٍ من رجلٍ، وجَّه لها شتائمَ وإهاناتٍ، إضافةً إلى الضرب. وفي فيديو صادمٍ آخر، على مقربةٍ من الجامعِ الرئيسيّ قرب كورنيش المدينة، أظهرت الصورُ هجومًا جماعيًّا من رجالٍ على رجلٍ واحد، مستخدمين أدواتٍ مختلفةً للتعدّي، من كراسٍ وعصيٍّ وأدواتٍ حادّة. وتداول الناس تعليقاتٍ كثيرةً عن شجاعةِ الرجلِ الذي ارتدى زيًّا رسميًّا يوحي بطبيعةِ مهنتِه الخاصةِ بالشأنِ العامّ، وهو يقاومُ بشراسةٍ المعتدين. ويبقى السؤال إن كانت هذه الحادثةُ هي عبارةً عن رسالةٍ للجريدةِ التي صدرت مؤخرًا بشكلٍ مغايرٍ عمّا هو سائدٌ في إعلام المناطقِ والمدن، من أجل “تحسين وتطوير الحياةِ في المدينةِ عبر العملِ الإعلاميّ المهنيّ الحرّ والمسؤول #بلطجية_شاطئ_صيدا وأثارت تلك الأحداث، ومن بينها الحدث الذي بات يُعرف إعلاميًّا بـ**#بلطجية_شاطئ_صيدا**، ردودَ فعلٍ واسعةً تعدّت النطاقَ الجغرافيَّ للمدينةِ ولبنان، لتصلَ الأصداءُ إلى الخارج. وعلّق الرسّام زاهر البزري، ابن المدينة، وأحدُ الفنانين المعروفين عالميًّا والحائزُ على عدّةِ جوائزَ عن لوحاتٍ جسّدت التراثَ الحضاريَّ لصيدا، في بيانٍ صدرَ باسم “الشارع الثقافي”، وهي الجمعية التي أسّسها ويديرها:“إنّ ما نشهده من مخالفاتٍ وفوضى في المدينة ليس إلا انعكاسًا لحالةِ الانحدارِ الأخلاقيِّ والسلوكيِّ، التي لا تمثّل القيمَ الحقيقيةَ لأُسَرِ مدينةِ صيدا، ولا تعكسُ صورةَ التربيةِ الأصيلةِ التي نشأت عليها العائلاتُ الصيداوية.” من جهتها، أشار تجمُّع “مهندسون من صيدا والجوار” إلى الأعطالِ التي تواجهُ آلياتِ التبليغِ عن الاعتداء، مستشهدًا بحادثةِ التعدّي على الصحافي توتونجي، بكونِه حاولَ طلبَ النجدةِ من رقمِ الطوارئ 112 أكثرَ من مرةٍ دون أيّ ردّ.وتساءل البيان:“هل أصبحت صيدا محكومةً بشريعةِ الغاب؟ وهل بات العنفُ والسلاحُ والاعتداءُ العلنيُّ جزءًا من الحياةِ اليوميةِ في المدينة؟” وأضاف “المهندسون”: “أين القوى الأمنية؟ أين شرطةُ البلدية؟ ومن يحمي ويُحاسب؟” في السياق ذاته، برز ربطٌ بين أثرِ هذه الأحداثِ المتكرّرة على الدورةِ الاقتصاديةِ للمدينة، التي تعتمدُ بشكلٍ كبيرٍ على الزياراتِ الداخليةِ والخارجيةِ لإرثِها وآثارِها ومرافقِها السياحية، وأشار بيانٌ صدر عن “المركز الوطني للعيون”، وهو مؤسّسةٌ غير تجاريةٍ تساعد على معالجةِ فاقدي البصر، وتتخذُ من المدينة مركزًا لها، إلى إساءةِ هذه الأحداثِ للحركةِ التجاريةِ في المدينة، الأمرُ الذي يزيدُ من قسوةِ الأزمةِ الاقتصاديةِ الخانقةِ التي تمرُّ بها، كما كاملُ لبنان.وذكر بيانُ المركز أنَّ الصحافي الذي تعرّضَ للضرب هو أحدُ الشخصياتِ “المعروف عنه حبُّه وتعلُّقه بمدينتِه وإثارتُه لقضاياها التنمويةِ والبيئيةِ عبر مقالاتِه وإطلالاتِه الإعلاميةِ المحليةِ والعربية”. وتساءل الصحافيُّ الاستقصائيُّ وفيق هواري، الذي ينتمي للمدينةِ ويكشفُ قضايا المخالفاتِ والفسادِ فيها، في خبرِه عن حادثةِ الاعتداء على زميلِه توتونجي، والذي نُشرَ في موقع جريدة “البوست” Al-Post بعنوان: “صيدا لم تعد آمنةً لأهلها”، إن كانت هذه الحادثةُ هي عبارةً عن رسالةٍ للجريدةِ التي صدرت مؤخرًا بشكلٍ مغايرٍ عمّا هو سائدٌ في إعلام المناطقِ والمدن، من أجل “تحسين وتطوير الحياةِ في المدينةِ عبر العملِ الإعلاميّ المهنيّ الحرّ والمسؤول”، أم أنها “حادثةٌ فرديةٌ تُظهر هشاشةَ الوضعِ الأمنيِّ والإنسانيِّ في مدينةٍ تحاول نفضَ الغبارِ عن تراكماتِ الرجعيةِ والغبنِ واللامبالاة التي أوصلت مستوى الحياة فيها إلى ما وصلت إليه اليوم؟” الاعلام المسؤول وقال الصحافيُّ إبراهيم توتونجي، الذي تعرّضَ لحادثةِ الاعتداء، في منشورٍ على صفحتِه على “فيسبوك”:“شعرتُ بألمٍ كبيرٍ على المستويين الشخصيّ والمهنيّ، إذ تعرّضتُ في مدينتي إلى اعتداءاتٍ متتاليةٍ على مرأى من جموع الناس، ثمّ على مرأى من عناصرِ شرطةِ البلدية، من دون أن يتدخل أحدٌ لنجدتي”.وأضاف: “لطالما دافعتُ عن حقوقِ الناس بالسلامةِ الجسديةِ والنفسيةِ في الأماكنِ العامة، وكتبتُ الكثيرَ عن ذلك، لأجدَ نفسي اليومَ ضحيةَ ممارساتِ البلطجة، وجهًا لوجه”.وأكّد على مُضيّه في اتخاذِ كافةِ المسالكِ القانونيةِ والحقوقيةِ للوصولِ إلى العدالةِ ومعاقبةِ المعتدين. وكَرِسالةٍ منه بالتمسكِ بحريةِ التعبيرِ عن الآراءِ والأفكار، وكذلك نمطِ الحياة، أعاد توتونجي بعد الحادثة نشر مقتطفاتٍ من مقالاتِه التي نشرتها “البوست” خلال شهر يونيو، كتأكيدٍ على عدمِ تراجعه، رغمَ الترهيب، عن القيامِ بدورِه المهني. ويرِد في مقالةٍ تحمل اسم “كاوبوي على سُلّمِ المستوصف”:“تمسكُ المستوصفاتُ الناسَ من أياديها وأعناقها وكراماتِها، لأنّ البديلَ بالطبع: عياداتٌ خاصّة، للأطبّاء ذاتهم، يُدفَع لقاء التحدّثِ معهم لدقائق، بدلًا يبدأ من خمسين دولارًا، في بلدٍ لا يتنطّح الحدّ الأدنى للأجور فيه فوق 350 دولارًا.” وفي مقالةٍ أخرى حملت اسم “قرقعة على رأس الهلالية”، يسلّط توتونجي الضوء على مساراتِ السياسةِ المدمّرةِ في صيدا مثل: السيطرة على أراضي أهل المدينة عبر التلاعبِ بسلطات المجلس البلدي، التواطؤ بين الإقطاعيين السياسيين وأصحاب الأعمال، تسويق مشاريعَ إلى حكومات الدولِ المانحة والصناديقِ الداعمة بهدف الحفاظِ على الإرث الحضاري للمدينة التي تُعدّ من أقدمِ مدن البشرية الحية، نهب الجزء الأكبر من أموال المانحين باستخدام النفوذ السياسي وألاعيب الكذب والفساد، انتهاك الأمان الصحي والنفسي لسكان المدينة وقتل روح المحاججة والمحاسبة عبر إغراقها حرفيًّا بالنفايات. ويرِد في المقالة:“حين يخرج صيداوي من بيته صباح أحد الأيام، ولا يعود إلّا جثةً لحضن أهله: إما لأنّ مشافي المدينة تعجُّ بالفيروساتِ المتغلغلةِ في أجهزة التنفّس، والتي تنخر أيضًا “مهارات” الطاقم التمريضي، قليلِ الخبرة والتعاطف، بينما يتنعم أصحابها بالثرواتِ تُضَخُّ لحساباتهم “الفريش” ليلَ نهار، من دون أدنى تأكّدٍ من مواءمةِ منشآتهم للاحتياجات الصحية والإنسانية، أو بالموتِ على الطرقات لأنّ قوانينَ البلديةِ ووظائفَها المتعلقةَ بالإنارة العامة، وحفرِ الطرقات، وأدبياتِ طرق المشاة، والفتحاتِ غير القانونية بين الشوارع، ومافيا بيعِ الموتوسيكلات ونشرِها وتطبيعِ حماقاتِها… هي قوانينُ تنام في سرير الأدراج العتيقة. أو لأنّ نسائمَ الصيفِ محمّلةٌ بكلِّ أنواعِ الروائحِ الغريبة، رَوائحُ نجحت في العيشِ والتمدُّد في الأثيرِ الصيداوي، منها فُوحُ جبلِ النفاياتِ
أحمدُ الأَسيرُ لم يَكن يُشبهُ أحدًا منكم، لذلك حارَبتُموه، في الشَّكلِ قبلَ المضمون. لذلك تَوَحَّدتُم في مِقصلته، ليَضيعَ دمُه بينَ القبائل. كُلُّكم تَشاركتم في مُحاربتِه، كُلُّكم سَجَّانوه اليوم. كما المُجدِّدينَ على رأسِ كُلِّ قرن، لم يُفهَمْ أحمدُ الأَسيرُ على بَساطةِ ما طَرَحَه. من الأقربينَ كما من الأبعدينَ الناظرينَ إلى “الظاهرة” الّتي ملأتِ الدنيا وشغلتِ الناسَ في غفلةٍ من الزمن.
إنَّهُم عِصابةٌ، بكُلِّ ما لِلكلمةِ مِن معنًى. عِصابةٌ مِن المُتسوِّلينَ والشَّحّاذينَ تَغزو شَوارِعَ صَيدا مُنذُ سَنَواتٍ، وتَتمدَّدُ وتَزيدُ، لِتُمارِسَ أنشِطَتَها المُزعِجَةَ على مَرأًى مِن الجَميع، ولا مَن يُحرِّكُ ساكنًا لِآفَةٍ باتَت تُؤثِّرُ على حَياةِ الصَّيداويّينَ ومَدينَتِهِم، وَآنَ لها أن تَنتَهي في قلب صيدا، عند تقاطع ساحة إيليا الحيوي وإشارة سبينس على الأوتوستراد الشرقي، تتكرّر يومياً مشاهد مؤلمة تحكي قصة ظاهرة اجتماعية معقّدة تفاقمت مع الأزمات الاقتصادية. هنا، حيث تتوقّف السيارات عند الإشارات الضوئية، يظهر جيش من المتسوّلين، معظمهم من الأطفال والقاصرين، يحاولون كسب لقمة العيش بطرق تثير القلق والاستياء معاً. ليست هذه مجرّد حالات فردية عفوية، بل ظاهرة منظّمة تقف خلفها شبكات تستغلّ براءة الأطفال وحاجة الأُسَر، في ظلّ غياب واضح للحلول الجذرية من قِبَل السلطات المعنية. فبينما يعاني المواطنون من إزعاج يومي يحدّ من حرية تنقّلهم، يدفع الأطفال المتسوّلون ثمناً أغلى بكثير: طفولتهم وكرامتهم وأحياناً سلامتهم الجسدية. عندما يصبح المرور كابوساً يومياً تحكي المواطنة ر.ج. عن تجربتها اليومية بنبرة تمزج بين الإحباط والخوف: “عندما أقترب من ساحة إيليا، أبادر إلى إقفال نوافذ السيارة خوفاً من إزعاج المتسوّلين الذين يحاولون فرض أنفسهم بتنظيف زجاج السيارة أو بيع ورق التنظيف، بطريقة غير لائقة”. هذه الشهادة تعكس واقعاً يعيشه آلاف المواطنين يومياً في مدينة صيدا، حيث تحوّلت عملية المرور العادية إلى تجربة مُرهِقة نفسياً. من جهته، يعلّق المواطن ح.ه. باستغراب واضح: “غريب أمر هذه الظاهرة المزعجة، لا أحد يهتمّ بإيجاد حلول لها من أجل تسهيل مرور السيارات في ساحة إيليا”. هذا التساؤل يطرحه العديد من سكّان المدينة الذين يشعرون بالعجز أمام استمرار هذه الظاهرة رغم الشكاوى المتكرّرة. لكن الأمر يتجاوز مجرّد الإزعاج ليصل إلى حدّ التهديد والعنف أحياناً. فقد شهدت المدينة حوادث متعدّدة، منها إطلاق النار على إحدى المتسوّلات عند إشارة سبينس، وحوادث صدم أخرى عند تقاطع إيليا، ما يؤكّد خطورة الوضع وحاجته إلى تدخّل عاجل. أرقام صادمة وحقيقة مؤلمة تشير الإحصائيات المحلّية إلى وجود أكثر من 120 متسوّلاً ومتسوّلة في مدينة صيدا، معظمهم من القاصرين والقاصرات. هذا الرقم، وإن بدا محدوداً مقارنة بالأرقام الوطنية، إلّا أنّه يكتسب أهمية خاصة عندما نعلم أنّ 90% من هؤلاء المتسوّلين ينتمون إلى مناطق محلّية في صيدا، تحديداً منطقة السكّة والبركسات، بينما يأتي 10% فقط من مناطق أخرى مثل العاقبية وخلدة. هذا التوزيع الجغرافي يكشف عن طبيعة محلّية للمشكلة، ما يجعل إمكانية إيجاد حلول لها أكثر واقعية من الناحية النظرية. فالمتسوّلون ليسوا غرباء عن المدينة، بل هم جزء من نسيجها الاجتماعي، ما يعني أنّ معالجة أوضاعهم تتطلّب تدخّلاً اجتماعياً واقتصادياً محلّياً أكثر من كونها مسألة أمنية بحتة. على المستوى الوطني، تشير التقارير إلى وجود أكثر من 1500 طفل متسوّل في لبنان، فيما تؤكّد إحصائيات أخرى أنّ أكثر من 3000 طفل يعيشون في الشوارع اللبنانية، علماً أنّ العدد الحقيقي قد يكون أكبر بثلاث مرّات. هذه الأرقام تضع مشكلة صيدا في سياق وطني أوسع، حيث تمثّل المدينة نموذجاً مصغّراً لأزمة اجتماعية تعصف بالبلاد. الطفولة تُسرَق على قارعة الطريق تروي إحدى الزميلات قصة مؤثّرة حدثت معها منذ سنوات، تكشف عن الوجه الأكثر قتامة لهذه الظاهرة: “أوقفت طفلة لا يتجاوز عمرها 12 عاماً، وسألتها عن سبب تسوّلها عند إشارة سبينس في صيدا”. الجواب كان صادماً في بساطته ووضوحه: “أهلي طلبوا مني ذلك، وأنّ عليّ تحصيل المال كي أعيش”. لكن الأمر لم يتوقّف عند هذا الحدّ. فعندما سُئِلت الطفلة عن المشكلات التي تواجهها خلال تواجدها في الشارع، كانت صريحة جداً إذ قالت: “تعرّضت مرّتين للتحرّش الجنسي وحاول أحدهم نقلي بالسيارة بعد تحرّشه، وعندما أخبرت أمّي ووالدي كان الصمت جوابهما الوحيد”. هذه الشهادة تكشف عن جريمة مضاعفة: استغلال الأطفال في التسوّل من جهة، وتعريضهم لمخاطر التحرّش والاعتداء من جهة أخرى، في ظلّ صمت أُسَري مريب يثير تساؤلات حول طبيعة الضغوط التي تُمارَس على هؤلاء الأطفال. فالطفلة لم تكن تتسوّل بدافع الحاجة الشخصية، بل تنفيذاً لأوامر عائلية، ما يشير إلى وجود منظومة استغلال منهجية. تشير الإحصائيات المحلّية إلى وجود أكثر من 120 متسوّلاً ومتسوّلة في صيدا، معظمهم من القاصرين والقاصرات. هذا الرقم، وإن بدا محدوداً، إلّا أنّه يكتسب أهمية خاصة عندما نعلم أنّ 90% من هؤلاء المتسوّلين ينتمون إلى مناطق محلّية في صيدا شبكات منظّمة تؤكّد مصادر متعدّدة وجود مشغّلين للمتسوّلين في صيدا، حيث يجري نقل بعضهم صباحاً إلى نقاط التسوّل ومتابعتهم من بعيد، فيما يأتي آخرون سيراً على الأقدام. هذا التنظيم يكشف عن طبيعة “مهنية” للظاهرة، حيث تتحوّل معاناة الأطفال إلى مصدر دخل لأطراف أخرى. يشير أحد المواطنين إلى أنّ القوى الأمنية اللبنانية على معرفة بمن يعمل كميسّرين لأمور التسوّل في منطقة صيدا، لكن هذه المعرفة لا تُترجَم إلى إجراءات عملية لوقف هذا النشاط. هذا الوضع يطرح تساؤلات حول طبيعة العلاقات التي تحمي هذه الشبكات وتمنع تفكيكها. الأمر الأكثر إثارة للقلق هو ما يشير إليه بعض المراقبين من وجود تغطية سياسية للجهات المشغّلة، ما يفسّر استمرار هذه الظاهرة رغم وضوحها وعلنيتها. فالتسوّل في صيدا ليس مجرّد ظاهرة اجتماعية عفوية، بل نشاط منظّم يحظى بحماية تمنع القضاء من اتّخاذ قرارات حاسمة بحقّ المسؤولين عنه. هذا التنظيم يتجلّى أيضاً في توزيع المتسوّلين على نقاط استراتيجية محدّدة، حيث تشهد ساحة إيليا وتقاطع سبينس أعلى كثافة، بينما تنتشر مجموعات أصغر في نقاط أخرى من المدينة. هذا التوزيع المدروس يؤكّد وجود تخطيط مسبق وإدارة محكمة لهذا النشاط. جهود متكرّرة وفشل مستمرّ لم تقف السلطات المحلّية مكتوفة الأيدي أمام هذه الظاهرة، فقد حاولت الشرطة البلدية في بلدية صيدا منع القاصرين والقاصرات من التسوّل مراراً وتكراراً. لكن هذه المحاولات اصطدمت بعقبة قانونية أساسية: الشرطة البلدية ليست ضابطة عدلية، أي غير قادرة على توقيفهم أو اتّخاذ خطوات عقابية بحقّهم، والقوى الأمنية المسؤولة ترفض استلامهم. هذا الوضع يكشف عن فجوة قانونية وإجرائية تسمح باستمرار الظاهرة رغم وجود القوانين التي تجرّمها. فبينما تملك البلدية الإرادة للتدخّل، تفتقر إلى الصلاحيات القانونية، وبينما تملك القوى الأمنية الصلاحيات، تفتقر إلى الإرادة أو التوجيهات للتدخّل الفعّال. من جهة أخرى، شهدت المدينة مبادرات فردية مهمّة، أبرزها مبادرة عضو المجلس البلدي السابق د. محمد حسيب البزري، الذي حاول منع المتسوّلين من التسوّل وتأمين مساعدات وفرص عمل بديلة. لكن هذه المبادرات، رغم نُبل أهدافها وجدّية القائمين عليها، باءت بالفشل أمام حجم المشكلة وتعقيداتها الاجتماعية والاقتصادية. الفشل المتكرّر لهذه المبادرات يطرح تساؤلات حول طبيعة الحلول المطلوبة. فالمشكلة لا تكمن في غياب الوعي أو الإرادة الفردية، بل في غياب استراتيجية شاملة تعالج الأسباب الجذرية للظاهرة وتوفّر بدائل حقيقية للمتسوّلين وعائلاتهم. قوانين موجودة لكن التطبيق غائب يتضمّن القانون اللبناني نصوصاً واضحة تجرّم التسوّل وتعاقب عليه. فالمادة 613 من قانون العقوبات تنصّ على معاقبة من يمتهن التسوّل بالحبس من ستة أشهر إلى