في مدارسِ صيدا الرسميّة، وعلى مَرأى ومَسمَع آلافِ الصيداويّين، يَظهر كتابُ التربيةِ الوطنيّةِ والتنشئةِ المدنيّة بأنّه من إعدادِ مُعلّمي المادّة في مدارس المهدي.هكذا، وبشكلٍ واضِحٍ ومطبوعٍ صراحةً على الغلاف، تُدرَّس التربيةُ الوطنيّة في مدارسِ الدولةِ الرسميّة من منظورٍ مذهبيٍّ صِرف، كما يَراه مُدرّسو مدرسةٍ تَعتنق فِكرًا طائفيًّا مُحدّدًا. وللمدرسةِ – طبعًا – كلُّ الحقِّ في منهجها داخل مؤسّساتها الخاصّة، لكن ليس لأحدٍ الحقُّ في فرضِه على تلاميذَ من مذاهِبَ أخرى، وفي مدارسِ لبنان الرسميّة، وفي مدينةٍ ذاتِ أغلبيّةٍ سُنّيّة. ويَبقى السُّؤال: مَنِ المسؤولُ عن هذا الأمر؟ ومَن مرَّرَهُ وأدخَلَهُ إلى مدارسِ صيدا؟ وكيف تكون مادّةٌ وطنيّة في مدارس رسميّة من صياغةِ مدارسَ ذاتِ مذهبٍ دينيٍّ مُحدَّد؟ فالمادة اسمها مادة التربية الوطنية…لا التربية المذهبية!
مع كلِّ جولةِ تصعيدٍ عسكري على الحدود الجنوبية مع العدوّ الإسرائيلي، يعودُ اسمُ جمعيةِ «القرض الحسن» إلى الواجهة. غير أنّ ما يجري اليوم يتجاوزُ استهدافَ مبانٍ أو مراكز، ليتحوّل إلى معركةٍ مفتوحةٍ على العصب المالي لحزب الله، وعلى مدّخراتِ عشراتِ آلافِ اللبنانيين الذين هربوا من المصارف التقليدية إلى هذه الجمعية منذ انفجارِ الأزمة عام 2019. مؤسسةٌ في مرمى النار تقدّم «القرض الحسن» نفسها كجمعيةٍ اجتماعيةٍ تعمل وفقَ مبدأ القرض الحسن من دون فوائد ربوية، عبر شبكةِ فروعٍ منتشرةٍ في الضاحية الجنوبية لبيروت والجنوب والبقاع. خلال سنوات الانهيار، توسّعت قاعدةُ المودعينَ والمقترضين لديها بشكلٍ كبير، بعد أن فقد الناسُ ثقتهم بالمصارف وعجزوا عن سحب ودائعهم بالدولار. جعل هذا التطوّر من الجمعية مركزَ ثقلٍ مالي حقيقي داخل بيئةٍ واسعة، وأكسبها دوراً يتجاوز تقديم قروض صغيرة إلى إدارةِ كتلٍ نقدية وودائع وذهبٍ مرهون، ما عزّز الاتهامات الأميركية بأنها أداةٌ مالية موازية تابعة لحزب الله تُستخدم لتمويل نشاطه والالتفاف على منظومة العقوبات. في الأسابيع الأخيرة، برز مساران متوازيان:المسار العسكري، حيث استهدفت إسرائيل عدداً من المراكز التي تقول إنها تابعة لـ«القرض الحسن» أو تُستخدم لتخزين الأموال والذهب العائد للحزب ومناصريه في أكثر من منطقة لبنانية. الرسالة واضحة: ضربُ الشبكة المالية الميدانية للحزب تماماً كما تُضرب مخازن السلاح ومراكز القيادة.وعلى المستوى الدبلوماسي، تتحدّث الأوساط السياسية عن أن وفداً أميركياً زار بيروت أخيراً طرح، بشكل مباشر أو غير مباشر، ملف «القرض الحسن» تحت عنوان “تجفيف مصادر تمويل حزب الله”، مع تسريباتٍ عن طلب إقفال الجمعية أو فرض قيود صارمة عليها. يأتي ذلك امتداداً لسلسلة عقوبات طالت المؤسسة ومسؤولين فيها وشركات مرتبطة بها خلال السنوات الماضية. بهذا المعنى، يجد «القرض الحسن» نفسه اليوم في قلب معركةٍ مزدوجة: قصفٍ من الجو، وضغوطٍ مالية وسياسية على الأرض. مدينة تستحق أن تكون مركزًا معرفيًا متطورًا.. تحوّلت إلى حي فقير رقميًا قصفٌ مالي في الخطابِ المحسوب على حزب الله وبيئته، يجري وصف هذه الضغوط بأنها “سَطوٌ أميركي” على أموال اللبنانيين ومحاولة لوضع اليد على مدّخراتهم تحت عنوان مكافحة تمويل الإرهاب.في المقابل، تردّ واشنطن بأن ما تفعله هو تطبيقٌ صارم لمنظومة العقوبات ومنع استخدام الأراضي والمؤسسات اللبنانية كمنصّة لتمويل تنظيم تعتبره الولايات المتحدة منظمةً إرهابية. بين هذين الخطابين المتناقضين، يضيع السؤال الأهم: هل الإجراءاتُ المقترحة تستهدف فعلاً حزب الله وحده، أم تمتدّ عملياً إلى جيوب الناس الذين وجدوا في «القرض الحسن» ملاذاً بعد سقوط المصارف التقليدية؟ إزاء هذا المشهد، تقف الدولة اللبنانية أمام اختبارٍ شديد الحساسية: فإما الاستجابةُ للضغوط الأميركية ولو جزئياً، بما قد يُترجَم بخطواتٍ قانونية أو مصرفية ضد الجمعية (ملاحقات، إقفال فروع، تضييق على التعاملات). هذا المسار يرضي واشنطن وربما يجنّب لبنان عقوبات إضافية على النظام المالي، لكنه يهدّد بصدامٍ سياسي وأمني مع حزب الله وبيئته الشعبية، ويعزّز شعوراً واسعاً بأن الدولة تستهدف «أموال الفقراء» وليس أموال الطبقة السياسية.وإما التجاهل والممانعة، وهو ما يعزّز موقعَ حزب الله داخلياً، لكنه يفتح الباب أمام مزيدٍ من العقوبات والعزلة، وربما إجراءات تطال مصارف ومؤسسات رسمية لبنانية بحجّة “التساهل مع تمويل الحزب”. في الحالتين، يبدو أن ثمن القرار ستدفعه مؤسساتُ الدولة الهشّة واقتصادُ البلد المنهك. المودعون والأسئلة الكبيرة منذ ما بعد 2019، قرّر كثيرٌ من اللبنانيين سحب ودائعهم من المصارف حين سنحت الفرصة، أو بيع جزءٍ منها في السوق، ثم نقلوا ما تبقّى من مدّخرات نقدية أو ذهبية إلى «القرض الحسن» أو خزّنوها في المنازل. بالنسبة لهؤلاء، القضية ليست شعاراتٍ سياسية، بل أسئلةٌ عملية جداً: ماذا لو تعرّضت الجمعيةُ لقرارات إقفال أو ملاحقة قضائية؟ ماذا لو تكرّرت الضرباتُ العسكرية على مراكز تخزين الأموال والذهب؟ كيف يمكن استرداد الحقوق في مؤسسة لا تخضع فعلياً لرقابة مصرف لبنان أو لقواعد الحوكمة والشفافية المعتمَدة نظرياً في القطاع المصرفي؟ النتيجة أن المودعين وجدوا أنفسهم، مرّة جديدة، أمام خطر خسارة مدّخراتهم؛ مرّة عبر الانهيار المصرفي، ومرّة عبر تحويل مؤسسة بديلة إلى هدفٍ في لعبة الأمم. «بنكُ الظل» الصورة في الداخل اللبناني تبدو منقسمة أيضاً. معارضو حزب الله يرون في «القرض الحسن» “بنكَ ظلّ” يتفلّت من القوانين والضرائب والرقابة، ويمنح الحزب أفضليةً هائلة في سوق المال والاقتصاد، ويشكّل منافسة غير متكافئة للمصارف المرخّصة.في المقابل، يعتبره مؤيّدوه شبكةَ أمانٍ اجتماعية قدّمت للناس قروضاً صغيرة ومتوسطة بلا فائدة أو بفوائد رمزية، وساعدتهم على شراء منازل أو تمويل مشاريع أو تغطية نفقات تعليم واستشفاء، في الوقت الذي أغلقت فيه المصارف أبوابها في وجوههم. يعكس هذا الانقسام الشرخَ الأعمق في البلد بين من يرى في الحزب ومؤسساته “دولةً داخل الدولة”، ومن يرى فيها تعويضاً عن دولةٍ غائبة أو منحازة. السيناريوهات المحتملة في ضوء الوقائع الحالية، يمكن رسم ثلاثة مسارات رئيسية لموضوع “القرض الحسن”: تشديدٌ تدريجي من دون إقفالتمضي الولايات المتحدة في سياسة العقوبات واستهداف الأفراد والشركات المتعاملة مع الجمعية، مع تشجيع الدولة على تضييق الخناق التنظيمي، دون الذهاب إلى قرار صدامي بإقفال تام. يبقى «القرض الحسن» يعمل، ولكن ضمن مناخ مخاطر أعلى وعزلة أكبر. مواجهةٌ مفتوحةإصرار أميركي على خطوات حاسمة يقابله رفض قاطع من حزب الله، ما يفتح الباب أمام اشتباكٍ سياسي وربما أمني داخلي، يضيف ملف «القرض الحسن» إلى قائمة أزمات الرئاسة والحكومة واللاجئين وغيرها. تسويةٌ رماديةمقايضة سياسية أوسع، تخفَّف فيها الضغوط المباشرة مقابل ضبط بعض تعاملات الجمعية أو الحدّ من توسّعها، بما يجنّب الجميع الانفجار الكامل. «القرض الحسن» اليوم ليس مجردَ جمعية مالية في مرمى العقوبات، بل مرآةٌ لأزمةٍ أعمق يعيشها لبنان: دولةٌ عاجزة، نظامٌ مصرفي منهار، سلاحٌ في قلب السياسة، وضغوطٌ خارجية تتعامل مع البلد كساحةِ تصفية حسابات. أمّا السؤال الأهم، الذي لم يُجَب عنه بعد، فهو: من سيحمي أموال اللبنانيين في هذه العاصفة، قبل أن تُمحى الحدود نهائياً بين عقابِ حزبٍ وسحقِ مجتمع؟
لطالما ظنّ الإنسانُ أنَّ الحظَّ نَفَسٌ غامضٌ تَهَبُه قوى خفيّة أو تَسحَبُه متى شاءت. لكن كلما تَوَغَّلَ العلمُ في أعماقِ الوعي، بدا أنَّ الحظَّ ليس مجرد رَميةِ نردٍ، بل إشارةٌ كونيةٌ تنتظرُ مَن يفهمُ لغتَها في مختبراتِ الفيزياء الحديثة، حين وُجِّهت أعينُ العلماءِ إلى جسيمٍ صغيرٍ يمرّ بين شقّين، غيّر مسارَه فورًا، كأنَّه خَجِلَ من أنْ يُرى. هكذا وُلد “تأثيرُ المُراقِب”، الدليلُ الأولُ على أنَّ الوعيَ ليس مُتفرِّجًا، بل مُمثِّلًا في مسرحِ الوجود. منذ تلك اللحظة، بدأ السؤالُ يتبدّل: هل نعيش في واقعٍ موضوعيٍّ صُلب؟ أم في حقلٍ من الاحتمالات يتّخذُ شكلَه وِفقَ ما نُؤمِنُ به ونَنتَبِهُ إليه؟ الإيمانُ كمعمارٍ خفي حين يقولُ أحدهم: “أنا محظوظ”، لا يتحدثُ عن معجزة، بل عن هندسة. دماغُه يُعيدُ ترتيبَ إدراكِه مثل خوارزميةٍ تبحثُ في الضجيجِ عن معنى. في مكانٍ ما خلف الجمجمة، يعمل نظامٌ عصبيٌّ دقيق، نظامُ التنشيطِ الشبكي، كعدسةٍ تختار ما يستحقُّ أن يُرى. هو لا يَخلُقُ الأحداث، لكنه يُوجِّهُ الضوءَ إليها. يشبه الإيمانُ بالحظ إعادةَ برمجةِ الوعي على تردّدٍ معيّن، كأنك تُضبِطُ موجةً إذاعيةً لا يسمعُها إلا مَن آمن بوجودِها. وفي تلك اللحظة، يُصبح العالمُ كريمًا، لا لأنه تغيّر، بل لأنك تغيّرتَ في رؤيتِه. الحظُّ ليس وعدًا من السماء، بل صدىً يصدُر عن الداخل ويعودُ في شكلِ فرصة الذكاءُ الاصطناعي… المرآةُ الجديدةُ للحظ في عوالمِ الذكاء الاصطناعي تتكرّر القصةُ نفسها. الخوارزميات لا “تعرِف” أكثر منا، لكنها تتعلم كيف ترى الأنماطَ المُخفية في العشوائية. إنّها تبحثُ عمّا يتكرّر، عمّا يَتناغم، تمامًا كما يفعل وعينا حين يُؤمن بأنَّ حدثًا ما “كان مُقدَّرًا له أن يحدث”. الذكاءُ الاصطناعي هو التجسيدُ الميكانيكيُّ لفكرةِ الحظ القديمة: مجموعةٌ من الحسابات الدقيقة التي تُحوِّل الفوضى إلى احتمالٍ مفهوم. وكما أنَّ الإنسانَ المحظوظ يرى في الصدفةِ فرصة، يرى الذكاءُ الاصطناعي في الضوضاءِ إشارة. في جامعةِ برينستون، ربط العلماءُ مُولِّداتِ أرقامٍ عشوائيةٍ بعقولِ أشخاصٍ طُلِبَ منهم التركيزُ على نِيّةٍ محددة. النتيجة: خرجت الأرقامُ عن العشوائية. مجردُ التفكير غيّر النتيجة.قد يبدو هذا ضربًا من السحر، لكنه أقربُ إلى الموسيقى: النيةُ نغمة، والمادةُ آلةٌ تستجيبُ للتردّدِ الصحيح. وحين يَتناغم الاثنان، يُولَد ما نُسميه “الحظ”. في أعماق الأمر، يبدو أنَّ الحظَّ والذكاءَ الاصطناعي يتحدثان اللغةَ نفسها: لغةَ الاختيار من بين ملايينِ الاحتمالات. لكن بينما يفعلُ الذكاءُ الاصطناعي ذلك عبر حساباتٍ ومعادلات، يفعله الوعي عبر الإيمان والنية والانتباه. الحظُّ ليس وعدًا من السماء، بل صدىً يصدُر عن الداخل ويعودُ في شكلِ فرصة. وكما تحتاجُ الخوارزميةُ إلى “بياناتٍ نظيفة” لتنتج نتائج دقيقة، يحتاجُ الوعي إلى نِيّةٍ نقيّة ليجذبَ تردُّدَه الصحيح. الحظُّ ليس عشوائية، ولا معجزة، ولا مصادفة، إنَّه لحظةُ توازنٍ بين العقلِ والكون، حيث تُصغي المادةُ إلى مَن يُؤمن أنّه قادرٌ على توجيهِها. في زمنِ الذكاء الاصطناعي، لم يَعُد الحظُّ امتيازًا روحيًا فحسب، بل فنًا إدراكيًا يمكنُ تعلُّمُه:فنّ اختيارِ الاحتمالِ الصائب وسط الضوضاء، فنّ جعلِ العالمِ يستجيب كما لو كان يُفكّر معنا. فالحظّ، في جوهره، ليس شيئًا نَملكُه، بل وعيًا نُدرّبه حتى يُصبح هو الذكاءَ الحقيقي… ذكاءً يصنعُ واقعَه كما تصنعُ الخوارزميةُ مُعجزتَها الرقمية.