لم يعد ما يعيشه أهالي الشرحبيل في ضواحي صيدا مجرد أزمة خدماتية عابرة، بل بات إنذارًا حقيقيًا يهدد حق الناس في أبسط مقومات حياتهم: الماء. منطقة تعاني أصلًا من طريق ضيقة من مكسر العبد حتى “مثلث الخنقة”، فإذا بها تستيقظ على مشكلة أكبر وأخطر، مع إعلان توقف الشركة التي تزوّد مضخات المياه بالتيار الكهربائي، ما يضع آلاف العائلات أمام ساعات معدودة قبل أن يجفّ آخر ما يصل إلى خزاناتها. وكأنّ العطش بات يزحف ببطء نحو البيوت، بلا رادع، وبلا مسؤول يتحمل تبعات هذا الانهيار المتكرر. وكان أهالي الشرحبيل قد ارتضوا دفع مبلغ 8 دولارات لصاحب شركة المولد الخاص لتشغيل المضخات خارج فاتورة الاشتراك الشهرية للبيوت، إلا أن البلدية — بناء لشكاوى يقال إنها وردت إلى مصلحة مياه صيدا والجنوب — طلبت من صاحب المولد عدم تحصيل هذا المبلغ، ما اضطره للتوقف عن تزويد مولدات المضخات بمادة المازوت، ما يعني حكمًا قطع المياه والاكتفاء بالساعات التي ستؤمنها المصلحة التي أخذت على عاتقها توفير المازوت للمضخات. كلام لا ثقة فيه، فتعاطي المصلحة لا يعول عليه، والتجارب خير دليل. ليس الموضوع هنا موضوع إبراهيم مزهر ولا موضوع سامر العربي، ولا مبادرات فادي الكيلاني وغيره من حلول فردية تسجل بين فترة وأخرى لمعالجة مشكلة أكثر من 20 ألف صيداوي يسكنون المنطقة. الموضوع مسؤولية مصلحة مياه صيدا والجنوب وتأمين خط الخدمات لهذه المنطقة وتزويده بالتيار الدائم، ونقطة على السطر. موضوع لا يجب السكوت عنه بعد الآن، ولا يجب التراخي مع المتحكمين بمصلحة المياه للتعامل باستخفاف مع الأمن المائي للناس كما درجت العادة مرارًا وتكرارًا مع الزيارات والوعود والكلام الفارغ. وعلى نواب المدينة وفعالياتها وقواها كافة التحرك الفوري، لأن الموضوع بات ممجوجًا، ويحتاج لحلول جذرية.
في مساءٍ كان يجب أن يكون خفيفًا، بسيطًا، عاديًا، كان عددٌ من تلاميذِ “الأونروا” يركضون خلف كرةِ القدم في ملعبٍ عامٍّ داخلَ مخيّمِ عينِ الحلوة. ملعبٌ لا يملك شيئًا من رفاهيةِ الملاعبِ الحديثة، لكنّه كان بالنسبةِ لهؤلاءِ الصبية مساحةَ حياةٍ، مساحةَ تنفّس، مساحةً يتذكّرُ فيها اللاجئُ أنّه طفلٌ قبل أن يكون ملفًّا سياسيًا. ثمّ وقعتِ الغارة. وتحوّل الملعبُ إلى حفرةٍ أعمقَ من الجرح. حفرةٌ كشفت أنّ التفويضَ الأمميّ، الذي امتدَّ للتوّ حتى منتصفِ عام 2029، لا يزال معلّقًا في الهواء، بينما الأطفال، الذين يُفترض أن يكونوا في صُلبِ هذا التفويض، معلّقون على حافةِ الخطر. أغلبُ الضحايا لم يبلغوا الثامنةَ عشرة. لكنّ “الأونروا”، المكلّفةُ قانونيًا بحمايتهم، لم تُصدرْ حتى اللحظة بيانًا واحدًا ينعى تلاميذها، أو يدين استهدافهم، أو يذكّر بحقوقهم الإنسانيّة الأساسية. المجزرةُ التي عَرَّت القانونَ الدوليّ من الناحيةِ القانونية، التفويضُ الممنوحُ لـ”الأونروا” يربطها بعددٍ من الالتزامات: حمايةُ القاصرين، تقديمُ الخدماتِ الأساسية، الدفاعُ عن حقوقِ اللاجئين، وتحمّلُ مسؤوليّةِ الإحالةِ الحقوقيّة في حال انتهاكِ سلامتهم. لكنّ ما حدثَ في عينِ الحلوة كشفَ فجوةً مخيفةً بين النصّ والواقع؛ أطفالٌ قُتلوا أثناء لعبِ كرةِ القدم، في ملعبٍ عامّ، ضمن منطقةٍ تعرف الوكالةُ هشاشتَها جيّدًا… ومع ذلك لم تتحرّك حتى على مستوى خطابٍ رسميّ. ليس هذا الغياب مجرّد “قصورٍ إعلاميّ”. إنّه إخفاقٌ قانونيّ، لأنّ الصمتَ في حالاتٍ كهذه يُعتبر انحرافًا عن المسؤوليّةِ الدوليةِ المُفوَّضة. والأخطر أنّه يخلق سابقةً: أن يموتَ طفلٌ لاجئ وهو تحت ولايةِ “الأونروا” دون أن يجد الوكيلُ الدوليّ مبرّرًا لتوثيقِ موته… أو لحمايته بعد رحيله. الأكثرُ إثارةً للدهشة أنّ المديرةَ العامة لـ”الأونروا” في لبنان لم تُقطَع زيارتُها إلى عمّان، ولم تُغيّر جدولَ ارتباطاتها، بل حضرت مأدبةَ عشاءٍ مع دبلوماسيّين عشيةَ المجزرة، وكأنّ المخيّم الذي تديره إدارتُها ليس جزءًا من مسؤوليّاتها المباشرة هشاشة الأونروا موتُ الأطفالِ في الملعب فعلٌ بلا احتمالاتٍ سياسيةٍ معقّدة: لم يكن هناك اشتباكاتٌ. لم يكن هناك مسلّحون. كان هناك كرة… ووجوهٌ تركض. لكنّ هذا المشهدَ البريءَ بالذات أظهر هشاشةَ “الأونروا”: انفصالها عن الميدان، افتقارها لمنظومةِ استجابة، غيابها عن مسؤوليّاتها الوقائيّة، وتردّدُها المزمن في ممارسةِ واجبها في “حمايةِ اللاجئ”، وهو الركنُ الذي بُنيت عليه الوكالةُ أصلًا. ما قيمةُ تجديدِ التفويضِ حتى 2029 إذا كانت الوكالةُ تتخلّى عن أبسطِ مظاهرِ الحماية — حتى حمايةِ الذاكرة؟ ولماذا يتجدّد التفويضُ لوكالةٍ لم تَعُد ترى الأطفالَ إلّا عندما يجلسون في الصفّ… وتغضّ النظر عندما يسقطون على أرضِ الملعب؟ مائدةٌ مُضاءَة وواقعٌ مُظلِم الأكثرُ إثارةً للدهشة أنّ المديرةَ العامة لـ”الأونروا” في لبنان لم تُقطَع زيارتُها إلى عمّان، ولم تُغيّر جدولَ ارتباطاتها، بل حضرت مأدبةَ عشاءٍ مع دبلوماسيّين عشيةَ المجزرة، وكأنّ المخيّم الذي تديره إدارتُها ليس جزءًا من مسؤوليّاتها المباشرة. بل خرجت، خلال الاجتماعاتِ نفسها، بموقفٍ يدعمُ مراجعةَ بلادِها للتمويلِ المخصّص لـ”الأونروا”، رغم حساسيّةِ اللحظة، ورغم إدراكها أنّ التمويلَ نفسَه هو صمّامُ الأمانِ الوحيد لبقاء الخدماتِ الأساسية. والأدهى أنّ هذه المراجعة ليست نابعةً من رؤيةٍ إصلاحيّة، بل من صراعٍ داخل المؤسسة مع المفوّضِ العامّ الحاليّ، الذي تطمحُ إلى أن تحلّ مكانه بعد انتهاء ولايته. وهكذا يصبح دمُ الأطفال — ولو رغمًا عن الجميع — عنصرًا في لعبةِ قوّةٍ داخلية: ضغطٌ سياسيّ، منافسةٌ على منصب، ومحاولةُ إعادةِ رسمِ النفوذِ داخل الوكالة. انهيارُ الحمايةِ وميلادُ صدعٍ أخلاقيّ المأساةُ هنا مزدوجة: سقوطُ الضحايا، وسقوطُ المؤسسة. فالوكالةُ التي أُسِّست لتكون مظلّةَ حمايةٍ باتت عاجزةً حتى عن إصدارِ بيانِ حماية. والوكالةُ التي خُصّص لها تفويضٌ دوليّ باتت تنظر إلى الأحداثِ الميدانية كأنّها أحداثٌ خارج نطاقِ عملها. والوكالةُ التي جُدّد لها العالمُ تفويضَها حتى 2029، تبدو اليوم وكأنها تحتاج إلى مراجعةٍ شاملة قبل أن تتسلّم عامًا إضافيًا واحدًا. إنّ صمتَ “الأونروا” أمام المجزرة ليس خطأً بروتوكوليًا.إنه فشلٌ في أداءِ جوهرِ وظيفتها.وهو فشلٌ يُلزِم المجتمعَ الدوليّ لا بزيادةِ الضغطِ على المخيّمات، بل بزيادةِ الضغط على الوكالة نفسها، حتى لا يتحوّل التفويضُ إلى مظلّةٍ بلا أعمدة. كان الأطفالُ يركضون خلف كرةٍ، لكنّ الكرةَ اصطدمت بالحقيقة قبل أن يصطدموا هم بالضربة: الحقيقةِ بأنّ الحمايةَ الدولية ليست في الملعب، والوكالةَ المكلّفة بها ليست في الميدان، والتفويضَ الذي يُمدَّد كل بضع سنوات لم يَعُد يتجاوز الورق. إذا كانت "الأونروا" غير قادرةٍ على حمايةِ طفلٍ أثناء لعبه، فكيف يمكن الوثوقُ بأنها قادرةٌ على حمايةِ مجتمعٍ كامل تحت القصفِ والفقرِ والتهجير؟ هنا يبرز السؤالُ الأكبر، السؤالُ الذي تخشاه الوكالةُ لكنّه أصبح حتميًا: هل بات اللاجئون بحاجةٍ إلى نظامِ حمايةٍ جديد… بعد أن أصبحت "الأونروا" خارج وظيفتها وخارج الملعب؟
لم يكن توقيفُ تاجرِ المخدّراتِ والمطلوبِ للعدالةِ نوحِ زعيتر حدثاً مفاجئاً بحدّ ذاتِه. الرّجلُ الذي ملأ الشاشاتِ ضجيجاً، وتجوّل لسنواتٍ بين الحدودِ والبلداتِ اللبنانيّةِ كأنّه فوقَ القانون، عاش طويلاً تحت مظلّةٍ سياسيّة–أمنيّة غيرِ مُعلَنَةٍ مكّنته من التحرّكِ بحريّةٍ شبهِ مطلقة. لكنّ ما يلفتُ اليوم ليس العمليّةَ الأمنيّةَ في حدّ ذاتِها، بل السياقَ السياسيَّ الذي سمح بحدوثِها. زعيتر لم يكن مجرّدَ مطلوبٍ فارٍّ من العدالة، بل نموذجاً مُكثَّفاً لِنَمَطٍ من «الاقتصادِ الموازي» الذي نشأ في السنواتِ الماضية في البيئةِ الحاضنةِ لحزبِ الله. اقتصادٌ قائمٌ على التهريب، السلاحِ المنفلت، وشبكاتِ النفوذِ المحليّ التي تتعايشُ مع الدولةِ أو تتخطّاها، وقد شكّل حضورُه الإعلاميُّ العلنيُّ تحدّياً مباشراً لهيبةِ الدولة، لكنّه كان أيضاً مؤشّراً إلى جرأةٍ محميّةٍ أكثرَ منه استعراضاً فرديّاً. السؤالُ الفعليُّ اليوم، والذي يطرحه اللبنانيّون بوضوحٍ غيرِ مسبوق: هل تخلّى حزبُ الله عن مظلّةِ الحمايةِ التي كان يوفّرها لزعيتر وأمثالِه؟ أم أنّ نفوذَ الحزبِ نفسَه بدأ يتراجعُ إلى الحدّ الذي لم يَعُد معه قادراً على حمايةِ مَن ارتبطوا به؟ تضحيةٌ محسوبةٌ وتراجعٌ لا إرادي تحليلُ المشهدِ يفتحُ احتمالينِ متناقضينِ يبدوانِ معاً قابلينِ للتصديق. الأوّل: تضحيةٌ محسوبة. فمنذ سنوات، يواجهُ حزبُ الله ضغوطاً متزايدة: عقوباتٍ ماليّة، تضييقاً سياسيّاً، انتقاداتٍ داخليّة من بيئتِه نفسِها، وانكشافاً غيرَ مسبوق بعد تورّطه في محاورَ إقليميّةٍ مُكلفة.في مثل هذا المناخ، قد يرى الحزبُ أنّ «تسليم» بعضِ الأسماءِ التي لطالما شكّلت عبئاً على صورتِه هو ثمنٌ قليلٌ لتحسين موقعِه التفاوضي داخليّاً وخارجيّاً، أو لإعادةِ ضبطِ المشهدِ الأمنيّ في مناطقه، أو لتوجيهِ رسالةٍ مفادُها أنّه لا يُغطّي الفسادَ والمخالفاتِ بلا ضوابط. الفرضيةُ الثانية تقول إنّ الحزبَ لم يَعُد يمتلكُ القدرةَ نفسَها على حمايةِ شبكةِ المصالحِ التي نشأت تحت جناحِه، ليس فقط بسبب الضغطِ الدوليّ بل أيضاً بسبب تغيّرِ البيئةِ المحليّة. فالتراجعُ الاقتصاديّ، والانقسامُ الاجتماعيّ، وضغطُ المؤسّساتِ الأمنيّةِ الرسميّةِ لاستعادةِ جزءٍ من دورِها، كلّها عواملُ قد تكون أضعفت قدرةَ الحزب على الاستمرارِ في توفيرِ تلك «المظلّة» التي صنعت نماذجَ كزعيتر. بمعنى آخر، قد لا يكون اعتقالُه قراراً بقدرِ ما هو نتيجةُ عجزٍ جديدٍ يَتكشّف تدريجياً. يبقى السؤالُ مفتوحاً: هل سيبني حزبُ الله استراتيجيّةً جديدةً تقوم على إعادةِ تطبيعِ علاقتِه مع الدولة، وتخفيفِ العبء الأمنيّ عن مناطقه؟ أم أنّ ما نشهده ليس قراراً بل تراجعاً قسريّاً ستظهر ملامحُه بشكلٍ أوضح في الأشهرِ المقبلة؟ دلالاتٌ تتجاوزُ الشخص الأمرُ المؤكّدُ أنّ توقيفَ زعيتر لا يُقرأ بوصفِه حدثاً جنائيّاً معزولاً، بل مؤشّراً على تحوّلٍ في التوازنِ بين الدولةِ وشبكاتِ النفوذِ غيرِ الرسميّة. فالدولةُ اللبنانيّة، رغم هشاشتِها، تُظهِر في بعضِ اللحظات قدرةً على إعادةِ فرضِ حضورِها، مستفيدةً من لحظاتِ الفراغِ أو الارتباكِ داخل القوى غيرِ الرسميّة. وفي المقابل، تبدو «البيئةُ الرماديّة» التي استفادت من حمايةٍ سياسيّة–أمنيّةٍ سابقة أقلّ تماسكاً ممّا كانت عليه. كما أنّ الرسالةَ وصلت إلى جمهورِ الحزبِ نفسِه: لم يَعُد بالإمكان ضمانُ الحمايةِ المطلقة. وهذا التحوّلُ وحده كفيلٌ بإعادةِ رسمِ خريطةِ السلوكياتِ داخل المناطقِ المرتبطةِ بالحزب، سواء في الاقتصادِ الموازي أو في إدارةِ النفوذِ المحليّ. ماذا بعد؟ يبقى السؤالُ مفتوحاً: هل سيبني حزبُ الله استراتيجيّةً جديدةً تقوم على إعادةِ تطبيعِ علاقتِه مع الدولة، وتخفيفِ العبء الأمنيّ عن مناطقه؟ أم أنّ ما نشهده ليس قراراً بل تراجعاً قسريّاً ستظهر ملامحُه بشكلٍ أوضح في الأشهرِ المقبلة؟ في الحالتين، يشير اعتقالُ نوحِ زعيتر إلى مناخٍ لبنانيٍّ جديد. مناخٍ تختبرُ فيه القوى التقليديّة حدودَ قوّتِها، فيما تحاول الدولةُ استعادةَ أجزاءٍ من سلطتِها المفقودة. وفي هذا المشهدِ الضبابيّ، قد لا يكون زعيتر سوى علامةٍ صغيرةٍ على تحوّلٍ أكبر بكثير، يتصل مباشرةً بسؤالٍ جوهريّ: مَن يحكم لبنان فعليّاً؟ ومن يملك حقَّ احتكارِ القوّة؟ حتى تتّضحَ الإجابة، سيظلُّ اعتقالُه ورقةَ اختبارٍ حقيقيّةً لمدى صمودِ الحزب أمام المتغيّرات، ولقدرةِ الدولة على تحويلِ فرصةٍ موضعيّةٍ إلى مسارٍ طويلِ الأمد.